مجلة الرسالة/العدد 651/القصص
→ الَبريدُ الأدبيّ | مجلة الرسالة - العدد 651 القصص [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 24 - 12 - 1945 |
من قصص الصين
الدمع. . .
للكاتب الصيني الكبير (به - شاو - كين)
ترجمة عبد الله ما - جي - كو
بحث رجل عن شئ أضاعه الناس في جميع بقاع الأرض التي تضيئها أنوار الشمس والقمر والنجوم، وجهد في البحث عنه تحت جذور الحشائش وفي الترع الناضبة وفي تراب الشوارع وفي كل جزء من الهواء الذي يأتيه، ولكن لم يجده في كل هذه، فتنفس تنفسا أبعد عمقا وأكثر حزنا من تنفس الغابة الكثيفة وقال، (أين الشيء الذي أريده؟ أين الشيء الذي أريده؟)
وجاء (الرجل المتفائل) وسأله قائلاً: (لماذا تبحث تحت جذور الحشائش، هل ضاع منك اللؤلؤ؟ ولماذا تبحث في الترع هل ضاع منك الزئبق؟ ولماذا تبحث في التراب، هل ضاع منك الدم؟ ولماذا تبحث في الهواء، هل ضاعت منك الرائحة الطيبة؟)
فهز الرجل رأسه وزفر قائلا: (كلا، لم تضع مني هذه الأشياء)
فرد عليه الرجل المتفائل: (أنت أحمق إذن، فان الإنسان لا يبحث هذا البحث المرهق ألا عن هذه الأشياء القيمة، وأرى أنه يجب عليك أن لا تتعب نفسك وتهلكها لأجل شئ لا قيمة له). قال المتفائل هذه الكلمات وقد ملأت الابتسامة وجهه وارتفع لحم خديه وتجعد الجلد الذي حول عينيه تجعدا عميقا، كما هي صفته التي تعودها كلما تكلم مع الناس.
وأجابه الرجل قائلا: (إن الشيء الذي أبحث عنه أهم من الأشياء التي ذكرتها، وإني قد بحثت عنه كل يوم وفي كل مكان فلم أجده! إني أبحث عن الدمع).
ولما سمع الرجل المتفائل كلامه فتح فمه - كأنه غار عميق - ورفع رأسه إلى السماء يقهقه بلا انقطاع، وقال بعد حين: (الدمع! وهل للدمع أتعبت نفسك وجهدت في البحث عنه؟ إني لا تدمع عيناي دمعة واحدة ولا أعرف أين منبع الدمع من جسم الإنسان، وإنما رأيت بعض الحمقى تنزل الدموع من عيونهم، وسأخبرك عن الأمكنة التي تنزل دموعهم فيها:
(أذهب إلى المحطات والمرافئ تجد هناك رجالا ونساء كأن قلوبهم قد ربط بعضها ببعض لا يضيعون لحظة من الزمن وإنما يتحادثون فيها ولو بتكلف، وإذا لم يتمكنوا من الكلام غابوا في أحلام هناك كأن البرهة تساوي زمنا طويلا لا نهاية له، وتر هناك أيضاً الأيدي في الأيدي، والأذرع بالأكتاف، والأفواه بالأفواه كأنها مشدودة ملتصقة لما تنفك بعد، فإذا اتفق أن تصفر الباخرة أو القاطرة، انقطعت المحادثات، واستيقظ الحالمون، وانفكت الأيدي والأذرع المشدودة وسالت الدموع من عيونهم سيلان الماء من الينبوع، وإني أرى هذه المناظر حقيرة مضحكة ولكن إذا ذهبت إلى هناك جدت الدمع بدون تعب ولا مشقة) وأجاب الرجل قائلا (لا أريد هذه الدموع، لأنها دموع الحب والغرام، وإنها كثيرة جداً يسهل على أن أجدها كنت أريدها لذهبت إلى المحطات والمرافئ منذ زمن).
وقال الرجل المتفائل: (إذ لم ترد هذه الدموع، فاذهب إلى أحجار الأمهات أو إلى المهاد تجد فيها أطفالا راقدين تعجبك وجوههم الحمراء الجميلة وشعورهم الصفراء الخفيفة وعيونهم السوداء المنيرة وتدعوك إلى رحمتهم والعطف عليهم، وتراهم يبكون فجأة بكاء شديدا ثم يقطعون البكاء بدون تكلف، ولا تكون دموعهم أكثر من دموع الرجال والنساء المذكورين، ولكنني أظن أنها تكفيك وتقنع أملك، فاذهب إلى هناك).
