مجلة الرسالة/العدد 65/القصص
→ العلوم | مجلة الرسالة - العدد 65 القصص [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 01 - 10 - 1934 |
من الأدب التركي
المعلمة الصغيرة
ترجمة الآنسة الفاضلة (فتاة الفرات)
تتمة ما نشر في العدد الماضي
لم تكلمني حتى وصلنا إلى (سركه جي) حيث موقف الترام هناك فقالت:
هنا كنت انتظر يا سيدي، وفي كل يوم كنت اركب الترام هنا، ولا ادري كيف أخطأت في هذه الليلة وركبت الترام الذاهب عن (الجسر) لا اليه؟ ولا ادري كيف لم انتبه لذلك؟ كان السبب كما قلت يا سيدي الظلام الحالك والمطر الكثير الذي ادهشني، لو تدري يا سيدي كم انتظرت هنا تحت سيول الأمطار معرضة للهواء الذي يعصف بشدة، وكم لقيت من الانتظار، لقد ظننت أن غشاء اسود قد ستر عيني، لا اقدر أن اصف لك اضطرابي حينما علمت منك أنها آخر عربة تسير في الليل، آه لقد تأخرت كثيرا. - لقد كانت كأنها في حمية عن الكلام ثم تركتها فذهبت فيه مذهبا بعيدا وقالت:
- غريب جدا أن المصادفات في بعض الأحيان تظهر للمرء عجائبها وغرائبها كأنها تسخر منه، لقد فاتني القطار أيضا في (مقرى كوى) لذلك تأخرت حتى ذلك الوقت لأني انتظرت هناك طويلا، ولم يكن يخطر لي على بال أنى هنا سأركب في آخر عربة تسير في الليل وفي غير الجهة التي اقصدها.
فسألتها:
- إذن أنت آتية من مقرى كوي؟
أخذت الكلفة ترتفع بيننا شيئا فشيئا لان وجودي بجانبها طول المسافة التي قطعناها أظهرها على حسن نيتي وجعل لي في قلب هذه الفتاة الشابة موقعا حسنا فأجابتني على سؤالي جواباً طويلا مفصلا، قالت:
اجل يا سيدي إني اذهب مرتين في الأسبوع إلى (مقرى كوي) لإعطاء درس خصوصي هناك لإحدى السيدات، اه يا سيدي! إن حياتي شقية جدا، محتم علي أن اشتغل من الصباح حتى المساء في جميع أنحاء هذا البلد الكبير، تصور المسافات التي اقطعها كل يوم: ذهبت اليوم صباحا إلى (طرابية) وعدت منها إلى (مقرى كوي) وأنت تعلم تباعد هذه المسافات وتنائي بعضها عن بعض. على هذه الصورة يجب أن اشتغل في أربعة أطراف البلد؛ فإذا كان الصيف احتملت كل ذلك، لان النهار طويل أتمكن فيه من تأدية دروسي من غير كبير مشقة ولا عناء، أما في الشتاء فالمشقة فوق الطاقة وخاصة في مثل هذه الأيام عند شدة النوء وكلب الشتاء، لقد غلبني اليوم البكاء اكثر من مرة، ولا أتذكر أني تأخرت مثل هذه الليلة، وما الذي أقوله الآن في البيت لوالدي؟
وهنا انقطعت عن الكلام ولم تجسر على إتمام جملتها، لأنها فجأة شعرت بخجل من سردها تاريخ حياتها، ولما لم تجد في نفسها القوة على إتمام كلامها غيرت مجرى الكلام وقالت وهي تنفض ذراعها المبتلة من المطر.
- لقد ابتلت ثيابي.
فقلت لها:
- إن مظلتك صغيرة فاطويها وخذي مظلتي فهي تحفظك من المطر.
ولكنها لم تقبل وقالت:
- أشكرك يا سيدي! لا أود أن تبتل ثيابك اكثر مما ابتلت، ألا يكفي ما تحملت حتى الآن من اجلي؟
أردت أن أعود بها إلى الحديث عن حياتها فقلت لها.
