مجلة الرسالة/العدد 650/في الأدب الإنكليزي
→ في مصر فلسفة أصل الوجود | مجلة الرسالة - العدد 650 في الأدب الإنكليزي [[مؤلف:|]] |
الشعر يحتفل بأميره ← |
بتاريخ: 17 - 12 - 1945 |
ماثيو أرنولد
بقلم الأستاذ خيري حماد
- 2 -
وقد كتب عنه برل قائلا:) لقد كان أر نولد ناقداً أميناً، نعم لقد أساء فهمه الكثيرون ولكن ما قيل عنه يجب ألا يعد لا في العير ولا في النفير فلم يخطئ الحقيقة بل أصاب مقاتلها في بعض الأحيان وأخطئها في البعض الآخر. ويندر أن نجد في أدبنا ناقداً يضاهية في الدعابة وحسن النكتة. وإن محاضراته عن ترجمة هوميروس لتؤلف كتاباً تلذ قراءته، وتفيد مطالعته، ويستحسن طبعه؛ فهو كتاب قيم يندر أن تجد له مثيلا في دقة محتوياته وحلاوة دعابته، فهو يجعل قراءة الأدب لذيذة؛ ومطالعة سير الحب سارة للرجال الذين بلغوا من العمر عتيا يتذكرون أيام طفولتهم ومغامرات حداتهم).
لن تتيح لنا الظروف أن نتناول كل ما كتبه أرنولد في النقد وأصوله وفنه، ويكفي هنا أن نسرد مثلين من أمثلة نقده لندل على الطريقة التي كان يتبعها في نقد الدب الأدباء. أما الأول هو يتناول آراء أر نولد في الشاعر الإنكليزي المعروف شلي، والثاني تنسون.
لم يكتب أرنولد طيلة حياته نقداً تاماً للشاعر شلي ولكنه في مواضع كثيرة من مؤلفاته يطلعنا على رأيه فيه؛ يصفه كثيراً بقوله: (هو ملاك جميل ولكنه عديم التأثير إذ يحلق في الفضاء مرفرفاً بأجنحته دون أن يحدث هنالك كبير أثر) وفي بعض المناحي الشعرية يجهد شلي نفسه للحصول على ما يستطيعه الغير بسهولة ودون أي تعب أو نصب. ولكن الأغاني التي اشتهر أمره فيها لم تكن أحسن ما كتبه الشاعر بل إن معظم أشعاره متحف من التوافه والمبتذل من الشعر.
وكان أر نولد يعتقد اعتقاداً حازماً في أن شلي لم يصل إلى الدرجة السحرية الفائقة التي كانت تنتظر منه، وأن شعره يخلو من المادة الصحيحة السليمة، ولكن دعنا نستعرض هذين الانتقادين لنرى مبلغ صحتهما وصوابهما. أما من حيث مادة شلي وأسلوبه فتكثر فيه الحسنات كما تكثر السيئات. وأما من حيث خياله ومقدرته السحرية فقد أخطأ أرنو نقده تمام الخطأ، فمن يقرأ لشلي قصيدته (إلى الطائر يجد فيها مقدرة خيالية عظيمة قل أن توجد في غيره من الشعراء. فقد صور فيها صوراً رائعة لا شك في تأثيرها على نفسية القراء.
ونتناول الآن نقده لتنسون، فقد كان دائم الكراهية لهذا الشاعر العظيم، وعندما ظهر كتاب (خرافات الملك) لتنسون كتب أرنولد عنه قائلاً: (إن من الأغلاط الكثيرة التي أجدها في تنسون في كتابه هذا هو افتقاره لسحر القرون الوسطى وقوة خيالهم، ومع مقدرته الفنية الفائقة فقد كانت تنقصه المقدرة العقلية).
وفي هذا النقد تحامل ظاهر لا يمكن أن يتجاوزه، فقد كان أرنولد دائم التفضيل لبيرون على تنسون، وقد وصفه الكثيرون من الأدباء بتحامله على جميع معاصريه مدفوعاً بروح المنافسة، وهذا خطأ بين لا يمكننا الإغضاء عنه، فقد كان من محبي سنت بوف مع أنه من معاصريه ومنافسيه. ناهيك عن تحامله الشديد وكيتس الذي امتد طيلة حياته.
من المثلين السابقين اللذين ذكرتهما نرى أرنولد مر النقد قوى الشكيمة، ولكن هذه الصفة لم تكن لتنطبق عليه دائماً فكان من محبي وردزورث وبيرون ومن أنصارهما. وقد وصف وردزورث بقوله إن الطبيعة قد أمسكت بقلمه فسجلت روائع رائدها قوة الطبيعة الخارقة على تفهم الحياة ومناحيها المختلفة. وقد كتب إلى أحد أصدقائه (إني لا أومن بقوة تنسون ومقدرته في أية ناحية من نواحي الأدب. فهو لا يضاهي جوته في تفكيره العصري، ولا وردزورث في خياله وقوة ابتكاره، ولا بيرون في عاطفته ورقته. ولكنه شاعر يعتبره الناس في عصرنا هذا، ولكني لا أحمل في نفسي أي اعتبار أو تقدير لفنه أو لشعره).
