مجلة الرسالة/العدد 65/بين الشهرة والخلود
→ مدينة الأحرار | مجلة الرسالة - العدد 65 بين الشهرة والخلود [[مؤلف:|]] |
العلوم ← |
بتاريخ: 01 - 10 - 1934 |
لأميل لدفيج
تلخيص محمد أمين حسونة
خطر يبالي ذات شتاء أن أمضى شطراً طويلاً منه في منطقة الألب لاستمتع بدفء الجبال، فكان مما استرعى اهتمامي في منطقة التيرول، تلك الكنيسة الفخمة التي اشتهرت منذ القرون الوسطى بأثرية ناقوسها وروعته، فلما مر بخاطري زيارته، صعدت إلى القبة لأشبع العين من فتنته، وهناك تملكتني الدهشة والعجب، إذ كانوا يعلقون صورة (شيللر) إلى جانب صورة القديسين الأبرار، كتذكار لمقطوعته الخالدة (نشيد الناقوس)!
فشللر الكاتب الملحد، عدو الكنيسة والكثلكة، يجعلون منه رمزاً للقداسة والخلود؟ ولكن لا عجب فقد تكون شهرته كشاعر مخلد لذكرى (الناقوس) هي التي حدت بهم إلى رفعه في مثل هذا الموضع الذي يرتكز عليه، وهكذا تكون الشهرة حامية للأغلاط. إننا نذكر جميعاً غلطة (كوك) المعروفة، وكيف دفعته إلى مصاف العظماء، وقذفت باسمه إلى أول قائمة المكتشفين الخالدين، ولو أن لعبته لم تكتشف إلا بعد مرور فترة طويلة!
إذن فالشهرة ليست بمعناها المعروف، هي (العظمة)، وقد لا تهدينا شهرة الرجل إلى تقدير مناحي عظمته في ثوبها الحقيقي، وإلا كان من حقنا أن نفاخر (بشارلي شابلن) عن (برجسون) وان نفضل (مستنجيت) على (مدام كوري). مع أننا كمؤرخين في عنقنا دين تجب تأديته للأجيال المقبلة، ذلك هو تصحيح الأخطاء التي تلابس أولئك الذين يستحوذون على الشهرة عن طريق المخادعة.
وقديماً ذكروا: ألا يجوز البتة إعلان كون الناس سعداء ما داموا أحياء! فإذا جاز لنا أن نحكم بان حياة الإنسان إن هي إلا رواية تمثل مشاهدها، ففي مكنة (فصل خامس) منها أن يطفئ أنوار فصول أربعة تقدمته، وفي ضوء هذه النظرية لا يمكننا الحكم على أعمال الرجال إلا بعد موتهم، ولا أن نخلع عليهم ثوب العظمة وهم أحياء، فمن المحتمل أن يأتي هذا الثوب فضفاضاً عليهم، أو يحدث في أواخر أيامهم ما يدفعهم إلى تشويه هذه الصفحات التي نكون قد ملائناها حمداً وثناء عليهم!
إن سرعة انتشار الأخبار تمكننا من معرفة أي رجل اشتهر في اقل من لمح البصر، فاسم (ليندبرج) - قاهر الجو - عرفه في ليلة واحدة خمسمائة مليون شخص من أقاصي منشوريا إلى جنوب استراليا؛ كذلك كان أمر (كوك) حين انتحل لنفسه اكتشاف القطب الشمالي، ولو أن خدعته اكتشفت فيما بعد، ولكن بعد فوات الفرصة، وبعد أن رسخ اسمه في قلب كل إنسان كمكتشف عظيم!
إن الآلة التي تخرج لنا العظماء اليوم غيرها قبل خمسين عاماً مضت، فليس الرجل العسكري هو الذي ينال إعجاب أبناء هذا الجيل، وليس من حقنا تدوين اسمه في ثبت العظماء، كما فعل الاسكندر وقيصر ونابليون، كلا! فالشعوب أصبحت لا تتهافت على معرفة اسم القائد المنتظر في الميدان، لكنهم يتساءلون عن الآلة الجهنمية التي أحرزت التغلب، وخفقت فوق ربوعها بنود النصر. وخذ اسم المارشال هيندنبرج مثلا، فلا يتطرق إلى أذهاننا أن شهرة اسمه راجعة إلى عظمته الحربية وحدها، بل لذلك الاعتقاد السائد في النفوس، وهو اعتباره (أباً للشعب). والإعجاب اليوم لا ينال الجيوش الظافرة في ساحات الوغى، اكثر مما ينال ذلك (الجندي المجهول) الجامع لرفات الانتصار والانكسار.
