مجلة الرسالة/العدد 647/تطور التجارة نحو وحدة عالمية
→ في مصر فلسفة | مجلة الرسالة - العدد 647 تطور التجارة نحو وحدة عالمية [[مؤلف:|]] |
حول قضية فلسطين ← |
بتاريخ: 26 - 11 - 1945 |
(وهي محاضرة ألقاها معاليه بقاعة بورت التذكارية)
لصاحب المعالي محمد حافظ رمضان باشا
دعاني قسم الخدمة العامة إلى أن أفتتح موسمه الثقافي هذا العام عن تطور هذا الاتجاه نحو وحدة عالمية. وإني لأشكر للقائمين بالأمر فيه هذه الدعوة، وإني أتقبل بالسرور أن أساهم بنصيب في نشر الثقافة العامة في مصر. ومما يسعدني أن المعاهد العلمية والدوائر السياسية في هذه الأيام تبدي اهتماماً بدراسة مصير العالم من حيث ارتباط بعضه ببعض، فإن الله بعث أرواحنا في الحياة كشعلات مضيئة تنمو بالمعرفة وتزداد نوراً بالتضامن، وقد وضع في قلوبنا بذور السعادة فلا محل لأن ننتزعها بالحرمان والتفكك بل يجب أن ندعو دائما إلى الحقائق العلمية.
إن السلام العام لا يتم بترك الأمور تجري في طريقها، فحوادث العالم وتاريخها وطبيعتها كلها تحملنا على القول بأن نار الحروب لن تخمد، ولكن جهود التخريب يمكن مغالبتها بالعمل على تحويل وجهة الحوادث، وهذه المهمة تقع اليوم على عاتق الشعوب أكثر من غيرها، وهو أمر يتوقف على إرادتها الإجماعية. وهذه الإرادة لابد أن توجه مجر الحوادث إلى طريق وحدة عالمية للأمن والسلام
ولا ريب أن التطور الذي نشاهده اليوم نحو هذه الوحدة ليس وليد هذه الحرب بل قد بدأ منذ أواخر القرن الثامن عشر عندما اخترعت الآلات الصناعية وانتشرت في مناطق الفحم والحديد فتوجهت جهود الشعوب إلى ميدان الصناعة والاقتصاد وبدأ العالم يتجه نحو وحدة اقتصادية؛ وإذا كان أساطين السياسة قد جهلوا أو تجاهلوا هذا التطور منذ بدايته مدفوعين بأغراض سياسية فإنهم اليوم يجهرون به ويعملون لتنظيم العالم تبعا لمقتضياته.
وإذا كلن مفهوماً أَيها السادة فيما مضى مع تباعد الأمم وعزلتها أن يقوم للوطنية المبنية على وحدة الجنس واللغة وحدها قائمة فقد أصبحت حال شعوب العالم اليوم مرتبطا بعضها ببعض، وأصبح القول بغير ذلك ضربا من الأثرة يرضي به كبار الساسة خيلاءهم. ولا عجب فالعالم يتطور قطعا نحو وحدة عالمية. إذ قد ارتبطت أجزاؤه كلها برباط وثيق وأصبح ما يصيب أدناه يشعر به أقصاه شعوراً ليس مبناه العاطفة وحدها وإنما أساسه المنفعة. فما أُحرى الناس أن يكونوا جميعاً في الإنسانية أخواناً يتميز الصالح بعلمه وعمله لا القوي ببطشه وجبروته؛ وهي كلمة قالها الله تعالى في كتابه: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم) وهكذا قالها الإسلام منذ أربعة عشر قرناً ولم يجعل للعرب فضلا على من عداهم من الأمم بل سوى بين الجميع وجعل الأفضلية للتقوى وللعمل الصالح المفيد
سادتي:
قبل أَن أتحدث إليكم عن أثر الواقع في تطور العالم اليوم نحو وحدة عالمية يجدر بي أن أضع أمام أنظاركم صورة من هذا التطور في القرن التاسع عشر فأروي لكم ما تحدث به مستر كارول رأيت الذي كان مديراً لمكتب العمل بالولايات المتحدة في أحد تقاريره من أنه كان يوجد صانع مسامير يدعى يوناتام في ولاية مسانشوسيت وقد رأى في منامه في ليلة من ليالي عام 1813 شبحاً يطلب إليه أن يرفع أجور عماله بما يوازي النصف وأن يخفض ثمن مبيعاته بما يوازي الثلث تقريباً، فشجب يوناتام قائلا إنه بهذا يسير نحو إفلاس محقق، ولكن الشبح أخبره أن أرباحه ستضاعف أضعافا مضاعفة. واستيقظ يوناتام من رؤياه منزعجاً وهو يعجب لهذا الأمر. ولم يمض وقت طويل حتى قدم إليه بعض المهندسين بآلة صناعية تدار بالبخار لعمل المسأمير؛ وما استخدمها يوناتام حتى تضاعف إنتاجه ونقصت أثمانه واتسعت تجارته وكثرت أرباحه وأصبح هو وأحفاده من أغنياء أمريكا.
