الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 649/عالم ما بعد القنبلة

مجلة الرسالة/العدد 649/عالم ما بعد القنبلة

بتاريخ: 10 - 12 - 1945


للأستاذ نقولا الحداد

بعد ساعة أو بضع ساعات من سقوط القنبلة الذرية على هيروشيما كان الجنس البشري كله مدهوشاً من هذا الحادث الهائل المفاجئ - أجل مفاجئ - من ألوف الطائرات ترمي ألوف الأطنان من المتفجرات فتدك أحياء المدن حياً حياً إلى طيارة واحدة ترمي قنبلة واحدة تزن رطلا واحداً، فتدك مدينة واحدة عظيمة في لحظة واحدة دكَّا فظيعاً - خبر لا يكاد يُصدَّق. ولكن العالم كله صدقه، لأن هوله لمع في جميع البلدان وأقام البرهان وحتَّم الإيمان وضعضع البهتان. والمرء يجزع من خوارق الحدثان التي تمثل في مخيلته قصص الجان.

بقيناً انتقل العالم من عناء مناوشة المتفجرات إلى تحت سلطان الذرة الحاسم؛ بكلمة واحدة من لسان الأورانيوم خرّت اليابان على ركبتيها ضارعة مستغيثة تلتمس الرحمة والرفق.

لو توقف مخترعو قنبلة الذرة منذ شرعوا في محاولة صنعها لخرت ألمانية ساجدة منذ سنة 1940 وحُقِنتَ دماء كثيرة.

أصبح البشر الآن خائفين على مدينتهم أن تبيد بتاتا، وعلى حسبهم أن ينقرض كما انقرض قبله الدينوسور وحيوانات أخرى.

صار الناس يحسبون حساب المستقبل الجديد - نعم سيكون المستقبل كله جديداً. وسيصبح حاضرنا كأنه ماضي ما قبل التاريخ كما كان العصري الحجري بالنسبة إلى عصرنا ما قبل التاريخ.

عصر مجد الكيمياء انقضى وجاء عصر سؤدد الذرة الكهربي. وأصبح اكتشاف الكهربائية درجة للصعود إلى عالم الذرة، كما صار عصر البخار كالحمار لدى عصر الطيار.

القنبلة الذرية لم تفتح فصلا جديداً في كتاب العلم بل فتحت دائرة معارف جديدة، وفتحت فصلا جديداً في الثقافة، سيضاف إلى مناهج الدراسة في الجامعة منهاج جديد للتخصص في (علم الذرة).

في عام أو بضعة أعوام سيرى طلبة الطبيعية والكيمياء لديهم كتاباً مطولا في علوم الذرة - بناؤها وتركيبها وتحليلها ووظائف أعضائها وقواها ومفاعيلها إلى غير ذلك. و دراستها، لأنها ستصبح السبيل الوحيد لفهم الألفية الكيمية والتيار الكهربائي ولتبسيط الكيمياء والكهرباء. وسيلقب الناجح في علم الذرة بكالوريوس الذرة، أو أستاذ الذرة، أو دكتور الذرة، وأخيراً فيلسوف الذرة.

مسكين طالب العلم في العصر الجديد، سيمتد عمر دراسته عاماً أو عامين أو أكثر. . . لا تجزعنَّ يا بنيَّ، لأن الحقائق التي وضحت سهلت الدراسة

لا يصح أن نسمي هذا العصر الجديد عصر الأورانيوم، لأن تحطيم الذرة لاستخراج الطاقة منها لن يقتصر على الأورانيوم وحده، بل سيتناول العناصر الأخرى الواحد بعد الآخر. اليوم تحطم الأورانيوم وبعده الرصاص، ثم الحديد، ثم الكربون، وربما تحطم ذرات الهيدروجين أخيراً.

ستتحطم ذرات القلم الذي في يدي، وذرات الورق الذي بين يديك، وذرات الكرسي الذي تقعد عليه ستكون كل ذرة في الكون قابلة التحطيم، كما أن ذرات عناصر الشمس متحطمة تباعاً ومنتشرة حطامها في الفضاء فوتونات أي ضوئيات. ولولا حطام ذرات الشمس المتناثرة في الفضاء لما رأينا نوراً ولا دفئنا بحرارة. لسوف تذوب الشمس حطام ذرات في الفضاء، كما يذوب الشمع أمام النار. وكذلك سيكون مصير جميع الأجرام تتناثر كلها فوتونات في الفضاء اللامتناهي. هي من الأثير وإلى الأثير تعود. وربما تجدد تكون الكون بعدئذ في دورة أخرى، والله أعلم.

سيصبح تحويل معدن إلى معدن أسهل من تحويل اللبن إلى كوتشوك، والقطران إلى روائح وألوان. ثم تكون القوة أطوع ليد الإنسان من الكلب الأمين أو الحصان الودود. قد يمكن الإنسان أن يطير حول الكرة الأرضية تحت شمس الظهر، ويبقى تحت شمس الظهر حتى يجد نفسه قد عاد إلى مطاره ولا يخزن معه من القوت إلا قدر الحمصة في علبة سيجارة. وكذلك يستطيع بزورقه أن يمخر البحار الخمسة بقوة هذه الحمصة، ويطوف جميع بقاع الأرض في سيارته بقوة هذه الحمصة

وسيرى حمصات الأوررانيوم أو الراديوم أو غيرها تدير معامل الصناعات على اختلاف أنواعها. نعم سيرى الإنسان نفسه سيد الطبيعة بالفعل - يهيج البحار ويسكتها، ويجري الأنهر ويحبسها، ويستنزل الأمطار ويكفها - يتصرف بالطبيعة كما يشاء.

ولكن وا أسفاه سيبقى هناك شئ لا يستطيعه الإنسان، يسيطر على الأورانيون ويتسلط على المعادن ويعتقل القوة العظمى. ولكن هناك شيئاً لا يستطيعه، لا يستطيع أن يملك عنان الطبع البشري! يستطيع أن يقهر قوات الطبيعة، ولكنه لا يستطيع أن يقهر شهوته. يستطيع أن يكبح جماح الحر والبرد الريح والبحر والعاصفة، ولكنه لا يستطيع أن يكبح جماح رذيلته وشروره.

يكون سيد المادة، ولكن شهوته تبقى سيدته!

يشمخ على عوامل الطبيعة، ولكن نزعاته تشمخ عليه!

يركب متن الطاقة الذرية، ولكن شيطان أهوائه يمتطيه!

يحطم الذرة، وأخيراً الذرة تحطمه!

أصبح الإنسان الحيواني عند مفرق طريقين: إما أن يعقل ويعتقل القوة الذرية فيستخدمها لمتعه. أو أنه ينتحر بها.

المدنية الآن في نشوة من خمر انتصارها على الطبيعة. فان استطاعت أن تصحوا من هذه النشوة قبل أن تهوي إلى هاوية الفناء، وأن تجعل النظم الاجتماعية والسياسية علما بقواعد وأصول لتسير عليها، كما جعلت السنن الطبيعية علوماً لها، نشطت مدينة جديدة في فردوس من السعادة لا يفرغ منها

نقولا الحداد