الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 647/رأي جديد في

مجلة الرسالة/العدد 647/رأي جديد في

بتاريخ: 26 - 11 - 1945


حماد الرواية

للأستاذ السيد يعقوب بكر

الرواية في عصر حماد:

لن نتحدث هنا عن الرواية في عصر حماد من حيث هي رواية مستقلة لها مظاهرها الخاصة، وإنما سنتحدث عنها من حيث هي طور من أطوار الرواية العربية. ومعنى هذا أننا لن نفصل بينها وبين أطوار الرواية العربية قبلها، وإنما سنتحدث عنها وعن تلك الأطوار معاً. ونحن نقصد من هذا إلى أن نفهم هذه الرواية على وجهها، وان نتفهم المقدمات التي أدت إليها.

بدأ العرب يدونون شعرهم في أخريات القرن الأول للهجرة، وليس معنى هذا أنهم كانوا يجهلون الكتابة قبل هذا التاريخ، فقد كانت الكتابة معروفة لديهم قبل الإسلام بزمن طويل تدلنا على هذا تلك (المخربشات) التي تسمى خطأ بالنموذجية واللحيانية، وتلك (المخربشات) التي عثر عليها في الصفا بجوار دمشق؛ وهي كلها مكتوبة بخط ينتمي إلى الخط العربي الجنوبي. ثم هناك نقش النمارا بسوريا، الذي نجده على قبر امرئ القيس بن عمرو اللخمي، والذي هو مكتوب بالخط النبطي المشتق من الأرامي؛ وهو يرجع إلى سنة 328 م. تدلنا هذه الآثار كلها على أن الكتابة كانت معروفة لدى العرب قبل الإسلام. لكن هذه الكتابة لم تكن صالحة لأن تدون بها الأشعار؛ فقد كانت لا تعبر عن الحركات الممدودة، كما كانت خالية من الإعجام. إنما أدخل الاعجام على الكتابة في أيام الحجاج فانتقلت به الأبجدية من 15 حرفاً إلى 28 حرفا؛ كما أن نظام الحركات لم يستقم إلا بعد أيام الحجاج بزمن طويل.

قلنا إن الكتابة العربية لم تكن صالحة لأن تدون بها الأشعار. ولكننا نجد الأستاذ بروكلمان (تكملة الجزء الأول من كتابه صـ 131 - 132) يرى أن الخط النبطي الذي كتب به نقش النمارا ربما اصطنع في أمور الحياة الخاصة، وربما دونت به قصائد الشعراء النصارى بالحيرة؛ ويصل من هذا إلى أن مرجليوث وطه حسين قد حادا عن الصواب حين أنكرا اصطناع الكتابة لدى عرب الشمال قبل العصر الإسلامي، وحين انتهيا إلى أن الشعر الجاهلي منتحل كله.

يرى بروكلمان أن بعض الشعر الجاهلي قد دون في الجاهلية، وأنه لا سبيل إذن إلى إنكار الشعر الجاهلي كله. ونحن لا نستطيع موافقته على هذا الرأي، أولا لما قدمناه من قصور الكتابة قبل الإسلام عن أن تدون بها الأشعار. وثانيا لأننا لا نعلم شيئا عن ذلك الشعر الذي دون في الجاهلية. ومهما يكن من شيء، فهو على حق حين يأخذ على مرجليوث وطه حسين إنكارهما اصطناع الكتابة قبل الإسلام؛ ولكنه يحيد عن الحق حين ينتهي إلى أن بعض الشعر الجاهلي صحيح، لأن اصطناع الكتابة ليس معناه تدوين الأشعار وحفظها من الخطأ.

على أن بروكلمان يعود فيقول إن تدوين الأشعار في الجاهلية لم يغلب على روايتها شفاها، وإنما كانت الرواية الشفهية هي الغالبة. وهو في هذا القول يقترب كثيرا من الرأي الذي نأخذ به، من أن الرواية الشفهية للأشعار كانت السائدة في الجاهلية. بل إننا نرى أن الرواية الشفهية ظلت سائدة حتى أخريات القرن الأول للهجرة، أي بعد كتابة القرآن بزمن طويل. ونحن نفسر هذا بأن للعادة سلطانها وغلبتها، وأن العرب ظلوا على روايتهم الشفهية للأشعار جرياً مع العادة ومسايرة لها. هذا إلى أن طبيعة اشعر العربي القديم، وهي طبيعة غنائية، من شأنها الترغيب في الإنشاد والرواية الشفهية، لا الترغيب في التدوين والنقل.