- إذن لك والد فقط يا آنسة؟
- نعم يا سيدي. ثم قالت:
- أضننا قد بلغنا الجسر؟
وسكتت كأنها لا تريد أن تبحث عن شيء أبدا، ولكنها لم تتمكن من ذلك لأنها كانت في حاجة إلى أن تتكلم عن نفسها وان تحدثني عن حياتها، اجل! بحاجة شديدة إلى ذلك، فقالت:
- فقدت والدتي منذ سنتين، ومنذ ذلك الوقت اضطررت إلى العمل الكثير. كانت والدتي في حياتها هي التي تشتغل لنا، فلما ماتت ورثت تلك الوظيفة عنها وانتقلت إلى بمرارتها والمها.
هل لك والدة يا سيدي؟
فأشرت لها برأسي أن نعم، على أنها ما كانت تنتظر مني جواباً، لأن سؤالها هذاكان مقدمة لما تريد أن تحدثني به فقالت:
- إن اكبر تغيير يطرأ على حياة المرء يبتدي من تاريخ وفاة امه، لقد كنت حتى وفاتها اجهل الحياة وما فيها، كنت في مدرسة داخلية لا اعرف من الحياة إلا قدر ما يقع عليه نظري بين جدرانها السامقة، لا اعرف شيئا ولا اعرف أحدا ابدا، فلما توفيت والدتي واضطررت إلى ترك المدرسة والبقاء في البيت علمت أنني اجهل كل شي حتى أبى، أما الآن فقد عرفت الحياة جيدا، واختبرت أبناء آدم ظواهرهم وبواطنهم. لقد علمت كل ذلك، ولم يكد يمضي على دخولي في معترك الحياة اكثر من شهر. ولكن من المؤلم جدا أن يقف المرء على تلك الحقائق دفعة واحدة لان أعصابه تتزلزل بتلك الصدمة. لقد وصلنا إلى (الجسر) يا سيدي. أشكرك شكرا جزيلا، وهذه عربة هنا تقلني إلى البيت.
وهنا تهيأت لوداعي، ولكني رأيت أن المصادفات قد وقفتني على قصة حياة مؤلمة، فكنت أفكر في وسيلة أمد بها مرافقة تلك الفتاة حتى البيت، فقلت لها.
كلا أيتها الآنسة، إني سأرافقك حتى الجانب الآخر من (الجسر) لأني عدلت عن الرجوع إلى بيتي في مثل هذه الساعة وسأبيت بفندق هناك، فلم تعارضني بل اكتفت بتلك الإيضاحات وسرنا نقطع (الجسر) ونحن ساكتان.
كنا نمشي معا على أحد جانبي الطريق، وكنا نلاقي مشقة شديدة في إمساك مظلتينا بسبب ذلك الهواء الشديد البليل الذي كان يعصف من أحد جانبينا فيبلل ذلك الجانب. وفي تلك الأثناء أدارت نظرها فيما حولها وقالت:
- نعم إن بقاء الفتاة الشابة كل حياتها محرومة من عطف الوالدة وحنانها مصيبة ليست تضارعها مصيبة.
ثم استأنفت كلامها فقالت:
هل تدري يا سيدي ما الذي يقلق فكري اكثر من كل شي بعد هذا التأخر؟
كانت مضطربة تماما واضطرابها يزداد شيئا فشيئا، كانت تشعر أنها في حاجة إلى أن تقص على الرجل الذي لا تعرفه ولا يعرفها الناحية التي خفيت من نواحي حياتها.
فسألها بسكون قائلا:
- ما هو أيتها الآنسة ذلك الذي يقلقك؟
قالت والدي!. ثم سكتت قليلا ثم قالت:
- أراني لا اقدر أن اصف لك والدي وصفا دقيقا، لا ادري كيف تنظر إلى فتاة تشكو إليك من والدها لأول مرة رأيتها فيها، ولكنك بمرافقتك لي حتى هذا المكان اثبت لي طيبة قلبك وصفاء نيتك، وانك بحسن تلك النية وبصفاء ذلك القلب ستدرك سلامة الأسباب التي ساقتني إلى تلك الشكاية، أليس كذلك يا سيدي؟.
