مجلة الرسالة/العدد 654/حكومة النساء لدى الخلفاء من بني العباس
→ في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب | مجلة الرسالة - العدد 654 حكومة النساء لدى الخلفاء من بني العباس [[مؤلف:|]] |
من محاسن التشريع الإسلامي ← |
بتاريخ: 14 - 01 - 1946 |
للأستاذ صلاح الدين المنجد
يقول (دوفيل) في كتابه عن الإمبراطورة (جوز فين)، إن من النساء من أوتين الميل إلى الحكم والرغبة فيه، رغم ما فيه من مشاق ومصاعب، لأنهن لا يرين في شيء من الأشياء مستحيلا. فتلك ظاهرة في طبعهن وغريزتهن. فهن يرغبن في الإحاطة بكل شيء علماً، وعرفان ما تحته وما فوقه، ليتممن النقص الذي فيهن. فهن يحكمن على عشاقهن؛ فإذا أخطأهن ما أملن، حكمن على أزواجهن وأولادهن ثم تعدين ذلك إلى حكم صواحبهن، فإذا وجدن المجال ذا سعة، وكن ممن يلوذ بالملوك والأمراء والوزراء، سولت لهن أنفسهن أن يحكمن الرعية ويدبرن أمورها.
أما حكمهن العشاق، فأمر لا ريب فيه، فهن في أغلب الأحايين، عابثات بالقلوب، لاعبات بالألباب. أما حكمهن الأزواج فأمر كثير الوقوع، وندر أن تجد امرأة لا تحكم زوجها. ولكن حكمهن العباد، وتصرفهن في الأمور، وتدبيرهن الملك قد تبدو مستحيلة لا تقع، بعيدة لا تنال. على أن لجاجة النساء لا توصف وإلحاحهن لا يدرك، ثم هن لا يعرفن المستحيل. وفي التاريخ الإسلامي ألوان من البرهانات، تدل على حكمهن. وسأسوق الأدلة من بدء العصر العباسي، إلى منتصف القرن الرابع الهجري.
وقبل أن أبدأ، أذكر أن الجاحظ قد لاحظ بعض هذا، فقال: (إنه لم يزل للملوك إماء يختلفن في الحوائج ويدخلن في الدواوين، ونساء يجلسن للناس) فيذللن ما صعب وينلن ما بعد. على أن سلطانهن، كان على قدر مبلغ سحرهن ونفوذ أثرهن، وتملكهن قلوب الخلفاء. وواضح أن تحكمهن يكون على قدر ضعف الخليفة ورقة عقله، وانقياده. ولذلك تجد أن بعضهم تركوا لهن الأمر كله، وأن بعضهم سايروهن مرة، وغاضبوهن مرة، وآخرون لم يحفلوا بهن أبداً.
فالسفاح، ابتعد عن النساء، فلم يرغب فيهن لملذاته بله استشاراته. وحاول خالد بن صفوان أنه يثير شهواته مرة بذكر الجواري وأو صافهن ليغريه بشرائهن، فلم يفلح. وكان يقول: العجب ممن يترك أن يزداد علماً، ويختار أن يزداد جهلا. فسئل: ما تأويل ذلك؟ قال: تترك مجالسة مثلك ومثل أصحابك ويدخل إلى امرأة فلا يزال يسمع سخفاً ويروي نقصاً.
على أن المنصور كان ألين منه، وأندى سمعاً للنساء. فقد تزوج ابنة منصور الحميرية، فشرطت عليه أن لا يتزوج ولا يتسرى إلا عن أمرها، ففعل. ولم يتعد سلطانها زوجها.
وبدأ سلطان المرأة يقوى مذ تولى المهدي الخلافة، وتزوج الخيزران. فقد كان لها سلطان على القصر، والندماء والحجاب والأطباء، تقرّب منهم من تشاء وتبعد من تشاء. ولقد أخذت مرة في مناكدة بختيشوع بن جورجيس الطبيب ومضاربته، وأثرت في المهدي، فلم ير بداً من إعادته إلى جند يسابور.