إن شهرة كبار القواد الذين خاضوا غمار الحرب العظمى، وكان النصر حليفهم في المعارك الكبرى، قد تضاءلت حتى كادت تتلاشى؛ كذلك مال بلسودسكي ومصطفى كمال وموسوليني، فسوف يصبح اسم كل منهم خرافة سائدة في أفواه الأجيال المقبلة.
ومن يحرز الشهرة إذن؟ إن رجال الألعاب الرياضية وأبطال الملاكمة ونجوم السينما هم وحدهم الذين يحرزون الشهرة دون غيرهم. أما الأولون فلأن الجماهير تساهم بقسط وافر في الشهرة التي يحرزونها عن طريق المراهنة في مبارياتهم؛ وأما نجوم السينما فيستولون على الشهرة بفضل الملابس الزاهية وإتقانهم الأدوار التي تتطلب المثل العليا في الحب والتضحية.
ولأنهم جميعاً يشغلون قلوب الجماهير ويستدرون عواطفهم في كل مناسبة، فملامحهم وصورهم وحياتهم الخاصة مطبوعة على صفحة كل قلب بفضل الصحافة المصورة التي تمهد لهم سبل الشهرة والدعاية فكاروزو مثلا اشتهر اكثر من غيره من المغنين السالفين بفضل اختراع (الفونوغراف) الذي خلد صوته.
إن مهمة المؤرخ دقيقة وعسيرة في هذا العصر فيجب ألا يعتمد على الشهرة وحدها في جعلها مقياساً للعظمة، وإني باعتباري مؤرخاً لا يحق لي مطلقاً أن اخدع نفسه وقرائي بجعل الشهرة عظمة. إني لا أجد اليوم موسيقياً بعد (مولر)، وأذكر (ليبرمان) في أول قائمة الفنانين العالميين، وأسائلنفسي وقرائي عن (كاتب القرن الحالي) الذي يحق له إحراز هذا اللقب النبيل، والذي له الفضل في تربية ملكة الذوق لجيلنا الحاضر فلا أجد (برنارد شو)، كما كان (فولتير) كاتب القرن الثامن عشر، نعم إن هناك كتاباً يفوقون (شو) سواء في قوة الابتكار أو سلاسة الأسلوب ومتانة التعبير، واذكر منهم: ابتمان، وهمسون، ومان، ودانزيو، وبيراندللو، ورولان، ولويس، ولكن (شو) قد اثر بآرائه ومداعباته واستحواذه على لب القارئ اكثر من سواه.
وإذا خطر لنا أن نتكلم عن السياسة حق لنا أن نعترف بأن رجالها قد احتضروا واختفوا من الأفق سراعا: ويلسن، ولينين، وكليمنصو. أما (لويد جورج) فشيخ رجال السياسة الحاليين وأكثرهم دهاء، و (موسولينى) أخطرهم وأصغرهم سناً، ولكن إذا تحدثنا عنه كسياسي، أيحق لنا أن ننعته بالعظمة؟ كلا! في الحكم للمستقبل. وموسوليني يؤدي الآن دوره على خشبه المسرح، وقد انصبت الأنوار فجأة عليه من كل جانب فاخفت (الرتوش والمكياج) التي تخفي شخصيته الحقيقية، وتظهره أمام الجماهير في ثوبه الخيالي معبودا للشعب؛ انه لا يزال في الفصل الثاني من الرواية التي تمهد القيام بدور البطل فيها، وليس لأحد أن يتكهن إذا كانت الستار سيسدل عن تصفيق واعجاب، او عن استهزاء وسخرية!