بدأ العرب يدونون شعرهم في أخريات القرن الأول للهجرة. ومعنى هذا ن الشعر الجاهلي لم يتئد إلينا إلا بالرواية الشفهية. فهل من الممكن أن يكون هذا الشعر قد تئدي إلينا هكذا سالما؟ وماذا يضمن لنا أنه ظل بعد تلك المدة الطويلة من الزمن على حاله التي صاغه فيها قائلوه؟ ليس من ريب في أن أبياتا كثيرة يقولها الشاعر في الافتخار بقبيلته وهجاء أعدائها، فيتناشدها قومه ويتناقلونها، قد بقيت ولم تحل صورتها. ليس من ريب في هذا، ولكن هناك قصائد طويلة كالمعلقات ما كانت لتبقى لو كان بقاؤها وقفاً على تناشدها وتناقلها. إنما هم الرواة الذين حفظوها لنا، ونقلوها إلينا، فقد كان لكل شاعر راويته الذي يصحبه، ويحفظ أشعاره، وينقلها إلى الناس. وكان كثير من الرواة شعراء، وكان كثير من الشعراء رواة. فامرؤ القيس راوية أبي دؤاد، وزهير راوية أوس بن حجر وطفيل الغنوي، والحطيئة راوية زهير، وهدبة بن خشرم راوية الحطيئة، وجميل عذرة راوية هدبة، وكثير خزاعة راوية جميل. وكانت مهمة الرواية لا تقتصر على حفظ الأشعار؛ وإنما كانت تجمع إلى حفظ الأشعار شرح ما فيها من إشارة، وإيضاح ما فيها من انبهام، وحكاية ما أحاطها من ظروف.

كانت رواية الشعر في أثناء الجاهلية وفي خلال النصف الأول من القرن الأول هوية يقصد بها التلهي وتزجية الفراغ؛ ولكنها أخذت بعد ذلك تصطبغ بصبغة المهنة، وتلبس لبوس العمل الذي يرجى منه الكسب. وبعد أن كان كل راو مختصا بشاعر واحد في أغلب الأمر، يفرغ له ويعكف على شعره حفظا ورواية وشرحا؛ أخذ الرواة يكونون طبقة خاصة، تعنى بحفظ الكثير من الشعر القديم والمعارف المتنوعة. فلما بدأ تدوين الشعر في أخريات القرن الأول للهجرة، كان الكثير من أشعار الجاهلية وأخبارها دائراً على الألسنة والشفاه.

إذن فالرواة هم الذين حفظوا لنا الشعر القديم، ونقلوه إلينا؛ ولكن ليس معنى هذا أنهم قد أدوا إلينا كل هذا الشعر القديم. فقد امتدت يد العفاء إلى كثير من هذا الشعر. ذلك لأن كثيرا من الرواة قتلوا في الحروب، أو توفاهم الله، دون أن يخلفوا وراءهم من يصل روايتهم وينتهي بها إلى غايتها. هذا إلى أن قبائل كاملة، ومعها رواتها، قد انتشرت في البلاد البعيدة بداعي الغزو والفتح، فنسيت لغة صحرائها وأخبار جاهليتها وأشعار شعرائها الأقدمين. كذلك ليس معنى هذا أن ما وصلنا من الشعر القديم قد وصلنا سالماً صحيحا. ذلك لأنه قد زيد عليه أشياء، وسقطت منه أشياء، وأبدل فيه شيء من شيء؛ وهو ما يرجع السبب فيه إلى طبيعة الرواية الشهية وقصور الواعية الإنسانية.

قلنا إن رواية الشعر كانت في الجاهلية وصدر القرن الأول الهجري هَوِيّة يُقصد بها التلهّي وتزجية الفراغ، وإنها أصبحت بعد ذلك عملا يرجى من وراءه الكسب. ونقول الآن إن هذا التطور الذي لحق رواية الشعر ليس إلا صدى لتطور لحق الحياة والناس. ذلك لأن العصر الإسلامي الجديد لم يلبث طويلا. حتى أتى بوجوه من الحياة جديدة، وميول نفسية جديدة؛ وحتى صرف معظم المسلمين عن الشعر القديم، ذلك الشعر الذي أصبح يمثل روح الظلال والكفر، إلى ما يعود عليهم بالخير في الدنيا والآخرة، ألا وهو القرآن والحديث. وهكذا أخذت صناعة الشعر كما يفهمها القدماء في الاضمحلال والذبول وأخذت أشعار الجاهلية وأخبارها في الاندثار والعفاء. لكن شيئاً حفظ على الرواية رونقها الذي كاد يبليه العصر الجديد، وحفظ على الرواة مكانتهم التي كانت تريد أن تزول؛ بل جعل من هؤلاء الرواة طبقة خاصة لا هم لها إلا الرواية، ولا شغل لها إلا ما أبقته الأيام من الشعر القديم والأخبار القديمة وتدوينها.

هذا الشيء هو مساس الحاجة إلى تفسير القرآن وشرح الحديث، ومن ثم إلى كتابة النحو وتدوين اللغة. ذلك لان العرب حين انتشروا في البلاد المفتوحة، وامتزجوا بأهلها من الأعاجم، وانتأوا عن الصحراء مهد لغتهم، أخذوا يفقدون فصاحتهم الأولى، وجعلوا ينسوْن بلاغتهم المأثورة. هنالك غمضت عليهم لغة القران والحديث، وخفيت عليهم أسرارها. وهنالك مست الحاجة إلى تفسير القرآن وشرح الحديث، ومن ثم إلى كتابة النحو وتدوين اللغة. وكان الشعر القديم هو أداة هذا كله. فكان الفقهاء والعلماء يلتمسون البيت أو البيتين أو الأبيات عند الرواة، ثم يثبتونها في كتبهم. وكلما كان البيت أوغل في القدم، كان أوثق عندهم في الاستشهاد.

