الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 651/القضايا الكبرى في الإسلام

مجلة الرسالة/العدد 651/القضايا الكبرى في الإسلام

مجلة الرسالة - العدد 651
القضايا الكبرى في الإسلام
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 24 - 12 - 1945


قتل بني قريظة

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

من المهم في عصرنا أن ندرس واقعة قتل بني قريظة درساً قضائياً، ليعلم الناس أن ما ارتكبه بنو قريظة يدخل في باب الخيانة العظمى للوطن، ويندرج في أشد أنواعها جناية، وأعظمها جرماً، وأن ما قضى به الإسلام من القتل في ذلك هو ما تقضي به شرائع العالم كلها. لا فرق في ذلك بين الشرائع القديمة والحديثة، ولا بين الشرائع السماوية والوضعية، وأن هذا الحكم هو حكم الإسلام في كل من يرتكب هذه الجناية، لا فرق في ذلك بين مسلم ويهودي ونصراني.

كان أهل المدينة ينقسمون قبل الإسلام إلى قسمين: أولهما من العرب اليمانية الذين هاجروا من اليمن بعد حادثة سيل العرم، وهم الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة العنقاء بن عمرو مزيقياء، وثانيهما من اليهود، وكانوا ثلاثة بطون: بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة. وقد لبث الأوس والخزرج مع اليهود حيناً من الدهر يحيون الأرض الموات أو يزرعونها وهم في عسر شديد، وكان اليهود أرباب الأموال، فحدث نزاع وشجار بينهم وبين الأوس والخزرج، وقد انتهى ذلك بتغلب الأوس والخزرج على اليهود. ثم حدثت حروب بين الأوس والخزرج حالف فيها بنو النضير وبنو قريظة الأوس، وحالف بنو قينقاع الخزرج، ولم يكن اليهود فيما بينهم بأقل ظلماً وبغياً من العرب، بل كان بنو النضير يتعززون على بني قريظة مع أنهم كانوا في حلف واحد، فلم يكن بنو قريظة يساوون بني النضير في الحكم، ومن ذلك أن دية القتيل من بني قريظة كانت نصف دية القتيل من بني النضير، فكانت الدية من وسوق التمر لبني النضير أربعين ومائة وسق، وكانت لبني قريظة سبعين وسقاً.

فلما دخل الإسلام المدينة قضى على تلك الحروب والفروق، وسوى في حكمه بين أبناء ذلك الوطن، ولم يجعل فرقاً في حكمه بين المسلمين واليهود، ولا بين بطون اليهود الثلاثة، وقد شكا بنو قريظة إلى النبي ﷺ ما كان بينهم وبين بني النضير من الدماء قبل الإسلام، فأنصفهم منهم، وحكم بأن دم القرظي وفاء من دم النضيري، فكان بنو قريظة أكثر انتفاعا بحكم المساواة الذي جاء به الإسلام، وكان جميل الإسلام عليهم أكثر من جميله على غيرهم.

وقد جمع الإسلام بين أبناء هذا الوطن من المسلمين واليهود بمعاهدة حفظت لكل فريق منهم حقه فيه، ولم تجعل لما بينهم من الخلاف في الدين أثراً في التفرقة بينهم، وقضت على كل فريق أن يقوم بالدفاع عن الفريق الآخر إذا قصده عدو، كما قضت عليهم جميعاً بحق الذب عن هذا الوطن إذا قصده فريق من الناس بأذى.

ولكن اليهود لم يلبثوا أن تنكروا لحق هذا الوطن عليهم، ولجميل الإسلام الذي بدلهم من الخوف أمناً، ومن الحرب والفوضى والاضطراب سلاماً ونظاماً واستقراراً، فأخذوا يكيدون للمسلمين، ويعملون على إيقاع الفتنة بين الأوس والخزرج، ليعودوا إلى ما كانوا عليه قبل الإسلام ممن الحرب والخصام. ولما ضاق النبي ﷺ بدسائسهم أجلى بني قينقاع في السنة الثانية من الهجرة، فذهبوا إلى أذرعات بالشام، ثم أجلى بني النضير في السنة الرابع من الهجرة، فنزل بعضهم بخبير، ونزل بعضهم بأذرعات.

ثم جاءت نوبة بني قريظة في السنة الخامسة من الهجرة، فكان جرمها أشد، وكانت خيانتها لذلك الوطن أعظم، لأنها جاوزت تدبير الفتن الداخلية إلى ارتكاب الخيانة العظمى، وهي الانضمام إلى أعداء هذا الوطن وقت مهاجمتهم له، فلم يكتفوا بترك الواجب عليهم من الدفاع عنه مع المسلمين، بل انقلبوا عليهم مع أعدائهم من المشركين.

فإنه في السنة الخامسة من الهجرة ذهب جمع من بني النضير إلى مكة فقابلوا رؤساء قريش، وحرضوهم على قتال المسلمين، فقالوا لهم: يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه، وفي ذلك نزل قوله تعالى في الآية 51 من سورة النساء (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجِبْتِ والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا). .