وعندما أتناول البحث في كتابه: (مقالات في النقد) يرى القارئ هنالك بحثا أكثر إسهابا عن شهرة أرنولد في عالم النقد. فهو خير كتاب يقرأه الطالب لتعلم فن النقد وأصوله. ولكن نقده لم يكن في الحقيقة مبنياً على الأساس العلمي في عصره. وهذا التحامل قاده للتسرع بأقوال خالية من الحكمة ينقصها التفكير الطويل، وتحكيم العقل والمنطق.
شعره:
تتلخص عبقرية أرنولد الشعرية في نجاحه في عرض أفكاره على جمهرة القراء. وفي أشعاره وخاصة قصيدته أمبدوكليس نرى الشاعر ينشدنا أغاني مطربة وقصائد تسيل رقة وعذوبة. فلنلق نظرة على هذه الأبيات القليلة من شعره ثم نبني حكمنا عليها بعد تدقيق وإمعان.
(ابولو - أيها الإله العظيم. إن هذه المساكن لا تصلح لسكنك قط. ولكن في ذلك المكان حيث يلتقي البحر فيه والجبل هناك حيث يرسل القمر أشعته الفضية فتتردد الأصوات في الفضاء متغزلة بجماله، هناك وادي الإلهة تزب يطيب لك العيش وتحلو لك السكنى).
لو قرأنا هذه الأبيات في صورتها الإنكليزية لوجدنا الشاعر يغنى معها شارحاً عواطفه ومشاعره. هنالك تسمو نفسه فيرتفع عن مصاف الشعراء العاديين. ولكن موسيقاه هي أنموذج من الأغاني المخيفة التي يهابها ويخافها لتأثيرها على وحدة النفس وكيانها.
لقد تدرع أر نولد بدرع من الذكاء والابتكار. وطيلة حياته نراه قنوعاً بالحياة التي يحياها وراضياً بالعالم الذي يعيش فيه، ولكنا نرى من خلال قصائده تطلعه نحو حياة مشرقة، حياة الصباح العاطر في أيام الربيع الجميلة عندما تتفتح الأزهار والرياحين ناشرة في العالم سعادة أزلية خالدة. وفي قصيدته الرقيقة (الغجري المتعلم) نرى الشاعر مسوقاً بتيار العواطف مقوداً لآلهة الشعر يضمن نظريته هذه في بضعة أبيات ملؤها الجمال والروعة متخذا من هذا الحلم البهيج وحيه وسر عبقريته، فهو يقول:
(فوق مياه المحيطات المتوسطة، حيث تكثر الرياح بين شاطئ إيطاليا وشاطئ صقلية الجميلة حيث تلتقي مياه الاطلانتيك بمياه البحر المتوسط من خلال المضائق الغربية - هناك تكثر السفن المشرعة حيث ترتفع الصخور إلى عنان السماء - وتهب الأمواج عليها فتخرج الزبد. هنالك يظهر الإسبانيون سمر الألوان ميالين للمغامرة والإبحار. فيعقدون أسواقهم التجارية على شواطئ البحار. . .)
وأروع قصائده خيالا وأوسعها حرية هي قصيدته (البحري المهجور) حيث يتطلع إلى العالم القديم بعين التواق الراغب مؤنباً سكان هذا العالم لهجرهم إياه وابتعادهم عنه - فكرة هي نفس حلمه الجميل معبرة بطريقة مخالفة عن رغبته في الشباب، في الحياة الجديدة السرمدية حيث يقول:
(تلك الكهوف الرملية العميقة الرطبة، حيث تهدأ الرياح وتسكن سكوناً أبديا، هناك تتسارق الأنوار النظر إلى هذه الأعماق، وهناك تكثر الأملاح فتذوب في الجداول).
وإن مقدرة أولد الرومانتيكية أو الإبتداعية بالأحرى لتتجلى في جماله وطهارته. وعوامل نجاحه وانتصاره تتلخص في سرده للخرافات والأحلام. وموسيقاه تختلف عما عرف في عصره بكونها فائية شديدة الوقع لم تنل إعجاب المعاصرين. فشهرته كشاعر عبقري لم تبن بعد. ولما كانت البيئة التي وجد فيها تهتم كل الاهتمام للأخلاق ولا تأبه للجمال وأثره؛ ولما كان والده رجلا دمث الأخلاق ليناً وعظيما في نفس الوقت، لذلك نرى في شعر شاعرنا الميل الدائم إلى البساطة والرغبة الجلية في الطهارة والصفاء. وكنتيجة لهذه البيئة ولهذه الرغبة في الشاعر ظهرت هناك قصيدتان عدتا من روائع الأدب الإنكليزي بحثا في الأخلاق والدين بحثاً مسهباً مستفيضاً.