كان الهواء يعصف بشدة، فلم نقدر أن نضبط مظلتينا ونقاوم الهواء الشديد فأغلقناهما وأخذنا نمشي غير مبالين بالمطر القليل الذي ينزل، بل خففنا السير لندرك وقتا كافيا للتكلم معا، وقد اقترب كلانا من الاخر، وكنا نسير متلاصقين بقلبينا وجسمينا كأننا قد تعارفنا منذ سنين لا منذ دقائق.
كانت هي في حاجة إلى أن تشكو إلى همومها، اجل! كانت في حاجة شديدة جدا إلى أن تنشر كل ما خفي من نواحي حياتها، وتبسطه أمام ذلك الرجل الذي ربما كان اجتماعها به مصادفة واتفاقا أول اجتماع وآخره، فقالت.
- اعلم يا سيدي أنى الليلة ككل ليلة ساجد والدي سكران طافحا، وحينما يراني يستقبلني بكلمات الشتم والتحقير، وفي بعض الأحيان. . . ولم تتم جملتها كأنها رأت أنها قد اعترفت لي بأكثر مما يجب، لذلك قطعت كلامها بسرعة وأتمت جملتها التي شرعت فيها بصورة أخرى، فقالت:
- لا أذكر أن والدي عمل يوما ما عملا مثمرا يعود عليه وعلينا بربح؛ كان في شبابه صاحب مقهى صغير في (بك اوغلى)، وكان يأتي بمغنيات في الشتاء إلى قهوته، وكانت والدتي إحدى أولئك المغنيات، اشتغلت عنده ثم تزوجها، وقد علمت هذه التفصيلات واحدة بعد أخرى مصادفة واتفاقا، ولا ادري كيف تم الاتفاق بين أبى وامي على الزواج الذي كنت ثمرته، ولكن ظهوري في الحياة كان سببا لأمراض كثيرة أصابت والدتي ومصائب أخرى اضطرتها إلى ترك العمل وأرغمت والدي على ترك المقهى. كانت والدتي موسيقية بارعة، فبعد أن تركت المسرح صارت معلمة تعطي النساء دروسا في الموسيقى؛ وأنا اعرف والدتي وهي معلمة فقط، لم تكن تملك دقيقة من دقائق حياتها، بل كلها كانت رهن التعب والشقاء والتعليم والكدح في سبيل القوت، حتى اضطرت إلى وضعي في مدرسة داخلية، اخرج منها في الأسبوع مرة إلى البيت، أقول (البيت) وأنت تدرك بثاقب فكرك ما هو هذا البيت. كنا نسكن في غرفتين في الطابق الرابع من بناء كبير عال. كنت إذا جئتهما في يوم عطلة أو في يوم جمعة وجدتهما بعيدين عن الحياة العائلية كل البعد، فاهرب منهما إلى المدرسة. وكيف يكون البيت إذا كان لا يطبخ فيه الطعام، ولا تغسل فيه ثياب، ولا يعمل فيه شي مما يعمل في البيوت؟ كانت والدتي تشتغل بلا انقطاع لتحصيل القوت، وكان والدي بلا انقطاع يشرب الخمر، فهذان المخلوقان وان كانا متقاربين جسما يعيشان تحت سقف واحد، فقد كانا متباعدين كل البعد معني، وكنت أنا في سرور لأنني بعيدة عنهما، حتى أنى لم اكن أجد لهما في قلبي مكانا. استدعتني يوما مديرة المدرسة إليها وأخبرتني بوفاة والدتي ثم قالت: (ان المرء تصيبه في حياته مصائب جمة، فيجب أن يتلقاها بكل ثبات وصبر)، لم أجد في ذلك الوقت وفاة والدتي مصيبة كبيرة كما قالت المديرة، ولكني أصبحت احب والدتي بعد وفاتها، آه لو تعلم كم احبها الآن. . . . كم احبها!