فأجاب الرجل قائلا: (لا أريد هذه الدموع أيضاً لآنها دموع الطفولة وهي موجودة في كل بيت يسهل على أن أجدها، ولو كنت أريدها لذهبت إلى أحجار الأمهات أو إلى المهاد باحثا فيها) قال الرجل المتفائل: (إذا أنت لم ترد هذه الدموع فاذهب إلى الملاهي ودور التمثيل تر على مسارحها رجالا ونساء يمثلون أحيانا روايات محزنة خيالية كأنها حقيقية ويقومون بأدوار مضحكة ومناظر محتقرة كموت زوج المرأة أو مصرع قائد الجيش، للدفاع عن بلاده أو حب الفتى والفتاة وتعذر اجتماعها أو غير ذلك وإذا مثلوا الرواية ووصلوا إلى أشد الأمور حزنا وأغمها بكوا بكاء شديدا ونز لت الدموع من عيونهم، ولا يهمنا أن تكون الرواية حقيقية أو كاذبة فع لى كل حال هم يبكون وستجد في عيونهم الدموع، فاذهب إلى الملاهي وابحث عن الدموع في مسارحها) فأجاب الرجل قائلا: (لا أريد هذه الدموع كذلك، لأنها دموع خيالية كاذبة ووجودهم لا اعتبار له في العالم، فلماذا أذهب إلى الملاهي؟) ولم يستطع الرجل المتفائل أن يزيد على تلك الدموع المذكورة فنظر إلى الرجل فاتحاً عينيه، وبعد برهة سأله قائلا: (إذن، أي دمع تريد؟ لاني أعتقد أنه لا توجد في الدنيا إلا الدموع التي ذكرتها، فهل تعلم غيرها؟)
فأجاب الرجل قائلا: (نعم، علمت أن الدنيا دمعاً غير تلك الدموع، وأنا لا أبحث إلا عنه، وأصرح لك بأنه دمع العطف والرحمة لا غير)
فعجب الرجل المتفائل من كلام الرجل، وحدق بعينيه في وجهه، وهز رأسه هزة خفيفة وقال: (لعل هذا الدمع ليس موجوداً في الدنيا؟ دمع العطف والرحمة! لم أكن أسمع هذا الإسم الغريب، ولم أعرف من الذي ينزل من عينيه هذا الدمع، ولأي سبب ينزل، فإذا علمتهه فهل لك ان تخبرني عنه بالتفاصيل؟) فقال الرجل: (نعم، سأخبرك عنه بكل سرور:
إن دمع العطف والرحمة لا يسيل لشخص أو لشخصين فحسب بل يسيل للناس الكثيرين، إن صاحب هذا الدمع يذرفه من عينيه إذا رأى المأساة وتأثر قلبه تأثراً تاماً، وليس هو كدموع الأطفال لأنها طبيعية بغير تأثر. وإن الدمع يسيل للاخلاص والصدق ولا يوجد فيه شئ من الخيال والكذب. وأما شخص يسيل منه الدمع فإني لا أعرفه، وقد بحثت عنه في كل مكان ودققت النظر في عيون الناس، فلم أجد قطرة من هذا الدمع، ومن يدري لعله لم يكن موجوداً! وربما سقط وضاع من عيون الناس في مكان، وكل شئ إذا ضاع يمكن أن يوجد بالبحث عنه. وسأبحث عنه لعلي أجده وأرده إلى أصحابه، وما عثرت على الذين ينسكب من عيونهم هذا الدمع، ولكن عسى أن أجدهم خلال بحثي عنه)
ولم يصدق الرجل المتفائل كلامه، وهز رأسه هزات ثم قال: (لا أفهم كلامك، ولكن إذا كان هناك من يسيل من عينيه هذا الدمع، فإنه يكون أكثر حمقاً وأشد سفهاً من الذين ذكرتهم لك، فإن الإنسان أذكى وأعز من كل شئ، ويستحيل أن يبلغ هذا المبلغ من الحمق والسفه، لذلك لا أستطيع أن أصدقك).