فلما ولي الخلافة الهادي زاد نفوذ الخيزران وتدخلها في شؤون الدولة. وقد كان الهادي يتناول المسكر، ويلعب ويلهو، ويركب حماراً فارهاً، ولا يقيم للخلافة أبهة ولا عظمة؛ فلا عجب ممن كان هذا شأنه إن وكل أمور الدولة كلها إلى أمه الخيزران. فقد كان كثير الطاعة لها يجيبها فيما تسأل من الحوائج. فكانت المواكب لا تخلو من بابها. وبلغ الأمر بها أن استولت على زمام الأمور. واستيقظ الهادي من غفوته أو غفلته، ورأى أن أمور الدولة بين يدي أمه. فكلمته ذات يوم في أمر، فلم يجد إلى إجابتها سبيلا فاعتل بعلة، فقالت لابد من إجابتي. قال لا أفعل. قالت: إذاً لا أسألك حاجة أبداً. قال إذاً والله لا أبالي، ولئن بلغني أنه وقف ببابك أحد من قوادي أو أحد من خاصتي أو خدمي لأضربن عنقه، ولأقبضن ماله، فمن شاء فليلزم ذلك). ثم أخذ يعنفها ويؤنبها ويقول لها: (ما هذه المواكب التي تغدو إلى بابك كل يوم؟ أما لك مغزل يشغلك أو مصحف يذكرك أو بيت يصونك، إياك إياك أن تفتحي فاك في حاجة لمسلم ولا ذمي).
وكانت الخيزران من ذوات الأثرة. وهذا النوع من النساء لا يبالي بما يفعل في سبيل إرضاء الأثرة والأنانية وبسط النفوذ. ولقد كانت ترغب في الأمر والنهي والحكم. فوقف الهادي - بعد أن اتسع الخرق - ليسترد سلطانه. فلما ضايقها الأمر، وآنست من ابنها معارضة وقوة، وآلمها أن يذهب سلطانها، وترد المواكب عن بابها، أرادت أن تنتقم منه، فدست إليه جواري من جواريها، غطين وجهه وجلسن فوقه، فقتلنه. كل ذلك ليعود الأمر إليها وحدها كما كان. وقد تم لها ما أرادت وتدفقت عليها الأموال، حتى بلغت غلتها قبيل موتها مائة ألف ألف، وستين ألف درهم. وقد قدر أحدهم أن هذا المبلغ يعادل نصف خراج المملكة العباسية آنئذ وثلثبي غلة رو كفلر في أوائل هذا القرن.
فلما ولي هارون الخلافة كانت الخيزران هي الناظرة في الأمور، وكان يحي بن خالد يعرض عليها ويصدر عن رأيها. وكان الرشيد لا يعصي لها أمراً. وقد ذكر الطبري أن الرشيد لما عاد من دفنها، دعا الفضل بن الربيع وقال له: وحق المهدي، إني لأهم لك من الليل بالشيء من التولية وغيرها، فتمنعني أمي، فأطيع أمرها.
أما بعد مقتل البرامكة فقد استبد الرشيد برأيه، حتى إن ظئره أم جعفر - وكانت قد أرضعته وربته - دخلت عليه أيام النكبة، فتلقاها وأكب على تقبيل رأسها ومواضع ثدييها. فقالت يا أمير المؤمنين: أيعدو علينا الزمان ويجفونا، خوفاً لك، الأعوان، وقد ربيتك في حجري وأخذت برضاعك الأمان من عدوي ودهري. . . ثم أخذت تستشفعه في يحيى والفضل، فلم يسمع لها ولم يرق لكلامها.
ولم يكن لزبيدة من الأمر، زمن الرشيد ما كان للخيزران وإن كانت هي أيضاً ذات سلطان. وكانت تهب وتصل وتعطي وتستشفع، ولكنها ما كانت لتتدخل في شؤون الدولة. ولعل ذلك راجع إلى البرامكة الذين استولوا على الأمور كلها.
وفي الحقبة الممتدة بين خلافة المأمون والمعتضد، نلاحظ تدخل القيان من مسمعات ومغنيات وشو اعر في أمور الدولة. ونلاحظ عظيم سطوتهن عند الخلفاء. فكن يستشفعن ويقربن ويولين ويبعدن. وإن كان بعض هذا قد حدث زمن الرشيد أيضاً. فقد كان كلفاً بذات الخال فحلف لها يوماً أن لا تسأله شياً إلا قضاه، فسألته أن يولِّي رجلا يحبها، الحرب والخراج بفارس سبع سنين، ففعل ذلك وكتب عهده به وشرط على ولي العهد بعده أن يتمها له إن لم تتم في حياته. ولعله أجابها إلى ما سألت ليخلو له الجو. . .