سكتت هنا قليلا، وقد شعرت أن صدرها يعلو وينخفض من حسرة كامنة في أعماق قلبها، ثم قالت:
- منذ ذاك الوقت أصبحت الحياة على أضيق من سم الخياط. أخرجني والدي من المدرسة، واخذ يسوقني من مكان إلى مكان. اجل! اخذ يسوق فتاة في السادسة عشر من عمرها، لا تعرف من الحياة إلا ما رأته من نافذة المدرسة، إلى الأماكن التي كانت والدتها تعطي دروسا فيها لتقوم مقام أمها في تحصيل اللقمة! منذ ذاك الحين انتقلت إلى وظيفة السعي وراء كسب القوت. وأنا الآن أسعى بكل قواي وأعطي دروسا، وكل يوم اقطع مسافات شاسعة متعبة، فمن (طرابية) إلى (مغري كوي)، ومن (اسكدار) إلى (بك اوغلي)، ولكني لا ادري لماذا اشتغل هذا الشغل؟ ولماذا اسعي كل هذا السعي؟. . انهم يقولون لي (اشتغلي) وأنا اصدع بالأمر!. .
كنا على وشك الوصول إلى آخر (الجسر) فتراءت لنا أضواء (غلطة)، فرأيت من الواجب أن أقول لتلك الفتاة المسكينة كلمتين اسليها بهما، فقلت لها: - لا تجزعي يا انسة، اصبري وتجلدي، فالصبر أقوى من يعتمد عليه المرء في طريق الحياة. فهزت رأسها الصغير وقالت:
- الصبر يا سيدي؟ إن الإنسان أوجد لنفسه كلمات خداعه يخدع نفسه بها ليتحمل مصائب الحياة. وازداد اضطرابها فقالت:
هل تعلم يا سيدي ماذا ينتظرني في البيت بعد كل هذه الأتعاب وهذه المشقات من الصباح حتى هذا الوقت المتأخر من الليل؟ إن والدي في مثل هذه الساعة يعود من الحانة يرسم في مشيته لام الف، فإذا دخل المنزل جلس في غرفته يتم ما فاته في الحانة انتظارا لي، وهو قد جعل لنفسه في البيت حانة صغيرة، فغرفته مملوءة بالزجاجات الفارغة والأقداح المكسورة والصحون القذرة، لو رأيت كل ذلك لدهشت، كثيرا ما سعيت لتكون غرفته نظيفة ولكني لم افلح، فعدلت عن ذلك الآن وصرفت همتي إلى ترتيب غرفتي الخاصة وتنظيفها، لله تلك الغرفة الصغيرة! انه صغيرة إلا أنني أجد فيها راحة كبيرة، انزوي فيها بعد عودتي من العمل ليلا وبعد أن اخذ قسطي من كلمات التحقير والشتم التي يستقبلني بها أبى إرضاء لنفسه وكسرا لحدته، هناك في غرفتي فقط افهم معنى الراحة وأفسح المجال لدموع عيني أن تسيل فأجد السعادة في ذلك البكاء، اغسل به قسما مما تراكم على قلبي من الهم والبؤس.
تقول المسكينة (فأجد السعادة)، حتى هذه الفتاة البائسة ترى أن في البكاء سعادة، وفي هذه اللحظة لو لم اخش أن ترتاب بي لأمسكت يدها وشددت عليها بكل قوتي مظهرا ما في قلبي من الرحمة لها والإشفاق عليها.