أحب أرنولد الطبيعة حباً جماً، فوصفها في قصائده وأغانيه وصفاً قرأه كثير من البؤساء والمتألمين فسروا به عن نفوسهم، وأزالوا ما لحقهم من بؤس وشقاء. وكان ينظم قصائده على النمط الذي جرى عليه أستاذه وردزورث من قبله فقلده تقليدا أعمى في أسلوبه وأفكاره. وكان بفطرته لا يميل إلى الاعتقاد بالخرافات والأباطيل القديمة مع أنه دونها كثيراً في شعره ومؤلفاته، فالصدق كان رائده في كثير مما نظمه. وفي قصيدته (حداثة الطبيعة) نرى شخصيته متمثلة أتم التمثيل وأكمله. ولم يكن أسلوبه ليقل عن أسلوب شلي أو أي شاعر عظيم آخر ناهيك بأن مادته وأفكاره كانتا لا تضاهيان.
وقصيدته (تريشدام وايسونت) تحوي عدداً من الأغاني الرائعة فهي تبدأ بهذه الأبيات الجميلة:
(أشعل الضوء يا غلام حتى أراها فلقد أتت الملكة المتعجرفة أخيراً. انتظرت طويلا وغالبت الحمى التي انتابتني تأخرت أيها العزيزة، وكان تأخرك نكراً وهجرانا).
ويجمع محبو أرنولد وتلامذته على أن قصيدة (رستم وسهراب) هي أحسن ما كتبه الشاعر وقد لقبه على أثرها لورد رسل بقوله: (هو شاعر العصر الأوحد). وهذه القصيدة مستمدة من قصة أسيوية قديمة تتلخص في سير مبارزة حدثت بين بطل من أبطال الترك ووالده. وكان كل منهما يجهل صاحبه حتى قتل الولد فعرفه الوالد وحزن عليه حزناً شديداً. وما أجمل وصفه للأموات حين يقول
(إن الصدق يلازم شفاه الأموات، والخداع كان بعيداً عني طيلة حياتي) وعندما يعلم الوالد أنه قتل فلدة كبده يشتد حزنه ويعزم على الانتحار غرقاً في النهر فيرجوه ولده المفارق للحياة أن يصبر وأن يجاهد في هذه الحياة حتى يحصل ما لم يستطع هو الحصول عليه.
ومن بدائع شعره قصيدته (الميت الشجاع) التي لا يستطيع فهمها إلا القليل من مثقفي القوم ومتأدبيهم. لكن من يفهمها يشعر باللذة التي تعاوده عند مطالعتها ويحس بنفس الوقت بخلوها من الخيال والإغراء اللذين يشعر بهما عند قراءته لقصيدة (رستم وسهراب). فهي تخرج من القلب خروج قصائد برنز الجميلة، وإن الفقرة الأخيرة مع كونها لا تخلو من بعض الأغلاط إلا أنها لا شك تحوي من العاطفة قدراً كبيراً
عندما نلتقي فتتطلع بنظراتك، متفرساً في وجهي وما أحدثته الأيام من الغضون فيه. ولكن بالله دعني أسألك: من هو ذلك الغريب الذي يتطلع إلي بعين المتأمل، ذو العينين الرماديتين والشعر الأسود).
فلسفته
لقد انتقد أر نولد المجتمع الإنكليزي في عدد غير قليل من مؤلفاته وكتبه. وكان يميل إلى تقسيمه إلى ثلاث طبقات متفاوتة: أولاها طبقة الأشراف، وثانيهما الطبقة المتوسطة وثالثهما الطبقة العامة ولكنه لم يسمها كما سماها غيره من قبل؛ بل أطلق الأولى اسم البرابرة وعلى الثانية لقب الفلستينيين وعلى الثالثة لقب العوام وكان يحترم طبقة الأشراف ويكثر من الثناء على أفرادها قائلا: (إن أعظم الفضائل وجود طبقة راقية من النبلاء يتخلقون بأحسن الأخلاق ويتحلون بأجمل الفضائل، لهم أفكارهم الشريفة، وأعمالهم النبيلة التي حبتهم بها الطبيعة. ويزداد جمال هذه الفضائل عندما تصدر عن أناس أقوياء يتحكمون بمصير الآمة ومستقبلها وينزهون أنفسهم عن التشاحن والتطاحن في المسائل التافهة. وقد يحدث أن أحد أفراد الطبقة نموره العبقرية وينقصه الذكاء ولكنه مع ذلك لا تصد عنه أمور لا تعد في حكم الشريفة منها). ولكن أرنولد يتطلع نحوهم فيرى نقصاً لا يمكن سده، وعوزاً ليس من المستطاع إهماله والاغصاء عنه. فهم بحاجة إلى الأفكار السامية وهذا ما سبب تأخرهم في العصور الحديثة. وفي البلاد الأخرى نجد طبقة الفقراء على درجة أعظم من المدنية الحضارة من هذه الطبقة؛ فالفقير يشعر بضعته، ويحس بفقره وضعفه فيحسن من شأنه ليظهر بمظهر الند للند والقرن للقرن
(يتبع)
خيري حماد