مجلة الرسالة/العدد 651/العزاوي
→ وجوب التثبت في المباحث العلمية قبل النقد | مجلة الرسالة - العدد 651 العزاوي [[مؤلف:|]] |
الصهيوني الأول ← |
بتاريخ: 24 - 12 - 1945 |
للدكتور جواد علي
سيبلغ صديقي الأستاذ المحامي عباس العزاوي في هذا العام من العمر الخامسة والخمسين، وإذا ذكر العزاوي في العراق ذكرت الكتب والمكتبات والمخطوطات. فالأستاذ هاو معروف من هواة الكتب القديمة ومن هواة الخطوط، وقد جمع في بيته مجموعة ثمينة من الخطوط القديمة وهو يحدثك عنها وعن صاحبها وبائعها وكيف وصلت إليه، وميزات الخط الفلاني وعلاقته بالخطوط الباقية حديثاً تدرك من خلال مبلغ حب هذا العالم لكنوز الأجداد الأقدمين.
وهو لا يريد من وراء ذلك مكسباً لأنه لا يتاجر بالكتب ولا بالخطوط ولا بالمخطوطات، وهو لا يبتغي من وراء ذلك أجراً لأنه ليس بحاجة إلى هذا الأجر. ولا هو في حاجة إلى أحد. ثم هو لا يتبجح بمجموعته الثمينة شأن أغلب أصحاب الكتب والمكتبات والنوادر. يعرضون ما يجمعونه على الناس ليقال عنهم إنهم من أصحاب التحف والنوادر والجاه العريق.
والعزاوي من أبعد الناس عن التبجح والظهور فهو لا يعاشر إلا بطانة معروفة من الأدباء هي حاشيته وخاصته وجماعته وهي تعد؛ ولا يرافق إلا ابنه (فاضل) من مكتبه إلى مقهى (بلقيس) على شارع أبي نؤاس حيث يجلس قرابة ساعة ثم يعود مع ابنه إلى البيت.
وقد كان يصاحبه أخوه المرحوم المحامي (علي غالب العزاوي) إلى أكثر الأماكن، وكان أصدقاؤهما يقولون (ما أحب الأخوة) فقد كانا مضرب الأمثال في الأخوة حقاً، ولكن الجناة أبوا إلا أن يفرقوا بين الأخ وأخيه فقتلوا (علياً) على قضية خسيسة من حطام الدنيا وفرقوا بين عباس وعلي.
وهو لا يعاشر الآن إلا صديقاً واحداً لازمه منذ عرف الحياة وهذا الصديق هو (الكتب والعلم) ونادراً ما تراه وهو بغير كتاب. والكتاب المحبوب إليه (كتاب التاريخ) وأحب كتب التاريخ إليه على ما أعتقد هي كتب التاريخ النادرة ولا سيما الكتب التي تبحث عن الفترة المظلمة السوداء (فترة العراق بين أحتلالين) وهي فترة مجهولة موحشة تبتدئ بسقوط بغداد على أيدي الغزاة المغول وتنتهي باحتلال الإنكليز لبغداد عام 1917 للميلاد.
وإذا ما حدثك العزاوي عن هذه الفترة وتبسط معك في الموضوع وسرد لك حوادث الدويلات التركية وأسماء الأمراء الذين حكموا العراق في هذه المدة الطويلة من مغول وأتراك وإيرانيين فمماليك، فأنا على يقين من أنك ستخرج وتقول: ما هذه الطلاسم والتعاويذ، ولابد لك من الاستعانة بقاموس أو مفتاح يحل لك رموز هذه الشفرة المعقدة التي لا يعرفها إلا القليل من أصحاب هذا العلم.