يؤكد المستر كارول أيضاً أن هذه الرؤيا لم تكن خيالا وإنما كانت حقيقة واقعة، إذ أنه أجرى تحقيقاً دعمه بالأسانيد والأرقام فيما أنتجته الآلة البخارية التي استخدمها يوناتام من نتائج يستخلص منها أنه مع تضاعف أجور العمال قد تضاعفت الأرباح وتحقق للمستهلكين وفر كبير في أثمان المبيعات. وكذلك تحققت رؤيا يوناتام التي كانت في ظاهرها حلما من الأحلام.
أيها السادة:
إن اختراع الآلة الصناعية يدل على مبلغ التطور الذي حدث للعالم ويؤيد أن صاحب العمل والعامل والمستهلك جعلهم جميعاً يستفيدون وكانوا قبل أن توجد خصوماً لا ينتفع أحدهم إلا على حساب الآخرين.
هذا هو حادث يوناتام عندما استعمل الآلة الصناعية، وتذكرون بجانبه ما كان من أمر الزعيم غاندي في الهند إذ دعا منذ سنوات إلى العودة لاستعمال مغزل القرون الوسطى فلم يصب طريقته النجاح في مزاحمة الآلة الصناعية، فاضطر الهنود بعدها إلى استخدام الآلات للغزل والنسج. وذلك لأن الحياة في هذا العصر غيرها في القرون الوسطى، ولان الآلات الصناعية حلت محل الأعمال اليدوية بسبب سرعة إنتاجها وقلة تكاليفها.
ويظهر من هذين الحادثين أن الآلة الصناعية جعلت من حلم يوناتام حقيقة ومن حقيقة غاندي حلماً لم يتحقق، والواقع أنه منذ اخترعت الآلة وسخرت لخدمة الإنسان أحدثت انقلابا كبيراً في حياة الشعوب والأمم اقتصادياً واجتماعياً بل وسياسياً. وإذا كان هذا الانقلاب لم يتخذ شكلا ظاهراً منذ قرن كما هو وأضح لنا الآن فما ذلك إلا لأن هذا التطور لم يحدث طفرة، ولأن ارتباط الشعوب اقتصادياً كان متمشياً مع انتشار الآلات وتحسينها تدريجياً وتخصص كل بلد بما اعتاد صناعته.
وإليكم ما حدث في إنجلترا مثلا عندما استخدم رجال الصناعة آلة المنزل التي اخترعها هارجريفز في منتصف القرن الثامن عشر فإنهم لم يفكروا أصلا في غير أرباحهم ولم يخطر ببالهم أنهم - سيحدثون انقلاباً عظيما في حياة الأفراد - وفي علاقات الدول إذ أن الواقع أن انتشار صناعة الأقمشة الصوفية والأجواخ في إنجلترا فتحت أمام نشاطها آفاقا جديدة فأوجدت لها أسواقا عالمية جعلت مقادير الصوف الخام - من الخراف الإنجليزية غير كافية لسد حاجات تلك الأسواق الكبيرة فولت الصناعة وجهها شطر أستراليا والأرجنتين وغيرهما لتستورد منها الأصواف فانتعشت بهذا تربية الأغنام في تلك البلاد النائية وأصبحت في إنجلترا قاصرة على تحسين النسل، وبهذا اختصت إنجلترا بالغزل والنسيج، واختصت أستراليا والأرجنتين بتربية المواشي حتى قيل إن أجر جز الصوف في أستراليا يوازي ثمنه، وأن قطعة القماش من الجوخ المصنوع في إنجلترا من صوف استراليا أقل ثمناً في سدني باستراليا من مثلها المصنوعة في أستراليا نفسها؛ ذلك لأن كلا البلدين أصبح مع مرور الزمن أخصائياً في عمله لا يستطيع الآخر أن يزاحمه فيه.
وكان الحال كذلك في الأقمشة الصوفية، فمنذ عرف أن المناخ الرطب في منشستر لغزل ونسيج الموسلين ونحن نشهد إقامة الأنوال والمناسج في إنجلترا وأمريكا وغيرهما كما نشهد زراعة القطن في المساحات الواسعة في دلتا المسيسبي ودلتا النيل وغيرهما.
وكل ما قيل بصدد الصوف والقطن يقال بالنسبة لباقي المصنوعات من آلات حتى المواد الغذائية وغيرها.
