مجلة الرسالة/العدد 655/حق تقرير المصير للأهل ليبيا وبرقة
→ في الحرم | مجلة الرسالة - العدد 655 حق تقرير المصير للأهل ليبيا وبرقة [[مؤلف:|]] |
في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب ← |
بتاريخ: 21 - 01 - 1946 |
للأستاذ أحمد رمزي
في أحد شهور عام 1911، روع العالم الإسلامي والعربي، بخبر اعتداء صارخ، قامت به إيطاليا، على القطر الطرابلسي، بغير إعلان حرب وبدون مسوّغ، ولم يكن هناك نزاع أو ما يشبه النزاع، بل هناك أمن وسلام، ولم يعلم الناس بأمر مفاوضة انقطعت أو أمر اختلاف على مبدأ أو رأي أو قاعدة مما تختلف عليه الأمم والشعوب فيتخذ ذريعة للحرب، بل لم يسمعوا بشيء أو بعض الشيء مما يحضر الأذهان لمثل هذا العدوان، وينبه العقول لمقدمه.
وإنما سيرت إيطاليا بوارجها وجحافلها، واستيقظ أهل مدن طرابلس وبنغازي ودرنة الآمنة، على أصوات المدافع وجللها المتفجرة، تقذف عليهم الحمم والموت في عقر دارهم. فيا لله! عندئذ وجمت النفوس - كنا صغاراً لا نعقل من الأمر شيئا، ولكننا لمسنا الألم والأسى، مرتسمين على وجوه الآباء والأهل والعشيرة والجيران، فحزنت قلوبنا لحزنهم وتألمنا لألمهم.
كنا صغاراً نلعب ونلهو - فتركنا اللهو وقاطعنا اللعب، وشعر كل منا، بأن ساعة فاصلة في حياته قد دقت، نعم كان وقع الاعتداء شاملاً، وكان الجرح عميقاً ليس من الجراح التي تبرأ وتلتئم وتنسى مع الزمن.
وسرت بين الناس موجة دافعة، من تلك الموجات التي تملأ النفوس والمشاعر، وتخفق لها القلوب، لرد العدوان وارتجت مصر من أقصاها، فمن كتب عليهم القتال من المجاهدين قاتلوا وقتلوا، ومن لم يقدر على تحمله جاد بالمال عن نفسه وبنيه. وأتى المجاهد أنور ومعه حفنة ممن باعوا أنفسهم في سبيل الله، وصمدت عرب طرابلس وعرب برقة وعلى رأسهم السيد أحمد السنوسي، ليكتبوا بدمائهم ملحمة من ملاحم الملثمين والموحدين في دفاعهم وجهادهم واستماتتهم عن أرض أندلس، فواجهوا الموت وعاينوا الهزيمة، كما لاح لهم الظفر والمجد، وقاتلوا وانتصروا واستشهدوا، وامتلأت أيديهم بالعتاد والسلاح وأسرى العدو.
وانتهت الحرب بقيام حرب أشد هولاً، هي حرب البلقان، فخفتت أصوات المجاهدين، واتجهت الأنظار لمعارك في جبهة مقدونيا، وتسأل الناس عن المصير.
أما مقدونيا فرثاها شوقي بقوله:
يا أخت أندلس عليك سلام ... هوت الخلافة عنك والإسلام
وأما ليبيا وبرقة فقد استحوذ عليهما الطليان، ورتل قائل بشعر قديم فقال:
أحقاً خبا من جو رُندة نورها ... وقد كسفت بعد الشموس بدورها
وقد أظلمت أرجاؤها وتزلزلت ... منزلها ذات العلا وقصورها
أحقا خليلي أن رندة أقفرت ... وأزعج عنها أهلها وعشيرتها
وهدت مبانيها وثلت عروشها ... ودارت على قطب التفرق دورها
ترى للأسى أعلامها وهي خشع ... ومنبرها مستبعد وسريرها
ومأمومها ساهي الحجى وإمامها ... وزائرها في مأتم ومزورها
كلا لم تدم تلك المحنة، ولم تصبر على الضيم نفوس أبت إلا أن تعيش في ظلال الكرامة والعزة، وقامت الحرب العظمى الأولى سنة 1914، ودخلت إيطاليا الحرب، فارتجت البلاد، وغمرتها تكبيرة المجاهدين، والدعوة إلى الخلاص، وبدأت ملحمة جديدة من تلك الملاحم الخالدة في تاريخ العروبة، التي تقاتل فيها فئة كبيرة - فيأتيها النصر من عند الله.