ولد الأستاذ عباس العزاوي في سنة 1308 للهجرة (1891م) في البادية بين مضارب عشيرة العَزَّة، وقد قتل والده محمد الثامي وهو لا يزال بعد طفل صغير. والعزة قبيلة عربية شهيرة انتشرت في ألوية عديدة من ألوية العراق لاسيما في لواء ديالى. وترجع في الأصل إلى عشائر حمير من عرب الجنوب وتنتمي إلى قبيلة (زبيد الأصغر) المنتشرة في بلاد ما بين النهرين والتي تفرعت إلى عدة فروع، وتنتمي العزة إلى جدها الأعلى (عزيز) وبه تسمت فقيل لها (أعزة) جمع عزيز ثم (عزة) بالتخفيف.
جئ بالعزاوي سنة 1311 للهجرة (1894م) إلى بغداد فاستقر في هذه المدينة وبها نشأ وترعرع وتثقف. وأتم التحصيل الابتدائي والرشدي على عهد العثمانيين. ثم عكف على دراسة العلوم الشرعية واللسانية على الطريقة العلمية المعروفة في ذلك الوقت فدرس في جامع الخلفاء، وهو من بقايا جامع الخلفاء العباسيين على المرحوم عبد الرزاق الأعظمي ودرس في نفس الوقت في (مدرسة مرجان العلمية) وهي مدرسة أمين الدين مرجان صاحب الجامع الشهير المعروف (بجامع مرجان) والخان المعروف باسمه أيضاً، وقد أسست هذه المدرسة على مثال المدرسة النظامية المعروفة في عهد العباسيين ببغداد. وكان أستاذ المدرسة المرجانية هو المرحوم الحاج علي علاء الدين الألوسي وهو من أسرة الألوسيين الأسرة العلمية المعروفة ببغداد. ودرس في مدرسة الحيدرخانة (المدرسة الداودية) على العالم الشهير المرحوم السيد محمود شكري الألوسي صاحب التصانيف الشهيرة في علوم الدين واللسان. وصاحب (بلوغ الأرب في أحوال العرب) وهو الكتاب الذي نال عليه الجائزة من المستشرقين الإسكاندنافيين.
وعرفت الأسرة الألوسية بالميل إلى الطريقة السلفية وبالأخذ بمبادئ الدين على طريقة السلف. فتأثر العزاوي على ما حدثني به بهذه الطريقة فمال وما زال يميل إليها. وكان المرحوم الحاج علي علاء الدين الألوسي هو مرشده ودليله إليها. وكان رحمه الله يشير عليه وعلى أمثاله بأن يكونوا أحراراً في اختيار المذهب الذي يريدونه وباتباع الطريقة التي يرون فيها صلاحهم على شرط أن يلجوا البيوت من أبوابها، ومعنى ذلك النظر في أقوال أصحاب المذاهب وما خلفوه رأساً، فإذا أرادوا مذهب الشافعي في الفقه نظروا في كتاب (الأم) المنسوب إليه. وهكذا. وعلى هذا فإذا أرادوا الدين الصحيح فعليهم بالقرآن ففيه الهدى والفرقان وهو المرجع والأصل. وقد وجد أن طريقة السلف هي أقرب الطرق إلى نفسه وأحبها إليه فاختارها طريقة له.
وقد أجازه المرحوم الحاج علي الآلوسي بالإجازة العلمية في 6 جمادي الأولى من سنة 1338 للهجرة (1920م) وتتصل إجازة الآلوسيين بإجازات علماء الشام، وعلى ذلك اتصلت إجازة المترجم بسلسلة إجازات علماء الشام. ودخل بعدئذ مدرسة الحقوق وتخرج منها في سنة 1339 للهجرة (1921م) ومارس المحاماة ومازال يمارسها حتى الآن.
فدراسة العزاوي إذاً دراسة علمية حقوقية وقد ساعده مسلكه العلمي على تفهم كثير من المشاكل التي تتعرض لها مهنة المحاماة. فكان يغرف من معين الفقه الإسلامي ليستفيد منه في الفقه العراقي الحديث. وبرز في الفقهين وامتاز على الأخص في النواحي التي يلتقي فيها الفقه بالقانون. وتتبع نقاط الخلاف فيما بين الفقهاء ودرس مذاهب قدماء الفقهاء وآرائهم في الجدل الفقهي مثل آراء ابن أبي ليلى الفقيه الشهير وابن شبرمة. واستفاد من هذه الدراسة الفقهية كثيراً.