ويذكر الأصبهاني أن إبراهيم بن المدبر، لما سجن، سألت عريب - وما أدراك ما عريب! - الخليفة في إخراجه، فوعدها بما تحب، ثم أطلقه.
وكانت القيان ذوات السلطان، يتعصبن لطائفة سياسية، ويشايعن مذهباً، ويقضين حوائج أهله عند أولي الأمر. وقد ذكر أبن المعتز أن فضلا الشاعرة - وكانت في نهاية الجمال والكمال والفصاحة وجودة الشعر - كانت تتشيع، وتتعصب لهذه العصابة من الناس، وتقضي حوائجهم بجاهها ومنزلتها عند الملوك والأشراف.
وغضب الواثق مرة على إسحاق الموصلي، فرضته عليه فريدة جاريته، وكانت فريدة أثيرة عند الواثق حظية لديه.
وإذا تتبعنا أخبار هؤلاء النساء والقيان، نجد أنهن، حوالي سنة 300هـ، أصبحن ذوات سلطان كبير. ويذهب آدم متز إلى أنهن كن يطالبن بالحق في المهام الكبيرة - وما أشبه الليلة بالبارحة - لأن أبن بسام الشاعر يقول:
ما للنساء وللكتا ... به والعمالة والخطابة
هذا لنا، ولهن منا ... أن يبتن. . .
على أن القرن الرابع قد أمتاز بالقهرمانات؛ فقد كان لهن الأمر كله، وكن يعملن الأعمال الكبار؛ يعزلن الوزراء ويولين الولاة، ويجلسن للمظالم. وقد ذهبن إلى أبعد من هذا وذاك، فكن يقضين بين الناس. فأم موسى القهرمانة هي التي أوصلت أبا الحسين بن أبي البغل إلى الوزارة، فكان لا يخرج عن أمرها وكانت تجلس أخاً لها عند القصر، فيلقاه الناس وأصحاب الحوائج فيأخذ رقاعهم وشكاواهم وقصصهم إليها.
وهي التي أغرت المقتدر بالله والسيدة أمه، بعلي بن عيسى بن داو ود في وزارته (سنة 304) فقبض عليه وأودع السجن.
وهي التي كانت تزيد في أرزاق الخدم وتنقص منها.
والسبب في تدخل هؤلاء القهرمانات في أمور الدولة، ضعف المقتدر. فقد كان مشهوراً بالتدبر بآراء النساء. وكانت السيدة والدته وخاطف، ودستنبويه، أم ولد المعتضد، يدبرن الأمر لصغره. ثم ظل تدخلهن جارياً. وهكذا انتقلت الحكومة في أيامه، في بغداد، من الرجال إلى النساء.
وفي سنة (306هـ)، صار الأمر والنهي لحرم الخليفة - المقتدر دائماً - ولنسائه. وآل الأمر إلى أن أمرت أم المقتدر قهرمانة لها تعرف (بمثل) أن تجلس للمظالم بالتربة التي بنتها بالرصافة، وأن تنظر في رقاع الناس كل جمعة، فكانت تجلس وتحضر القضاة والأعيان وتبرز التواقيع وعليها خطها.
وقبضت أم المقتدر على زمام الأمر. وامتد سلطانها على كل شيء حتى إنها كانت تراقب - لحذرها - ما كان يقرأه أبناؤها. وقد ذكر الصولي انه كان يوماً عند الراضي يقرأ عليه شيئاً من شعر بشار، وبين يدي الراضي كتب لغة وكتب أخبار، إذ جاء خدم من خدم السيدة جدته، وهي شغب أم المقتدر، فأخذوا جميع ما بين أيديهما من الكتب، فجعلوه في منديل أبيض كان معهم ومضوا. فاغتاظ الراضي. فسكن منه أستاذه، وأفهمه أنهم أردوا أن يمتحنوا الكتب. ولما مضت ساعتان أو نحو ذلك ردوا الكتب بحالها، فقال لهم الراضي: قولوا لمن أمركم بهذا: قد رأيت هذه الكتب، وإنما هي حديث وفقه وشعر ولغة وأخبار وكتب العلماء. وليست من كتبكم التي تبالغون فيها مثل عجائب البحر، وحديث سندباد، والسنور والفأر.