فقالت بعد صمت قصير:
- أنا على يقين أنني هذه الليلة لن اقدر على تهدئته، آه ليت شعري ما الذي سيكون لي منه؟
فقلت لها:
- ولكنك أيتها الآنسة تشتغلين لأجل والدك، أفلا يدرك تلك الحقيقة فيشكرك عليها؟
وقفت عن السير في الحال ورفعت وجهها إلى ونظرت في وجهي ولم تقل شيئا، إلا أنني أدركت في الحال مغزى نظرتها هذه وما تقصده منها، كانت تريد أن تقول بها لمخاطبها الذي يدعي انه خبير بالحياة (أنت غر قليل التجربة) ثم خطر ببالي خاطر فجائي فقلت لها:
- أيتها الآنسة: إذا كانت مرافقتي لك حتى البيت وإعطائي الإيضاحات اللازمة لوالدك يفيدانك شيئا فاسمحي لي أن أرافقك حتى منزلك. فرددت قليلا ثم فكرت مليا وقالت - واكثر ظنها أن ذهابي معها سيخلصها من تحقير أبيها ويقلل من حدته -: - نعم يا سيدي اقبل لطفك هذا.
ثم أضافت إلى جملتها هذه قائلة:
- لقد اثر البرد في جسمك فهل لك في قدح من الشاي أقدمه إليك إذا انتهينا إلى البيت؟
ارتفعت الكلفة بيننا وأصبحنا صديقين. كنا في ذلك الحين نتجه نحو (غلطه قوله سي) فقالت:
أتراني لو لم تكن معي كنت اجسر على المرور وحدي من هذه الاماكن؟ ثم وقفت فجأة أمام دار كبيرة وقالت (هنا)
دخلنا إلى صحن الدار المفروش بأحجار المرمر ثم أخذنا نصعد الدرج الحلزوني، لا ادري كم صعدنا، ولكني شعرت بدوار في رأسي وضعفت رجلاي عن حملي لأننا كلما انتهينا من طابق وقفنا قليلا نستعيد قوانا للصعود إلى الطابق الذي فوقه. وقفت أخيرا وأنا أتتنفس بقوة، فقالت ضاحكة: لم يبقى درج نصعده!
فدخلنا في دهليز صغير فيه ضوء ضئيل ووقفنا أمام باب، فنظرت إلى وجهي ولم تجسر أن تطرق الباب فطرقته بظهر يدي فلم يجبني أحد؛ طرقته مرة ثانية فسمعت صوتا يشبه صوت حيوان وحشي، ثم سمعت وقع أقدام تخطو رويدا رويدا خطوات غير منتظمة، وشعرت باقتراب أنفاسه منا، وأخيراً فتح لنا الباب وعاد من غير أن ينظر إلى ما ورائه وفي قلبه من الغضب والسخط عواطف يخشى بأسها.
دخلنا في ممر ضيق ووقفنا أمام غرفتين متقابلتين إحداهما مفتوحة فدخلناها وعلمنا أن الرجل لم يتبين أننا شخصان إلا بعد دخولنا غرفته، فنظر إلي متحيرا بعينيه المحمرتين من تأثير الكحول فقلت له: إن ابنتك اليوم قد وقعت في خطأ.
كان عند كل كلمة القيها عليه في شرح موقف الفتاة وحالها ترتسم على وجهه المغطى بسحابه من البلاهة منشأها ذلك الإدمان ابتسامة خفيفة وترتخي أعصابه وتنحل كنت وأنا اسرد له القصة، انظر إلى تلك السحنة البلهاء تارة، والى غرفته أخرى. كان غائر العينين بارز عظام الخدين قد رجل شعره بدهن اللوز ليلمع، وعلى وجهه مسحة شباب ميت قد أقامت ذلك الهرم المتصابي بقوة العلاج الذي كان يستعمله.
وكانت الغرفة قذرة ما تحويه هذه الكلمة من معنى، وكان كل ما فيها عبارة عن كراسي عتيقة مكسرة، ومنضدة صغيرة كمناضد المقاهي عليها مشمع اسود اللون، وزجاجات خمر ونبيذ فارغات، وصحون قذرة، ومصباح قد طار من زجاجة قطعة فجعل مكانها ورقة سيجارة وينشر ضياء ضئيلا كأنه أنين باك موجع، وفيها فراش إن صح أن يسمي مثله فراشا، حولت نظري المتألم عن كل هذه الأشياء وقلت له:
- لقد جئت بالآنسة إلى هنا وهاأنذا أسلمها إليك.