ونظر الرجل إلى الرجل المتفائل نظرة عطف وإشفاق، ثم تنهد وقال بصوت رقيق: (وأنت أيضاً من الذين أضاعوا هذا الدمع! فيجب عليك أن تبحث عنه معي، فإذا وجدته استرددت الشئ الذي أضعته، فهل لك أن ترافقني؟)
ولم يرض الرجل المتفائل عن كلامه بالطبع وقال: (كيف ضاع مني هذا الدمع، إن عيني لم تدمع دمعة واحدة، ولا أحب أن يسيل الدمع مني، ولا أرضى أن أعمل معك عملا لا فائدة فيه، لذلك سأذهب إلى حفلة الغناء والرقص أغني فيها غناء السرور وأرقص رقصة جميلة)
ولما رأى الرجل الباحث أن الرجل المتفائل لا يرضى أن يبحث معه عن الدمع فارقه واستمر في عمله، ووقف الرجل المتفائل يضحك من هذا الرجل ضحكاً عميقاً على حمقه وسفهه، ثم ذهب إلى مكان السرور، وشغل فيه باللهو والغناء
ولم يجد الرجل الدمع في تلك الأمكنة، فغير رأيه وذهب إلى مكان مزدحم بالناس بحثاً بينهم عن الدمع، فوقف بجانب شارع، وألفى السيارات تسير فيه أسرع من الريح، تأتيه فجأة وتروح لا يكاد يشعر بها، ورأى المارين في الشارع يضطربون اضطراباً شديداً، وينظرون تارة إلى الأمام وتارة إلى الخلف وهو خائفون من السيارت أن تمزق أبدانهم، ووجد البغال تجر العربات الكبية المحملة بالفحم هزيلة الأجسام كأن اللحم لا يوجد فيها، والعرق المتصبب منها بلل شعورها السوداء، وكلما خطت خطوة كادت تقع على الأرض فتجد قوتها في كل خطوة وتذهب بذهابها؛ وهكذا مشت إلى الأمام تغمض عيونها بعض إغماض، وأما سواقوها، فقد ملأ غبار الفحم وجوههم وجعلها سوداء فاحمة، وكأن عيونهم مغمضة، وأصبحت شفاههم حمراء مخيفة، ورأى الرجل من ناحية أخرى رجالا يجرون (العربات اليابانية) التي يركبها الناس يعدون كالخيل ويمسكون بأيديهم أذرع العربات، ويطوون أرجلهم في العدو حتى تكاد تصل إلى أعجازهم ويرفعون أعضادهم كما ترفع الطيور أجنحتها، وإذا اتفق أن هاجت الريح بالتراب وألقته في وجوههم فيدخل أنوفهم وأفواههم، يتنفسون بأصوات عالية خشنة كأنها البخار يخرج من أنابيبه ويتفصد العرق من وجوههم، ولا تسمح الظروف لهم أن يمسحوه عنهم، وإنما يسيل بنفسه إلى الأرض ويتلاشى في الرمل والتراب
فقال الرجل لنفسه: (لعل هنا دمع العطف والرحمة). ولكنه حين بحث عنه بحثاً دقيقاً لم يجد قطرة منه ونظر إلى سائقي السيارات والماشين والبغال وسائقي عربات الفحم وجارِّي العربات اليابانية والجالسين عليها فإذا عيونهم جامدة لا تبض بدمعة فغادر ذلك الشارع خائب الأمل.
وذهب إلى دار الأحتفالات الكبرى فوجد فيها الناس مزدحمين منهمكين في إعداد حفلة فخمة لإستقبال رجل عظيم، وسمعهم يتكلمون عن تاريخ هذا الرجل: فيقولون (خاض هذا الرجل العظيم غمار الحرب مرات كثيرة وهزمت بخططه جيوش العدو التي لا تحصى ولا تعد، وكانت كل جثة تستلقى على ظهرها أو تحبو على بطنها فوق المروج الواسعة وفي الترع والأوحال العميقة مصابة برصاصه وقنابله، وخربت الحقول وهدمت الحدائق وسكتت أصوات التلاميذ في المدارس ووقفت حركات الآلات في المصانع بمدافعه وطائراته، وأصبحت الأيدي مقطوعة والأرجل مكسورة وفقدت النساء أزواجهن والأمهات أبناءهن بقضائه وقدره وهو يمر الآن بهذا البلد بعد انتصاره في الحروب)
فقال الرجل: (لعل هنا دمع العطف والرحمة). ولكن حي اقبل الرجل رأى على وجوه الناس علائم الاحترام ودلائل الفرح فقفزوا ورقصوا كأنهم جماعة الضفادع، وظلت اصوات هتافاتهم كالامواج تصخب ورموا قلاننسهم في وجه السماء تتراقص في الهواء،، وفي هذه الضوضاء وذلك الجنون دخل الرجل العظيم وتبعه الناس وافتتح الاحتفال، وراى الرجل انه لا يوجد على وجوه الناس إلا الابتسامة والبشاشة كأن عيوننهم لم تسل منها الدموع قط ولن تسيل منها أبدأ! فغادر تلك الدار صفر اليدين. وذهب الرجل إلى مصنع كبير فوجد رجالا ونساء كثيرين يعملو فيه وقد أصمت أصوات الاّلات اّذانهم وزكمت روائحها أوفهم، وما أكبر العجلات التي لا يستطيع الإنسان ان يحركها إلا يقوة كبير ورأى الرجل علامات الموت تدب على وجوههم من شحوب وهزال، ويحني بعضهم ظهره بجانب الآلات ياكل الطعام الخشن الردئ، وتقف بعض النساء يفكرون في أطفالهن الذين تركنهم في البيوت فربما بكوا بكاء شديدا إذا لم يجدوا امهاتهم، ولكن لا يمكن لهؤلاء الرجال والساء أن يضيعوا وقتا كبيرا بل يجب أن يأكلوا بسرعة، وعلى النساء أن يستيقظن من أحلام التفكير ويواصلن العمل. ولما غابت الشمس خرج العمال من المصنع ومروا بالسوق الليلية التي يطوف بها الرجال والنساء يبحثون عن السعادة والفرح؛ فدخل العمال في موج هؤلاء السعداء المزدحمين واختلطوا بهم.