واستفاد من حياة المحاماة كثيراً، فباعتباره محامياً يراجع المحاكم أينما كانت أضطر إلى زيارة أكثر الألوية العراقية وعلى التعرف إلى مختلف طبقات الناس، وعلى بحث مختلف المشاكل التي تتصل بالفقه والقانون فكان ينتهز هذه الفرصة ليرضي بها ميوله العلمية. وكان يغزو الأسواق ليشتري منها النسخ الخطية ويتجسس على أصحاب المكاتب ليتعرف المخطوطات النادرة التي لا يقدرها أصحابها فيبادر هو إليها لتكون في مكتبته الأمينة وفي بيت أمين يحافظ على هذه الودائع الثمينة.
وكانت مكتبة المرحوم السيد نعمان خير الدين الألوسي هي التي حببت إليه الفكرة إنشاء خزانة علمية تكون فردوساً للكتب فصار يقتني الكتب على نحو ما ذكرت. وصار يضيف إليها الصيد النادر من خارج بغداد. ثم لم يكتف بهذا بل دفعه هذا الهيام بالكتب على زيارة مكتبات الشام ثم مكتبات الآستانة، ثم لم يكتف بكل ذلك بل طلب المزيد وهو في العلم نهم فذهب إلى بروسية فالنمسا ليستنسخ أو ليأمر بأخذ صور فوتوغرافية لبعض النسخ الخطية النادرة المحتكرة في خزانات كتب تلك البلاد.
فتجمعت على مرور الأيام في بيت الأستاذ أوابد الكتب ومختلف المخطوطات، ثم أضاف إلى هذا القديم شيئاً من الحديث الغض الذي يخرجه المستشرقون في الغرب وأبناء العالم الإسلامي في بلاد العروبة وفي بلاد الإسلام فتكونت لديه مكتبة ثمينة حرص على حياتها كل الحرص وتعهدها وما يزال يتعهدها بالتغذية والنظافة والرعاية أكثر من رعايته لنفسه، وهي عنده بمثابة ولده (فاضل) لها نفس حقوق الولد وزيادة، يخدمها الأب والابن والأم. ولا أدري منزلة هذه الكتب من قلب (أم فاضل) فقديماً كانت الكتب والمكتبات أشد وقعاً على قلوب الزوجات من (الضرائر) ولعلها هي كذلك في نفوس السيدات المتزوجات على الرغم من ثقافة (ستّات) القرن العشرين.
وأخذ العزاوي العالم يفاجئ العراق بمؤلفاته وأكثرها في تاريخ العراق وهي مؤلفات تشهد لصاحبها بسعة العلم وطول الباع وقدرته على الصبر والأناة سلك فيها مسلك علماء الخلافة العباسية. ولست بمبالغ إذا قلت عنه إنه يمثل دور مؤرخي العباسيين في القرن العشرين. وكتابه (العراق بين احتلالين) وهو سجل جامع لحوادث العراق ويقع في أثني عشر مجلداً ويشمل حوادث المغول وتاريخ الجلائريين ثم التركمان ثم حوادث الدولة العثمانية وحروبها مع الإيرانيين فتاريخ المماليك المعروفين بالكولات ففترة ما بين علي رضا باشا ومدحت باشا فأيام مدحت باشا فالمشروطية وهو كتاب ضخم مرتب على السنين، وقد طبعت الأجزاء الثلاثة الأولى منه بين 1935 و1939 للميلاد، وهو خير ترجمان عن علم الأستاذ.
