الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 652/في الأدب الإنكليزي

مجلة الرسالة/العدد 652/في الأدب الإنكليزي

بتاريخ: 31 - 12 - 1945


ماثيو أرنولد

بقلم الأستاذ خيري حماد

- 3 -

وقد كتب عنه فتش قائلا (لقد نظر نحو المجتمع الإنكليزي فرأى الأغنياء يسعون في جمع المادة وكنزها فيقومون بمختلف الأعمال للحصول على هذه الأمنية ورأى الطبقة المتوسطة تتدانى فتصبح مبتذلة محتقرة، والطبقة العامة تنحط فتصبح بمستوى الوحوش والحيوانات).

وكانت الطبقة الوسطى موضع حملاته ومسقط إهانته وازدرائه وقد أطلق عليهم الفلسطينيين خفضاً من شأنهم وإنزالا من أمرهم. وقد وصفهم:

(هم محصورو التفكير، تطغي عليهم روح التحامل والتفرض فيهملون أمور الدين والعقائد ويتمسكون بأفكار تدل على صغر عقولهم وضآلة قوة التمييز فيهم. فلا يستهويهم الجمال بذلك الشعور القوي المندفع؛ بل يحسون احساسات خالية من المنطق وحسن التمييز. أخلاقهم منحطة وعواطفهم مبتذلة).

ولم تكن هذه الأفكار صادرة عن قلة اختبار أو عدم حنكة؛ كان مبعثها التجربة فلقد اختط أرنولد لنفسه خطة جعلته يختلط بهذه الطبقة ويمتزج بها امتزاجاً ساعده على تفهم عقليتها. فالفلسفتين في رأيه هو ذلك الرجل الذي لا يستطيع أن يفهم الآداب ولا يستسيغها ذوقه فهو يتظاهر باطلاعه على معظم الأمور بينما هو في الحقيقة على جانب عظيم من الجهل لا يشغله إلا حضور حفلات الشاي وسمر الأصدقاء والخلان.

إن هذا التحليل الفلسفي الذي نراه في كتابات أرنولد لأخلاق شعبه لعلى جانب عظيم من الصحة والصدق، ولكن هذه الدراسة وهذا التحليل لم يكونا في يوم ما تامين؛ فهو لم يفهم حقيقة الطبقة الوسطى وأهميتها في المجتمع البشري، ناهيك عن جهله لديانتهم وعقائدهم، فقد نسي أو تناسى أنهم مصدر الحياة وينبوع في النشاط في كيان الأمة، فدولاب الأعمال في أيديهم وحركة التجارة والصناعة لا تخرج عن دائرتهم.

كان أرنولد يمقت لقب البروفسور ولقب الفيلسوف ولكنه في الحقيقة كان فيلسوفاً بأتم ما يقدمه هذا الاسم من معان وصفات. وهذه الفلسفة التي نراها في مؤلفاته هي فلسفة ابتداعية ابتكرها من نفسه ولم ينقلها عن سابقيه كبار الفلاسفة أمثال ابيقور وسقراط وغيرهما؛ فقد أحب دراسة تاريخ الأديان، واطلع على أسس الديانة المسيحية وعقائد اليهودية الجديدة وحاول أن يمزج هذه العقائد ببعضها فيخرج لشعبه فلسفة دينية جديدة ويكون لهم فكراً حديثاً عن حقيقة الأديان وغاياتها.

وفي كتابه: (الثقافة والفوضى) نرى عقائده الفلسفية ظاهرة تمام الظهور ونظامه الفلسفي واضحاً أتم الوضوح؛ فالثقافة في رأيه هي التطور في سبيل الكمال، وتفهم كل ما يحيط بنا من حقائق وظواهر طبيعية وغير طبيعية مما يؤثر في كياننا الشخصي والعلمي. وما هي في الحقيقة إلا الإطلاع على أحسن ما فكر به العلماء والعقلاء من رجالات الأمم ونابهي أمرها. وفي هذا الكتاب نراها يسجل عقيدته المحبوبة التي أطلق عليها لقب (العذوبة والضوء)

