مجلة الرسالة/العدد 656/من ذكريات الشباب
→ القًصصُ | مجلة الرسالة - العدد 656 من ذكريات الشباب [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 28 - 01 - 1946 |
سقط بعض السطور من مقدمة القصة الثانية (اجترار)
المنشورة في العدد الماضي للأستاذ حبيب الزحلاوي فرأينا
إعادة نشرها.
(حكايتي أيها الأصدقاء تدور حول الأثر الذي تركته حوادث الجهاد الوطني في نفسي، لا حول أبلغ حادث حدث لي:
كنت أتوقع عندما عينت ضابطاً في الجيش أن ألقى مشاكسة من زملائي الفرنسيين وتعالياً على الضابط (العربي)، فوطدت النفس على التمسك بالكرامة مع السلاسة واللطف.
نجحت بعض النجاح في السير على منهاجي، وكنت أفشل في قطع ألسنة أولئك الضباط عن القدح في قومي وسب (السوريين القذرين)، ولاسيما حينما كانت تضمنا مائدة شراب، ولم يكن يند عنهم إلا ضابط من رتبتي كان يقف دائماً في وجه أولئك القادحين، فيصدهم عن المضي في طعن الأمة العربية إكراماً لي: (أنا زميلهم الضابط الكيس وللخلصاء الذين عرفناهم من السوريين). فكان أولئك الضابط الأجلاف ينحرفون عن الموضوع، ناسبين ذلك إلى ما يلاقون من الشعب من كراهية وبغض، وكان ذلك الضابط - نضر الله وجهه - يدافع عن حق السوريين، وينعت حكام قومه بالطيش والهوج في مد حكمهم وبسط سلطانهم على شعب لا تنقصه خصيصة من خصائص الاستقلال، ولا تحوجه الدراية بتحمل المسؤولية الاجتماعية، ولا الوعي القومي، فقد استمد مزاياه من تاريخه العربي ومن الانقلابات التي تأثر بها في مطلع هذا القرن، وكان يقول:
(لقد أيقضنا نحن الفرنسيين نفوس الشعب السوري ذاته بتلقينه في مدارسنا مبادئ ثورتنا للحرية والمساواة وتعاليمنا فن الحياة، وكان يساير زملاءه في الطعن على الدهماء في كل الأمم، لأنهم يتساوون والسوائم في إرضاء شهواتهم وتسكين معدهم، ولا فرق في طوائف العامة بين شرقي وغربي وبين ألوان وأجناس. وكان كلام ذلك الضابط الأريب يشجعني على إبراز فضائل قومي الأصلية والمكتسبة، وعلى إبداء الرأي أيضاً في الوسائل التي قد تقرب بين الحاكم والمحكوم) اشتعلت نار الثورة في جبل الدروز، وسرعان ما امتد ألسنتها إلى دمشق فمدينة حماه. جن جنون الفرنسيين، فأمر قائدهم الأرعن الأعلى بإطلاق المدافع تدك قذائفها أحياء دمشق، وأنطلق أجناد الجيش في (حماه) يمعنون في قتل الناس وإحراق بيوتهم ومزارعهم. كانت أخبار الثورة في كل ميدان تصلنا بالميعاد، عرفنا بما حل بحملة الجنرال (ميشو) وكيف مزقها أبطال الدروز شر تمزيق، وعرفنا أيضاً بفزع زهرة شبان دمشق من طلاب المدارس العليا يلتحقون بثوار الغوطة، وهكذا كانت أخبار إخواننا الثائرين في داخل البلاد من نساء ورجال، وأخبار رجال السياسة منا البعيدين عن مواطن الخطر تصلنا منبئة بقيامها كلها متساندة متضافرة تعمل لجعل هذه الثورة هي الأخيرة للخلاص التام من حكم الأجنبي المستعمر.
عملت ما في وسعي لأقنع الأجناد الوطنيين تحت إمرتي أن نهرب بسلاحنا وميرتنا للالتحاق بإخواننا المجاهدين لتحرير الوطن وقبل انبلاج الصبح كانت دوابنا المثقلة بالأحمال على بضعة كيلومترات من مرابط الثوار، والفضل في هربنا يعود إلى زملائي الضباط الذي أثقل (الحشيش) أدمغتهم تلك الليلة. . .
. . . في منتصف ليلة من الليالي، سرنا بطوائف منظمة من الثوار نقطع الطريق على حملة من الفرنسيين جاءت لتطويقنا من ناحية الشمال. بلغنا الموقع الذي قدرت أن الواقعة ستقع فيه، ووزعت رجالي توزيعاً يوهم العدو بكثرة عددنا، وأوصيت بعدم الإسراف في إطلاق الرصاص ليكون متواصلا، ووقف في مكان مرتفع مع بعض زملائي نرقب الموقعة ونديرها. لم أر ولم أسمع في حياتي عن موقعة التزم رجالها ضبط النفس والعمل بإقدام وشجاعة وحزم كتلك الموقعة التي كانت كأن الصخور والمتاريس وأكوام الحجارة، هي التي تصد قنابل المدافع، وهي هي التي تتفجر فتطلق النار فتصيب الهدف، وكأن رجالنا الأبطال ليسوا من لحم ودم، بل قدر محتوم ينزع أرواح المستعمرين الخ.
حبيب الزحلاويس