وظل المقتدر على عرش الخلافة زهاء خمسة وعشرين عاماً، والنساء من حوله يحكمن.
ومن الطرافة أن نذكر هنا أن المعتضد كان قد تنبأ لابنه المقتدر بأن النساء سيستولين عليه. حدث صافي الحرمي مولي المعتضد قال: مشيت يوماً بين يدي المعتضد، وهو يريد دور الحرم فلما بلغ باب (شفـ) أم المقتدر، وقف يتسمع ويتطلع من خلل الستر فإذا هو بالمقتدر، وله إذ ذاك خمس سنين أو نحوها وهو جالس، وحواليه مقدار عشر وصائف من أقرانه في السن، وبين يديه طبق فيه عنقود عنب في وقت لا يوجد فيه العنب، والصبي يأكل عنبة واحدة ثم يطعم الوصائف كلهن على الدور، حتى إذا بلغ الدور إليه أكل عنبة واحدة، حتى فني العنقود، والمعتضد يتميز غيظاً. فاهتم ورجع، فسألته فقال: والله يا صافي لولا النار والعار لقتلت هذا الصبي اليوم، فإن في قتله صلاحاً للأمة. فقلت يا مولاي حاشاه، أي شيء عمله؟ أعيذك بالله من اللعين إبليس. فقال ويحك، أنا أبصر بما أقول. أنا رجل قد سست الأمور وأصلحت الدنيا بعد فساد شديد، ولا بد من موتي، وأعلم أن الناس بعدي لا يختارون غير ولدي، وسيجلسون ابني علياً (يعني المكتفي)، وما أظن عمره يطول للعلة التي به (يعني الخنازير التي كانت في حلقه) فيتلف عن قريب، ولا يرى الناس إخراجها عن ولدي، فلا يجدون بعده أكبر من جعفر (يعني المقتدر) فيجلسونه وهو صبي، وله من الطبع في السخاء هذا الذي رأيت فتحتوي عليه النساء لقرب عهده بهن، ويقسم ما جمعه من الأموال كما قسم العنب.
وكانت الصورة كما قال المعتضد بعينها.
وفي عهد المقتدر اشتد سلطان امرأة أخرى يقال لها (زيدان) وكان لها طبيب خاص بها، هو عيسى البغدادي، يحمل الرقاع بين الوزراء وربما حملها إليها لتعرض ذلك على الخليفة.
وقد استطاعت زيدان هذه أن تتمكن من جواهر المقتدر وأن تأخذ سبحة لم ير مثلها، كان يضرب بها المثل، فيقال سبحة زيدان. وكانت قيمتها ثلاثمائة ألف دينار. واستطاعت أن تجعل دارها سجناً. فقد سجن عندها علي بن عيسى بن داود بعد وزارته، ومن قبله وكل بابن الفرات عندها، كما سلم إليها الأمر الحسين بن حمدان أيضاً
وثمة خليفة آخر لعبت به النساء، هو المستكفي. فقد كان عبداً لحسن الشيرازية. وكانت هذه قد سفرت بينه وبين توزون القائد التركي، واستطاعت أن يكون خليفة، وتولت أيضاً سمل المتقي بيد غلامها السندي.
وأصبحت بعد ذلك تستبد بالمستكفي، وتتولى عرض الغلمان والحجاب في قصر الخليفة، في مجلس يقال له الحوذان. فانخرقت الهيبة بهذه المرأة، وذهبت الرسوم التي كانت للخلافة، وصارت الدار طريقاً لكل من يراها.
ويتضح من هذا، ما كان عليه خلفاء بني العباس، حتى منتصف القرن الرابع، وما كان من أثر النساء فيهم، وما أدى إليه تدخلهن في الأمور، من انخراق الهيبة، وضياع الأمور، وانتشار الفوضى. وهذه نتائج طبيعية محتومة لمن يولي أمره امرأة ويدعها تفعل ما تشاء.
(دمشق)
صلاح الدين المنجد