لقد فرحت مصر وفرحنا بمعارك درنة، وعين زاره وغيرها، من التي منّ الله بها على المجاهدين والمرابطين وذوي البأس في قتال الطليان، وكان ذلك إبان الحرب التركية عامي 1911 - 1912. أما أيام الحرب العظمى فقد سار المجاهدون فيها من نصر إلى نصر، بل كان كل يوم يمر يأتي إليهم بنصر جديد من عند الله، ولم تمض 1915 إلا وقد زحزحوا الطليان عن برقة، واستعادوا فزّان، واقتحموا حصونهم ومعاقلهم واحداً بعد الآخر، واستحوذوا على أسلحتهم وسياراتهم وأسروا كتائبهم المرتزقة، من سود وحبش وغيرهم، وساقوا بأسلحة الطليان لقتال الطليان، وتلك والله مقدرة لأهل برقة وليبيا.
وتتبعوا المنهزمين وسدوا عليهم المنافذ والطرق، وفي يوم أصبحت العاصمة تحت أزيز رصاصهم، وغدا الساحل تحت سيطرتهم، فأتتهم المؤن والذخائر من حيث شاءوا.
فهل رأيتم دفعة كهذه الدفعة، أو قوة من المستضعفين يملؤها الأيمان والثقة في النفس والدعوة إلى الحق والقتال في سبيل الله، عملت في القرن العشرين عملاً يشبه هذا؟ إنها اليم الله وقفة رائعة. . .
وانتهت الحرب العظمى الأولى سنة 1918، وتدخل الإنجليز بين الطليان وأهالي البلاد فاعترفوا بنظام ليبيا ومسراطة وأقروا إمارة برقة، ووقعوا المعاهدتين وضمنوا استقلال الداخل، وخيل للناس أن عهداً من الطمأنينة والأمن قد أشرق، كان هذا وإيطاليا تلبس لباس الديمقراطية وقتئذ.
وفي يوم من أيام موسوليني، بعد أن اغتصب الحكم في بلاده، عبث الثعلب المستأسد بمواثيق بلاده وضماناتها وقيودها، وحنث بالأيمان المأخوذة، وأثار حرباً ضروساً مهلكة، يحاول بأساليبها إبادة شعب بأسره، كانت تعليماته وقراراته وأوامره واضحة لا شبهه فيها، فليراجعها من يشاء، يجدها في كتبهم وما نشره قوادهم.
أمامنا ما كتبه فولبي عن عهده، وما أذاعه جراتزياني، وما خطه بادوليو، فليقرأ كل من يشك فيما نكتب أو تحدثه نفسه أننا ننطق عن الهوى.
وكان أمامهم شعب أبي، يرغب أن يحيا حياته على النحو الذي يريده هو، لا كما يريد الغير أن يكون عليه، قد صمم أن يعيش بغير أن تفرض عليه سيادة روما وسياطها شعب يأنف أن تبسط عليه شخصية غريبة عنه، غير الشخصية المنبثقة من روحه وإيمانه وتاريخه وكتاب الله، أمة لا ترضى بلغتها وثقافتها بديلاً ولو أعطيت الكون بأكمله، وهي لا تتراجع أن تدفع العدوان لديها من شجاعة وصبر ومجالدة.
قابل هذا الشعب، صدمة الخيانة بشجاعة نادرة، رأى الحرب تفرض عليه في دياره، فواجهها كما يواجهها كل مقاتل كريم كتبت عليه التضحية فقدم بنيه وأحفاده، ضُيق عليه الخناق بحصار من البر والبحر، فتحمل وصبر، أوذي في نفسه ومعاشه وماله ودكت بيوته، ولكن لم ينزل على حكم ظالميه، ولا طوى مطلباً من مطالبه، ولا تراجع عن مبدأ من مبادئه.
واتبعت إيطاليا سياسة العنف والتشريد، فلم ترع شيخاً ولا مقعداً ولا طفلاً ولا رضيعاً، خربت المنازل وأفنت قبائل، وحولت بقاعاً عامرة فجعلتها صعيداً جرداً.