ثم جمعوا جيشاً عظيما من العرب واليهود يبلغ أكثر من عشرة آلاف، وقصدوا المدينة بهذا الجمع الذي لا طاقة لها به، فلم يجد المسلمون إلا أن يحفروا حولها خندقاً ليساعدهم على الدفاع عنها، وقد استعاروا من بني قريظة آلات كثيرة من المساحي وغيرها، فاستعانوا بها في حفره.

فلما بلغ جيش المشركين واليهود المدينة وجدوا حولها هذا الخندق، فضربوا حولها حصاراً شديدا، كان حي بني أخطب سيد بني النضير قد وعد قريشاً إذا أجابته أن يحمل بني قريظة على نقض عهد المسلمين، فطلب منه أبو سفيان بن حرب قائد جيش المشركين أن يقوم بوعده، فذهب إلى كعب بن أسد سيد بني قريظة وقال له: ويحك يا كعب! جئتك بعز الدهر، وببحرٍ طام. جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من دومة، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذَنبِ نقمى إلى جانب أُحد، قد عاهدوني وعاقدوني على ألا يبرحوا حتى نستأصل محمداً ومن معه.

فقال له كعب: جئني والله بذل الدهر، وبجهام قد هراق ماءه، فهو يرعد ويبرق ليس فيه شئ. ويحك يا حيي، فدعني وما أنا عليه، فأني لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء.

وهذه شهادة لها قيمتها من كعب سيد بني قريظة على أن النبي ﷺ كان محافظاً على عهده مع اليهود، ولم يحدث منه خروج عليه؛ ولكن حيي بن أخطب لم يزل بكعب حتى حمله على نقض ذلك العهد، بعد أن عاهده على أنه إن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمداً أن يدخل معه في حصنه حتى يصيبه ما يصيبه.

فانضم كعب بذلك إلى أعداء وطنه، ونسي هو وقومه جميل الإسلام عليهم، وأنهم كانوا أذلاء في هذا الوطن فرفعهم الإسلام وأعزهم. وقد وقع المسلمون بذلك في أكبر محنة، وزاد في محنتهم أن المنافقين من الأوس والخزرج رفعوا أيضاً رؤوسهم، وأخذوا يتفلتون من صفوف القتال إلى بيوتهم بأعذار واهية، ليُفتوا في عضد المسلمين، ويحملوهم على الفرار مثلهم، ولولا أن تدارك الله المسلمين بلطفه لقضت عليهم تلك الخيانة الآثمة، وتمكن أعداؤهم من استئصالهم، فقد قابل النبي ﷺ والمخلصون من المسلمين تلك الصدمة بشجاعة فائقة، وهدى الله بعض زعماء المشركين إلى الإسلام، فأمره النبي ﷺ أن يكتم إسلامه عنهم، ويعمل على تفريق كلمتهم، فعمل على ذلك حتى أوقع الخلف بينهم. وما هي إلا ليلة مظلمة أرسل الله فيها ريحاً شديدة باردة، فجعلت تكفأ قدورهم، وتطرح آنيتهم، فوقع في قلوبهم الرعب، وأجمعوا أمرهم على الرحيل قبل أن يصبح الصباح، ويتنبه لذلك المسلمون.

وهنالك وقع بنو قريظة في شر ما فعلوا، وصاروا وحدهم أمام المسلمين الذين نقضوا عهدهم، فاجتمعوا بحصونهم وأغلقوها عليهم، وحاصرهم المسلمون فيها خمساً وعشرين ليلة، حتى ادركهم اليأس، وطلبوا أن ينزلوا على ما نزل عليه بنو النضير من الجلاء بالأموال وترك السلاح، فلم يقبل النبي ﷺ ذلك منهم، فطلبوا أن يجلوا بأنفسهم فلم يرض أيضاً، بل قال لرسلهم: لابد من النزول والرضا بما يحكم عليهم خيراً كان أو شراً. فلما رأوا أنه لابد لهم من النزول على حكمه فعلوا، فأمر برجالهم فكُتِفُوا.

ثم جاء وقت النظر في قضيتهم، فقام بالدفاع عنهم رجال من حلفائهم من الأوس، وطلبوا من النبي ﷺ أن يعاملهم كما عامل بني قينقاع حلفاء إخوانهم الخزرج، فلم يمكنهم أن ينكروا جنايتهم، ولكنهم طلبوا تخفيف الحكم عليهم، وقد فاتهم أن جناية بني قريظة ليست كجناية بني قينقاع، حتى يصح قياسهم، ويكون الحكم في الجنايتين واحداً.