وقد اقتبس أرنولد هذا التعبير من الكتاب الشهير جوناثان سوفت ولكنه اختلف عن سوفت بكونه عني به شيئاً يخالف تمام المخالفة ما عناه سوفت من قبل، فقد جعله اسماً لشيء أرقى وأسمى بكثير مما عناه سآلفه. فالثقافة تشمل نوعين يكمل أحدهما الآخر وهما المعرفة والطبع. وما النتيجة المتوخاة منهما إلا إنفاذ أمر الله وتحقيق إرادته مصحوبين بتحكيم العقل، وسعة الإدراك.

وكان للثقافة في رأيه أوجه عدة، فلم تكن لتختصر في الإحساس العلمي بل تتعداه إلى الميل الغريزي نحو العمل والمساعدة والسعي إلى ما فيه الخير العام. وكل هذه الأوجه مفيد ونافع من حيث أنه ينطوي على الرغبة في إزالة الهفوات البشرية وفي تنقية صفحة المجتمع بإزالة آثار التعاسة والبؤس منه. وما هي في الحقيقة إلا السعي في ترك العالم ومغادرته أكثر سعادة وأعظم شأناً من الحالة التي وجدناه فيها عند بداءة أمرنا.

ولم تكن الثقافة في نظره يوماً ما وليدة حب الاستطلاع والفضول بل حب الكمال وعدم النقصان. فما هي إلا دراسة الفرد لأحوال مجتمعه، ومحاولة سد كل نقص يجد، وفيه تندفع في طريقها تحفزها المعرفة ويقودها الشعور الأخلاقي الاجتماعي للسعي إلى ما فيه خير الناس والإنسانية.

ومعظم أفكاره الفلسفية تتلخص في الفقرة التالية التي كتبها (الثقافة تتطلع إلى مرمى أبعد مما يتطلع إليه الإنسان العادي. فهي تكره الحقد ويدفعها شعور عظيم واحد هو شعور الجمال والضياء. وهنالك دافع أشد من هذا وأقوى، هو تنفيذهما وإحداث أثر ظاهر في الكيان الإنساني. وهي لا تنفك دائبة على العمل حتى ننتهي من إصلاح أنفسنا وتكيفها بشكل تام كامل. وإن تطور بعض الناس الأخلاقي الناتج عن تأثير (العذوبة والضياء) لغير كاف ما لم يسد هذا الشعور جميع طبقات المجتمع فيحدث الأثر المتوخي والنتيجة المقصودة).

ونرى أرنولد دائم الحض للناس على العمل لإظهار الأفكار الحقيقية والجمال الطبيعي، والعذوبة الغريزية والضوء الفطري. وأن من الواجب على الأفراد المستنيرين تغذية عقول الشعب وتثقيفهم الثقافة الضرورية. وما عظام الرجال في رأيه إلا أولئك الذين يستطيعون توزيع المعرفة والأفكار السامية على عقول أبناء جلدتهم وبني وطنهم من شتى الطبقات ومختلف الرتب والمناصب والذين جربوا بكل قواهم أن يرهف والثقافة الخشنة الصعبة المراس فيجعلوا منها أداة سامية، أداة عاملة لرفع مستوى التفكير والمعرفة الإنسانيين، ولخلق (العذوبة والضوء) اللذين يتوخاهما العالم ويحتاج إليهما.

لقد حاولنا في الفقرات السالفة أن نجمع بعض الأفكار التي أدرجها أرنولد في مؤلفاته ونحللها تحليلا فلسفياً معقولاً. ولقد يتراءى لنا أن فلسفته كلها تنحصر في هذه العقائد التي ذكرتها مع أنها في الحقيقة تكون قسما أعظم وأكثر اتساعا. وقد فضلت أن أبحث في فلسفته الدينية بحثاً خاصاً، فأرجأت تحليلها إلى الصفحات التالية.

(يتبع)

خيري حماد