وفي تلك الحقبة المظلمة، والعالم لا يعرف شيئاً، عن مأساة أهل ليبيا وبرقة، ظهر عمر المختار، وكلنا قد سمع عنه، وعن عراكه وكفاحه وجهاده، فسألوا أنصاره ورجاله، ينبئوكم عن حوادث عشرين عاماً متتالية، والحرب سجال، يوم لك، ويوم عليك.
هذا هو الشعب الأبي الكريم الذي حررته الديمقراطية في الحرب الأخيرة، واتخذت من أسمه عنواناً ومثلاً لتحرير الشعوب المظلومة المغلوبة على أمرها. والذي جمعت من أفراده ورجاله المتطوعة، وحاربت بهم، وقالت للعالم هاأنذا قد أرجعت الحق لأهله، وأنقذت أول شعب وقع العدوان عليه، وأزلت أثر الظلم والطغيان عن عاتقيه.
وترقب أهل البلاد نعمة الخلاص، وباتوا يعلقون الآمال، فماذا يراد بهم اليوم؟ إننا لنسمع الكثير من اللغط. فمن قائل بعودة هذه الأرض البائسة إلى سادتها الطليان، ومن القائل سلموها للروس، وآخر يقول بانتداب الغير عليهم كأن هذه البلاد خلو من السكان.
أنه ليهمنا نحن معاشر الأمم العربية، شأن برقة وليبيا، ويهمنا شعب هذه البلاد. لماذا؟ لأننا منه وهو منا، إنها لصلات الدم والقربى والثقافة والتاريخ الحي، لا المتحجر الجامد، ثم ما يوحيه هذا التاريخ المشترك من ذكريات الجهاد والنصر والهزيمة.
إننا نعبر عن رأيه ونقول: هذا الشعب لا يريد شيئاً مستغرباً أو فوق متناول يد الإنسان، أنه يريد أن ينعم بحدوده وبلاده وموقعه الجغرافي واستقلاله وحريته - أي بتقرير مصيره - فهو يطلب كياناً تحت الشمس، كغيره من عباد الله، شأنه شأن بقية الشعوب الصغيرة.
فهل تجاب دعوته، وهل يحسب لتضحياته حساب، وهل يعترف بجهوده؟
أم ستعرض بلاده للبتر والتقسيم، ويوضع مصيره وحريته ليضارب بها في سوق توزيع مناطق النفوذ.
الله يشهد أن هذه الأرض فقيرة، وأن تجربة إسكان الأوربيين التي قامت بها إيطاليا لم تنجح، فهل يقنع هذا الأقطاب الثلاثة بإعادة الحق لذويه أم ترد إلى سيطرة إيطاليا أو وصايتها نيابة عن الأمم المتحدة؟
أظن أن المنطق الأولى يقول: إن الأمم العربية ومعها شعوب الأرض الحرة بأكملها، لن تقبل ولن تسلم بعودة شعب شهيد، قد ذاق مرارة الاضطهاد إلى سيطرة جلاديه.
ونحن وإن كنا لا نصدق هذا، ونجده بعيداً عن المثل العليا، التي أعلنتها الدول المتحدة، لا نر غضاضة على أنفسنا، أن نصارح الأمم التي تسيطر على الأرض ببعض الحقائق فنقول: إن حق أهالي هذه البلاد الشقيقة في تقرير مصيرهم لا ينازع وأن إقرار استقلال البلاد وإيجاد حكومة ديمقراطية، أمانة في يد الأمم المنتصرة، حسب وعودها المتكررة.
كان عدد سكان ليبيا وبرقة العرب في مستهل عام 1910 أكثر من مليون نسمة، وقد هبط هذا العدد إلى أقل من النصف، على أثر سياسة التشريد التي اتبعتها الحكومة الفاشستية فكان هذا الشعب قد بذل من الأنفس والأرواح دفاعاً عن كيانه واستقلاله ما لم يبذله الشعب الإيطالي طوال قرن من الزمن ثمناً لتحريره. فهل رأيتم شعباً يضحي بنصف عدده في سبيل مثله العليا؟
هذا هو الشعب العربي في ليبيا وبرقه.
أحمد رمزي
القنصل العام السابق بسوريا ولبنان