وإذا ذكرت سياسي الجيل الحاضر، فإني أتحدث عن (فينزيلوس) اليوناني و (ما زاريك) التشيكي: فالأول سياسي محنك ورجل داهية، والثاني حلم بني وطنه لعشرين عاماً، كما أن زعماء المضطهدين - لسان حال الشعوب المظلومة - قد أحرزوا الإعجاب بمبادئهم الاشتراكية السامية، وضربوا احسن الأمثال لأممهم في التضحية، وأخص بالذكر منهم: (مكسويني) محافظ كورك الذي ذهب ضحية إخلاصه لمبدئه، و (غاندي) نجم الهند - بل الشرق - الوحيد.
أما رجال العلم والصناعة فقد كان الجيل الماضي حافلا بالكثير من شخصياتهم البارزة. أما جيلنا الحاضر فمفتقر إلى طائفة كبيرة منهم، فانه لا يوجد اليوم علماء للآثار القديمة جديرين بإحراز هذا اللقب الذي استخلصه لنفسه شامبليون، ولا مؤرخون يستطيعون ارواء ظمأ المتعطشين إلى نظريات حديثة، ولا علماء في الاقتصاد والتشريع والفلك كعلماء القرن الماضي من الإنجليز أو الألمان.
إن عالمنا اليوم لا عمل له سوى الجمع بالنسبة للماضي، والتمهيد بالنسبة للمستقبل، ومع كل فهناك شخصيات برزت في بعض الصناعات التي كان العالم في اشد الافتقار إليها. فبركلند، وايد النرويجيان انتشلا شعوباً من المجاعات بإقدامهما على استخراج النتروجين من الهواء؛ و (هابر، وارنست، وارينوس) أول من أحدثوا نظريات جديدة بشان السوائل، كذلك (بور) الدنمركي و (بلانك) الألماني، والى جانبهما تأخذ (مدام كوري) مكانتها العلمية كامرأة واصلت البحث والدرس بعد موت بعلها بعشرين عاما.
أما علماء النفس فعلى رأسهم (فرويد) الذي أيقظت نظرياته الحديثة شعور ألوف المثقفين في العالم؛ ويجئ دور (اينشتين) شيخ علماء الحكمة الطبيعية الذي زحزحت نظرياته الرياضية الكثير من الاعتقادات العلمية التي كانت سائدة في أذهان علماء الأجيال الغابرة.
وهناك (مركوني) الإيطالي و (اركو)، والى جانبهما (اخوان رايت) و (فورد) والى جانبهم أبطال الصناعة الذين لهم الفضل في ابتكار اللاسلكي وبناء الجسور وحفر الترع وتشييد المنشآت الهندسية الحديثة كمحطات الكهرباء والخزانات والمصارف وناطحات السحاب.
ولكن أين هم هؤلاء الأبطال؟ من هم أساتذة الصناعة والفن اليوم؟ من يعرف منشئ جسر اليشون أو ارث الخامس أو خزان أسوان؟ من الصعب أن نعرف أسماء كل هؤلاء الأبطال، لان أعمال الشركات خيمت على جهود الأفراد، وجهود الأبطال قد اندمجت في أعمال الشركات. وعندما تنحدر الشمس إلى المغيب ونجد مكانها الأنوار الكهربائية المتلألئة، لمن نتوجه بالحمد على كل هذا؟ لمن الفضل في سر الاتصال بين الأمم بأسلاك التلغراف وفي نقل الرسم والصوت من مكان قصي فوق ثلوج سيبيريا إلى عبيد الكونغو مثلا؟ إن أحدا لم يستطع تذليل العلم وتسخيره في أغراض المجتمع وأفادته كما استطاع ذلك خالد الذكر (اديسون).
وهكذا نأتي في النهاية لنشيد بذكر اكبر عالم نظري إلى اعظم مخترع عملي، أولهما ألماني وهو عقل العالم الذي يميز به حقيقة الاشياء، وثانيهما أمريكي وهو عين العالم التي ترى بها الضوء، كلاهما نشأ فقيرا معدما، ليس مدينا لأحد ألا لعبقريته ونبوغه، هما (ايمانيس) الذي وهب الثقافة وحرية الفكر للعالم، و (بروميسثيس) الذي اختطف النور من الآلهة ليهديه إلى البشرية هما:
انيشتين واديسون.
محمد أمين حسون