مجلة الرسالة/العدد 657/القَصًصُ
→ البَريدُ الأدَبيّ | مجلة الرسالة - العدد 657 القَصًصُ [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 04 - 02 - 1946 |
من ذكريات الشباب
اجترار
للأستاذ حبيب الزحلاوي
(تتمة)
- 5 -
تلبس القصة الواقعية، في بعض الحين، ثياب الأسطورة الخرافية ونبذها في الغرابة، وكثيراً ما يحار العقل في تحليل وقائعها فينسبها إلى المصادفة والاتفاق، فإذا أعيته الحيل وعجز عن بلوغ الحقيقة المادية لجأ إلى القول بالقدرية والأسرار المجهولة، وأخيراً يعترف اعتراف المستسلم بالعناية الإلهية وهي قدرة فوق طاقة العقل الإنساني تحده عن إدراك الغاية الإلهية من صنع العجائب والخوارق والمعجزات
وحكايتي أيها الأصدقاء فيها الأعجوبة الخارقة، والأسطورة الخرافية الحية، والواقعية المادية
كنا عشرين رجلاً، منا الطبيب والجرّاح والمساعد والصيدلي فضلاً عن الأتباع، وكان عددهم يناهز الثمانين، وقد انتحينا ناحية في مؤخرة الجيش في ميدان القتال اتخذناها مستشفى للأعمال الجراحية والإسعافات الطبية، وكان كلما تقدم المحاربون من رجالنا تأتينا النقالات حاملة الجرحى فنضمد البسيط منها ونقطع الرأي في الأمور الخطيرة التي تتطلب السرعة
تقدم جنودنا تقدماً محسوساً أدركنا مداه من الدوي الذي كان يصل إلى أسماعنا مخنوقاً خافتاً حتى حسبنا أننا انقطعنا عن الجيش
لم نأبه لتقدم الجيش لأن حاملي المحفات لم يشكوا من طول الشقة الفاصلة بيننا وبينهم، وبينما نحن في مكاننا ذاك تستغرقنا أعمالنا إذا بالدوي قد عاد، وإذا بصفير الرصاص وقرقعة القنابل وجلبة القتال كأنها استردت نشاطها الحي، وأخذت المدافع تقصف وترعد وبدت كراتها تشق الفضاء وتمزقه تمزيقاً ولكنها كانت بجانب الاتجاه السوي لفت نظر زميل طبيب إلى تحول المعركة من الجبهة إلى جناح فأجابني إجابة تهكمية أسكتتني، كان زميلي المتهكم ذاك، سبط القوام، عريض الألواح، بديناً يحسن السخرية والتندر. لقد أحسن ذلك الزميل مبلغ ألمي من تهكمه فتقدم مني يلاطفني ويطيب خاطري
في تلك اللحظة سقطت قذيفة بالقرب منا، أقول سقطت، لأن العجاجة التي أثارتها، والرجال الذين تراكموا منا فانقلبوا على الأرض، والحصى والحجارة والأتربة وقد عقدت سحابة داكنة فوقنا، ثم تساقطت علينا جعلتني أرجح سقوطها بالقرب منا
ألقيت جسمي بين يدي زميلي الطبيب البدين فاحتضنني كما تحتضن الأم ولدها، ورأيتني أتشبث به كصبي مقرور أو مرعوب انفجرت القذيفة بعيدة عنا، ولم أكد أنحى وجهي عن صدر زميلي حتى رأيت محفات جرحانا تطير في الفضاء وأحسست بجسمينا تحملهما عاصفة شيطانية كأنها خرجت علينا بغتة من أودية الجحيم ففقدت الوعي!!