وتبع الرجل هؤلاء العمال مفكراً قائلا: (لعل هنا دمع العطف والرحمة). ولكن هؤلاء الناس كماء النهر إذا دخله ماء آخر اختلطا وسار معاً بدون تأثر، وكذلك اختلط الناس في السوق بالعمال الذين دخلوا بينهم ولم يتأثر بعضهم ببعض فحدق الرجل نظره في عيونهم فوجدها كأنها قعور الآبار الجافة لم تسل منها الدموع ولن تسيل، فغادر تلك السوق منقطع الرجاء.
ورأى الرجل أنه لم يجد دمع العطف والرحمة في الناس أيضاً فحزن حزناً شديداً ومشى في الطريق حتى وصل إلى قرية بغير قصد، ورأى كوخاً أمامه ميدان واسع وحوله بضع أشجار من الصفصاف تجعل أشعة الشمس أوراقها الخضراء جميلة رشيقة، ويظهر أن عند صاحب الكوخ ضيوفاً يعد لهم وليمة، وبدأت امرأته تذبح الدجاج وبجانبها قفص فيها بضع عشرة دجاجة، فأخذت المرأة دجاجة واحدة وأمسكت بيدها اليسرى جناحيها وعرف رأسها ونزعت بيدها اليمنى شعر عنقها ثم أخذت سكيناً وذبحتها، فحركت الدجاجة رجليها كأنها تريد أن تدافع عن حياتها ولكن لم تقدر فسال الدم من عنقها في طاسة صغيرة، فوضعتها المرأة على الأرض بعد انقطاع الدم، وتحركت الدجاجة على الأرض حركة خفيفة ولم تلبث أن أصبحت كومة من الريش من غير روح، وذبحت المرأة الدجاجة الثانية والثالثة كما ذبحت الأولى.
ولما ذبحت المرأة الدجاجة الخامسة خرج من الكوخ ولد ذو وجه أحمر وعينان سوداوان يتطلع بهما وسعى إلى المرأة فرأى أكواماً من الريش ودجاجاً في القفص، ووجد واحدة منها في يد المرأة منظرها يؤلم القلوب، فأسرع ليمسك بيد المرأة اليمنى وخرج البكاء المحزن من فمه وتدفقت من عينيه كتدفق الينبوع
ولا رأى الرجل الدموع لم يصدق أن عينيه تريانها حقيقة وظن أنه في سنة من النوم فإنها جزاء تعبه الغالي أتاه من غير حسبان، ولكنه دقق النظر فيها فوجدها حقيقية تسيل من عيني الولد قطرة قطرة كأنها درر لامعة، ففرح فرحاً شديداً كأنه وجد اللؤلؤ وصاح قائلا: (لم أكن أظن أنني أجدها هنا!) وتقدم إلى الولد ووقف أمامه ماداً يديه تحت عينيه، وبعد برهة ملأت دموع الولد كفيه.
فقال الرجل: (لقد وجدت الآن هذه الدموع التي أضاعها الناس! وإن من واجبي الآن أن أردها إليهم). فراح قاصدا إلى (الرجل المتفائل) يردها إليه أولا لأنه لم يصدق أنه أضاع هذه الدموع وطلب منه أن يحفظها ولا يضيعها مرة ثانية، ثم ذهب إلى مكان يهدي إلى كل إنسان هذه الهدية القيمة التي لا مثيل لها عنده. فاستعدوا أيها القراء الكرام، لتأخذوا هديته؛ فربما جاءكم بها قريبا.
عبد الله ما - جي - كو