وللعزاوي كتب أخرى مثل كتابه تاريخ اليزيدية وقد طبع في سنة 1935 وسيطبعه مرة أخرى بعد أن أضاف إليه زيادات وتنقيحات جديدة. وقد نال التفات صاحب الجلالة المغفور له الملك غازي الأول. ويسكن اليزيدية في شمال العراق في لواء الموصل وهم جد حريصين على ألا تتسرب عقائدهم إلى الخارج، وعقائدهم على ما يظهر مزيج من مختلف العقائد والأديان. ومثل كتاب (عشائر العراق) وقد طبع الجزء الأول منه وكتاب تاريخ الخط العربي، وللأستاذ ولع خاص بهذا الموضوع وعنده مجموعة ثمينة من خطوط الخطاطين.
وللمترجم به مؤلفات أخرى مثل كتاب (تاريخ الموسيقى العربية) في عهد المغول والتركمان والعهود التالية لها. وكتاب (التعريف بالمؤرخين من تاريخ ظهور المغول إلى اليوم). وكتاب (الكاكائية في العراق) وهم نحلة من الغلاة وكتاب (تاريخ الفيليه) وهم من الأكراد، وكتاب (المعاهد الخيرية في العراق) ويبحث عن الجوامع والمدارس والتكايا، وكتاب (الأسر العلمية في العراق) ثم (كتاب الإجازات العلمية).
واتصل الأستاذ أثناء بحوثه هذه بمذاهب الأدب وبالأدباء وتعرف على أدبهم وطرقهم الخاصة في الكتابة والنظم، وقد دفعه ذلك إلى التأليف في الأدب فألف (تاريخ الأدب التركي في العراق) و (تاريخ الأدب الفارسي في العراق) و (التاريخ العلمي والأدبي) وهو كتاب يبحث في تاريخ العلوم والأدب عند العرب.
هذه هي أسماء الكتب التي ألفها العزاوي حتى الآن، وقد نشر بعض الكتب الخطية القديمة مثل كتاب (منتخب الدر المختار في علماء العراق) وهو ذيل لكتاب (تاريخ ابن النجار) انتخبه التقي الفاسيّ المكيّ وقد طبعه ببغداد سنة 1938، ورسالة ابن حسّول في تفضيل الأتراك على سائر الأجناد، وقد قدم العزاوي لها مقدمة وترجمها الأستاذ التركي محمد شرف الدين رئيس الشؤون الدينية في الجمهورية التركية ونشرها في مجلة (بلله تن) التركية بأنقرة ثم نشرها بصورة مفردة بالقسطنطية.
هذا عدا ما نشره في المجلات العراقية المختلفة ومازال ينشر في مختلف المجلات، وهو الآن عضو في (نادي القلم العراقي) وهو نادي أدبي ببغداد يضم نخبة من الكتاب العراقيين رئيسه معالي الأستاذ الكبير الشاعر العربي الفحل الشيخ رضا الشبيبي رئيس مجلس النواب سابقاً ووزير المعارف في عدة وزارات. وهو محفل يجتمع أعضاؤه بين الحين والحين في بيت عضو من الأعضاء بالتناوب فيتسامرون ويتباحثون ويأكلون ويجمعون بين العلم والأكل، ولذلك سماه بعضهم (نادي اللقم) على سبيل النكتة والمزاح.
وقد انتخبه أصحاب (إسلام ترك أنسكلوبيديسي) أي (دائرة المعارف الإسلامية التركية) عضواً مراسلا، وانتخبه (المجمع العلمي العربي) بدمشق عضواً مراسلا أيضاً.
وهو الآن عضو في (لجنة الترجمة والتأليف والنشر العراقية) الرسمية وهي لجنة عراقية حكومية رأسمالها حكومي وأعضاؤها من العراقيين المشهورين بالتتبع والبحث لغرض ترجمة الكتب الأوربية الممتازة وتشجيع التأليف وإحياء التراث العربي القديم.
وبعد، فالمحامي عباس العزاوي من أولئك النفر الذين لا يزالون على سنة العراقيين يؤلفون ويكتبون ويقرءون. فمن واجبي أن أكتب عنه.
(بغداد)
جواد علي