لست أدري كم كان عدد الساعات أو الدقائق التي رحت فيها في غيبوبة أحسبها تماثل راحة الموت. . . ولكني تنبهت على معالجة إخراج وجهي من حمأة كادت تكتم أنفاسي
الحمأة لزجة كريهة الرائحة، وجفوني مقفلة بإحكام. . . أجفلت من نفسي. . . حاولت التخلص مما أنا فيه لأتبين حالي على حقيقته فإذا ركبتاي لا تسعفانني بالنهوض وساعداي غريقان في بركة من دم ولحم
دم ولحم؟!! صورة مفزعة وثبت إلى ذهني فكدت أجن، أخذت أنزع يدي كأني ملسوع، رفعت أصابعي إلى جفوني. . . رفعت أصابع ملطخة تنقذ جفوناً ملطخة؟! حاولت مجتهداً الابتعاد عن بركة أنا الغريق فيها، لأني ما كدت أنقلب على ظهري حتى أحسست أني أتوسد أرضاً مرملة. . . استعنت بالرمل على تنظيف يدي فكانتا تتلطخان من جديد؟! هل هما مجروحتان؟ لا أحس ألم جراح ولكنني أشم رائحة الدم. . . عدت إلى أصابعي أمسحها بالرمل، وإلى أهداب جفوني أغسلها بلعابي، كنت حتى تلك الساعة أجهل أن الدم كريه الطعم كريه الرائحة، ولكن لامناص من إنقاذ جفوني من التصاق أهدابها حتى أرى على أي حال أنا وفي أي بقعة من الوجود أكون، وهل من وسيلة إلى تضميد جراحي؟ وهل هي تنزّ وتتفصد، ولم يجل في خاطري أني كنت ميتاً ولا في حالة قريبة من الموت بل كانت دوافع الحياة تدفعني إلى الكفاح للنجاة مما أنا فيه انفتح جانب من طرف إحدى عيني فاندفع النور فيها أو كأن النور انبثق من هذا الجانب!!! حاولت الجلوس فإذا بركبتي تشعرانني بألم محتمل، طأطأت رأسي وأخذت أفتح ثغرات أخرى في أهدابي
ها أنا ذا أرى الحياة من جديد!!
شمس ساطعة، وسماء صافية، وصحراء هادئة ساجية، كأن ليس عليها سواي أنا المهشم المجروح وهذه الجثة المهروسة التي كنت غريقاً فيها، جثة مهروسة حقاً أنا هرستها بجسمي فآويت إلى أحشائها أتقي الموت فحملت عبئه وحدها وأنقذتني، جثة إنسان ضخم الجسم غرقت فيها من شدة ضغط القنبلة المعادية ولم تكن غير جثة زميلي الطبيب المفراح المزّاح
في تلك اللحظة التي تبينت فيها جثة زميلي وتحققت أنه الميت وأنا الحي، في تلك اللحظة جمد ذهني، وركد تفكيري. . . كنت أنظر فلا أرى، وأعي فكأني لا أعي! كانت صورة جثة زميلي المهروسة ماثلة أمامي، أرى الأحشاء مندلقة بشكل تنفر منه العين وتتقزز منه النفس، وأشم رائحة نتنة هي رائحة الإنسان!!
لازمني ذهول مركز، كنت أرى فرق الجيش تمر بي من بعيد، وثاب اليّ رشدي ساعة أقبل رسل الإنسانية فحملوني على محفة إلى المستشفى.
ساد المجلس صمت. . . أما أنا، فلم أكد أهم بحكاية أخرى من وقائعي حتى شعرت كأن رفاقي يستمهلونني بل يستوقفونني وقال لي أذلقهم لساناً، عليك أنت أن تدون حكايتنا ولا عليك أن تبتدع لنا حكايات، يكفيك أنك ألهبت شعورنا الوطني وإحساسنا القومي بما كنت تكتب وتنشر على رغم أنه مقتبس أو مستمد من أرواح الزعماء، فالزعماء يا صاحبي أرواح لا يفهمها الشعب، وإن ميعاد عظمة الزعيم رهينة بلبس ثياب الأسطورة ليصير خرافة لا حقيقة، وفي مقدرته على إنارة هالة قدسية حوله تجعل الشعب يؤمن به، فهو في كل أمم الشرق مجموعة من شخوص متحركة يعرفها جيداً كل زعماء الشرق، يعرفونها جيداً لأنها شخوص مثلهم تتحرك بدوافع غير منظورة لا يراها الشعب ولا يعرفها. . . كلنا يا صاحبي ذلك المجتر، شعب وزعماء!
حبيب الزحلاوي