فلما سمع مني تلك الكلمة ظهر ما لم يكن في الحسبان: ذلك أن والد تلك الفتاة المسكينة السكير البغيض الذي أبتدأ حياته أجيرا في أماكن الريب في (غلطه) أمضى قسما منهما في مرقص أنشأه بنفسه، تقدم مني مشيرا إلى فتاته الطاهرة التي كانت تنتظر النتيجة، وقد تجلت عليه تماما إمارات البلة وقال:
- لقد ظهرت الحقيقة أيها السيد. . .
- ثم اقترب مني وقال وهو ينظر إلى نظرة مرتاب:
- يظهر أن الآنسة قد وقعت من نفسك. . .
فأدركت سوء نية ذلك الرجل. كم كانت يدي في تلك الدقيقة تود أن تصفع ذلك السكير! حولت نظري إلى ابنته فوجدت وجهها قد علاه الاحمرار، لأنها أدركت غاية والدها.
لله أنت أيتها المعلمة الصغيرة! أيتها المخلوقة التي تشتغلين من الصباح حتى المساء لإشباعوالدك، هل أنت حقا ابنة ذلك الرجل؟!
حولت وجهها عني فلم اشك أنها في تلك الدقيقة كانت تود لألمها من تلك المهانة التي لحقها في عصمتها وعفتها، والجرح الذي أصابها في كرامتها، أن تهرب من بين يدي وتذهب إلى حيث لا أراها فتبكي. . . وتبكي. . .
لم اجبه بشي ما، إن الرجل كان لا يزال ينظر إلى نظرة المرتاب، فأدركت أن من الواجب البعد عن ذلك المكان. وكأنه أدرك ما دار في خلدي، فعرض علي مستهزئا كأسا من (الكونياك) فقلت:
- شكرا. ليس لدي من الوقت ما يتسع لذلك.
وسرت نحو الباب، فظهرت من الفتاة حركة تدل على أنها تود أن تخرج معي حتى الباب تودعني. لكنها لم تجسر على ذلك في بادئ الأمر، ثم أقدمت عليه وسارت ورائي. بقى والدها في غرفته يضحك ضحكا عاليا كأنه يعلن به ما قاله أولا: (يظهر أن الآنسة وقعت من نفسك!!)
تبعتني الفتاة حتى باب الدار وقلت بصوت وتخنقه العبرات:
- سيدي. . .
ثم اضطربت ولم تستطع أن تتم جملتها.
حينذاك أخذت يدها وهي في القفاز بكلتا يدي، وشددت عليها مظهرا ألمي على تلك الزهرة الناضرة التي نبتت في ذلك المكان الملوث، وحكم عليها أن تعيش فيه عيشة حقارة ومهانة وقلت لها:
- أيتها الآنسة: اكرر لك جملتي السابقة وأقول. إن الصبر أقوى ما يعتمد عليه المرء في طريق الحياة. لا أظن أننا نلتقي مرة أخرى، ولكن كوني على ثقة أنني دائما سأتمنى لك من صميم قلبي السعادة والهناء.
فانحدرت من عينيهادمعتان كبيرتان وسالتا على خديها ثم استقرتا على صدرها، أعلنت بهما شكرها لي.
ففررت من ذلك المحل، وكنت وأنا انزل الدرج أقول في نفسي:
(لقد وعدتها أن أتمنى لها دائما السعادة، ولكن أين منها السعادة؟!).
لعمري لو رايتها حين يبدي الربيع نواره، وينثر على بسط الزبرجد أزهاره، على عربة من تلك العربات الضخمة، التي يركبها صائدات القلوب وسالبات الجيوب وهي متجهة نحو (شيشلي) حيث تموت الفضيلة، وتحيا الرذيلة، تسلم على أحبابها بابتسامات غريبة وإشارات مريبة، لم اعجب لذلك بعد الذي رأيت من حالها مع أبيها.
ما أتعس تلك الفتاة الصغيرة! إنها بين شقاء ين: شقاء الحاضر بابيها المختبل، وشقاء المستقبل بشرفها المبتذل.
نزيلة بعلبك
فتاة الفرات