لقد كانت جناية بني قينقاع محاولة الدس والتفريق بين المسلمين، فكان عقابهم أن ينفوا من بينهم اتقاء لشرهم، أما جناية بني قريظة فارتكاب الخيانة العظمى مع إخوانهم في الوطن، بالانضمام إلى الأعداء الذين يريدون استئصالهم والقضاء عليهم، فخانوا بذلك وطنهم أكبر خيانة، بل خانوا دينهم حينما آثروا أن ينضموا إلى المشركين على المسلمين، مع أن المسلمين أهل توحيد مثلهم، فهم بذلك ينصرون الشرك على التوحيد، ويساعدون الكفر على الإيمان، وهذا هو ما أشار إليه القرآن الكريم في الآيتين - 80، 81 - من سورة المائدة (ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون، ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي) أي موسى عليه السلام (ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون).

فلا يمكن بعد هذا كله أن تكون عقوبة بني قريظة كما طلب أولئك الذين تولوا الدفاع عنهم من رجال الأوس، ولكن النبي ﷺ رأى من السياسة ألا يتولى هو الحكم عليهم، فقال لمن تولى الدفاع عنهم من حلفائهم: ألا يرضيكم أن يحكم عليهم رجل منكم. فقالوا: نعم. فأباح لهم أن يختاروا من يشاءون منهم للحكم عليهم، فاختاروا سيد الأوس سعد بن معاذ.

وكان سعد جريحاً من سهم أصيب به في غزوة الخندق، وقد أقام بخيمة في المسجد مُعَدَّة لمعالجة الجرحى، فأرسل النبي ﷺ من يأتي به، فحملوه على حماره إلى مجلس الحكم، وقد التف به جماعة من الأوس يقولون له: أحسن في مواليك، ألا ترى ما فعل ابن أُبيِّ في مواليه. يعنون ما فعله عبد الله بن أبي رئيس المنافقين مع بني قينقاع، فقال لهم سعد: لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم. ولما أقبل على النبي ﷺ قال: قوموا إلى سيدكم فأنزلوه. فقاموا فأنزلوه وقالوا له: إن رسول الله قد ولاَّك أمر مواليك لتحكم فيهم. وقال له النبي ﷺ: احكم فيهم يا سعد.

فالتفت سعد إلى الجهة التي ليس فيها النبي ﷺ وقال: عليكم عهد الله وميثاقه أن الحكم كما حكمت. فقالوا: نعم.

ثم التفت إلى الجهة التي فيها النبي ﷺ وقال: وعلى من هنا كذلك. وهو غاضُّ طرفه إجلالا للنبي ﷺ، فقالوا: نعم. فقال سعد: فإني أحكم أن تقتل الرجال وتسبى النساء والذرية. فقال النبي ﷺ: لقد حكمت فيهم بحكم الله يا سعد. ثم أمر بتنفيذ الحكم فيهم، فخرج إلى سوق المدينة فخندق فيها خنادق ضرب أعناقهم فيها ثم طمرهها عليهم، وكانوا نحو ستمائة رجل.

وهذا الحكم هو ما تقضي به كل الشرائع القديمة والحديثة فيمن يخون وطنه ويحارب قومه مع أعدائه، وهذه الجريمة من الخطورة بمكان عظيم في كل تلك الشرائع، فلا تأخذها رأفة بمن يرتكبها، بل تأخذه بأقصى ما يكون من العقوبة، وهو عقوبة القتل. وقد كان بنو قريظة يريدون استئصال المسلمين بمساعدة أولئك المشركين، فليجازوا قتلا بقتل، واستئصالا باستئصال. وقد جازاهم الإسلام بذلك كما يجازي كل من يرتكب مثل ما ارتكبوا ولو لم يكن يهودياً، لأنه لا يعرف في حكمه فرقاً بين مسلم ويهودي ونصراني، ولا ينظر في تشريعه إلا إلى الجناية في ذاتها، فيعطيها حكمها بقطع النظر عمن يرتكبها.

والنبي ﷺ لم ينظر إلى رجال بني قريظة في ذلك كأسرى حرب، لأنه لم يفعل مع الأسرى في حروبه ما فعله معهم، وإنما نظر إليهم كمجرمين خانوا وطنهم، وانضموا إلى أعدائه في محاربته، فأجرى عليهم حكم وطنهم في هذه الخيانة، وكان أمرهم عنده أشد من أمر أسرى الحرب، لأن المحاربين يساقون بعدواتهم إلى حرب أعدائهم، وأما الخائنون لأوطانهم وعهودهم فلا عذر لهم في خيانتهم، ولا يستحقون من الرأفة ما يستحقه أسرى الحرب ونحوهم.

وقد كان في إمكان النبي ﷺ أن يعفو عنهم ويجيبهم إلى طلب الجلاء كما فعل مع بني النضير، وكما عفا عن حاطب بن أبي بلتعة في تجسسه لقريش، ولكنه لو أجلاهم لعادوا إليه محاربين مع جموع العرب واليهود كما حصل في غزوة الخندق، وأوقعوا المسلمين في محنة أشد من محنتها، ولا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين

عبد المتعال الصعيدي