كانت اللغة إذن تُدرس لا لذاتها، ولكن لخدمة الشرع؛ وكان الأدب يُدرس لا لذاته، ولكن ليكون أداة لشرح الذكر الحكيم. ولكن لم تلبث الحال طويلا حتى فطن العلماء إلى أن في الشعر القديم ما يصور نفوس الشعراء القدامى، وإلى أن هنالك أسباباً من اللذة والمتاع في الأخبار القديمة. حينئذ أصبحت الحال غير الحال، وأضحى الأمر غير الأمر؛ فإذا بدراسة لغة القرآن تؤدي إلى دراسة الأدب نفسه، وإذا بالدارسين يصبحون إنسانيين بعد أن كانوا متكلمين

حدث هذا التطور العظيم في أخريات عهد بني أمية، وفي عهد أبي العباس والمنصور والمهدي من خلفاء بني العباس. فكان أبو عمرو بن العلاء، وحماد الراوية، والمفضل الظبي، وخلف الأحمر، أهم القائمين بجمع الشعر القديم وتدوينه؛ وكان أبو عبيدة والأصمعي، ومحمد بن السائب الكلبي، وابنه هشام الكلبي، وأبو عمرو الشيباني، وابن الأعرابي، والسكري، والطوسي، أهم القائمين بجمع الأخبار وتدوينها. وكان أعراب البادية يُدْعَوْن إلى الكوفة والبصرة، ويسألون عما يحفظون من شعر وأخبار. ثم أصبح من دأب العلماء فيما بعد أن ينزحوا إلى البادية، فينتقلوا بين قبائلها، ويستقوا من هذه القبائل الشعر والأخبار.

تجمعت إذن لدى الرواة والعلماء طائفة عظيمة من الأشعار والأخبار، ضمنوها ما خلفوه لنا من آثار. وهي طائفة فيها الدلالة كل الدلالة على نوع الحياة التي كان يحياها الجاهليون، وعلى النزعات التي كانت تعمل في نفوسهم. وليس من همنا هنا أن نفصل القول في صحة نسبتها أو انتحالها؛ إنما نرجع القارئ إلى ما قدمناه من أن طبيعة الرواية الشفهية وقصور الواعية الإنسانية قد أديا إلى زيادة أشياء وسقوط أشياء وأبدل فيه شيء من شيء. أعان على هذا ما تمتاز به اللغة العربية من كثرة المترادفات، وهو ما قد يؤدي إلى إبدال كلمات من كلمات. وأعان على هذا أيضاً أن القصيدة الجاهلية مهلهلة النسج مقلقلة الوضع، وهو ما قد يؤدي إلى سقوط بيت أو جملة أبيات أو إلى وضعها في غير موضعها. كذلك قد نجد في قصيدة واحدة أبياتاً لشعراء مختلفين، لم يؤلف بينهم إلا اتفاق الوزن والقافية. هذه كلها وجوه لما لحق الشعر الجاهلي من زيادة وحذف وتغيير. ثم لا ننسى أن من الرواة من كان يعتمد الحذف والتغيير. ودليلنا على هذا قلة ما نلقاه فيما لدينا من الشعر من أسماء الآلهة الجاهلية؛ وهي آلهة كانت تشغل جانباً من حياة الجاهليين، وكان لها صدى ولا شك في أشعارهم. ثم هناك من الرواة من كان يُصلح ما يصل إليه من أشعار، ويزيد عليه مُكمِّلا. هذا إلى ما يقوله ابن سلام (ص 22) من أنه لما راجعت العرب رواية الشعر وذكر أيامها ومآثرها، استقل بعض العشائر شعر شعراءهم وما ذهب من ذكر وقائعهم؛ وكان قوم قلت وقائعهم وأشعارهم، وأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار، فقالوا على السن شعراءهم. وأخيراً نصل إلى من كان يقصد الخداع من الرواة، فكان ينحل شعره الشعراء القدماء، ليشتهر بين الناس بكثرة الرواية؛ ويقول في هذا ابن سلام (ص 22 - 23) (. . . ثم كانت الرواة بعد، فزادوا في الأشعار. وليس يشكل على أهم العلم زيادة ذلك ولا ما وضع المولدون، وإنما عضل بهم أن يقول الرجل من أهل بادية من ولد الشعراء أو الرجل ليس من ولدهم، فيشكل ذلك بعض الإشكال). فهذه وجوه أخرى لما لحق الشعر الجاهلي من زيادة وحذف وتغيير وانتحال.

هذه صورة للرواية العربية قبل عصر حماد وفي أثناء عصره؛ جهدنا أن تكون واضحة الخطوط، بينة الملامح، صادقة التعبير. وهي صورة ستعيننا دون ريب على تفهم رواية حماد الخاصة به، وعلى بحثها البحث الصحيح القائم على أسس صحيحة، وعلى الخروج من هذا بالنتائج الصحيحة التي إنما نكتب هذا البحث في سبيل بلوغها.

(للبحث بقية)

السيد يعقوب بكر