هذا ولا ريب أن نقل المواد الأولية من الأقطار البعيدة إلى الأقطار الصناعية ثم توزيعها مصنوعة إلى البلاد الأخرى يقتضي تحسين طرق المواصلات البحرية والبرية، ولها نرى منذ منتصف القرن التاسع عشر بناء السفن التجارية فضلاً عن مد خطوط السكك الحديدية والخطوط التلغرافية كما ترون العمل على تحسين طرق المواصلات الجوية والوصول بها إلى أوجها - كل هذا جعل الكرة الأرضية معروفة اليوم بسكانها ومعادنها وحاصلاتها؛ فإذا بسطنا خريطة جغرافية رسمت قبل اختراع الآلات وجدنا مساحات واسعة مؤشرا عليها بما يدل على إنها مجهولة لنا كحوض الأمازون ووسط أفريقيا وأستراليا نفسها، أما اليوم فقد اكتشفت الأرض جميع ما تملك وعمل على استغلال كل ما بها بل أصبحت بلاد العالم مرتبطا بعضها ببعض وتأثر بعض الأمكنة بما يحدث في الأخرى
فإذا ما ظهرت دودة القطن في مصر، أو نزل الصقيع على محصول بأمريكا، أو حدث إضراب العمال في المصانع الإنجليزية هبطت أسهم شركات النسيج أو نقصت أثمان الصوف تبعاً لهذا.
كذلك إذا ما حدث اضطراب في وسائل النقل واضطربت حياة الشعوب والأمم، فقد رأينا كندا في الحرب الماضية تستخدم القمح كوقود لأفرانها بينما كانت شعوب أوربا لا تجد الخبز بغير البطاقات بشق الأنفس.
والخلاصة من هذا كله أن التطور الصناعي خلق أسواقا عالمية سواء لأجل استيراد المواد الأولية أو لتصريف المنتجات الصناعية وأن هذه الحالة تقتضي طبعا المزاحمة الأجنبية فلا يتسنى بسبب هذا الترابط الاقتصادي لأية أمة أن تستهلك وحدها كل محصولها أو كل منتجاتها فهي مضطرة أن تبحث عن أسواق للفائض عن حاجتها وتتخذ لهذا الغرض إجراءات داخلية تأخذ شكل الحواجز الجمركية، وإجراءات خارجية تأخذ شكل المعاهدات التجارية في صيغة (أولى الدول بالمراعاة) فإذا ما تصادمت مصلحة دولتين في كل هذه الميادين قامت بينهما حرب تجر وراءها بسبب الترابط الاقتصادي العالمي حرباً عالمية.
ولقد شهدنا في مدى جيل واحد حربين عالميتين وعرفنا الفروق بين هذا النوع من الحرب والحروب الأخرى، ففي العهود السابقة كانت الحرب موضعية تقع بين بلدين أو أكثر ولكنها لم تكن لتتعدى الجيوش المحاربة، وكانت تبتدئ وتنتهي دون أن يشعر باقي الأهالي المدنيين الآمنين بأهوالها، بل كانت أشبه شيء بعملية جراحية تلتئم جروحها سريعاً في موضعها لتعود الحياة العادية كما كانت من قبل.
أما الحروب العالمية اليوم فهي حروب تجند من أجلها الشعوب فيرسل الشبان إلى ميادين القتال، والشيوخ إلى مصانع الأسلحة والعتاد، والنساء إلى المزارع والمستشفيات؛ كذلك تجمع من أجلها القوات الزراعية والصناعية والمعدنية والمالية؛ وفوق ذلك فان ويلاتها وأهوالها تمتد من ساحة الوغى إلى ما وراء خطوط القتال فتخرب المصانع وتهدم المساكن وتدمر الطرق والجسور وتغرق البواخر وتقطع المواصلات البرية والبحرية كما تزهق أرواح الأبرياء من النساء والأطفال ثم تعقبها بعد إنهاءها الثورات السياسية والأزمات الاقتصادية.
سادتي:
لقد احتمل العالم هذه الويلات زهاء أربع سنوات في حرب سنة 1914 وست سنوات في الحرب الأخيرة؛ فإذا كانت المدنية الحاضرة لم تندثر معالمها وإذا صح أن يكون ذلك دليلا على ما لتلك المدنية الصناعية من قوة المقاومة إزاء هذا التدمير والتخريب فقد صح كذلك وجود عيوب في نظام العالم الحاضر الذي لم يستطع أن يتفادى في مدى جيل واحد حربين عالميتين من هذا النوع في التدمير والتخريب الذي لا مثيل له في تاريخ الإنسانية.
وفي يقيننا أن هذه الحال لن تتغير وأن احتكاك الدول لن يتبدل ما لم يعمل على أن ندخل في نظام حياتنا العامة وعلاقاتنا الاقتصادية ما يضمن لنا الاستقرار والاطمئنان.
ولا ريب أن كل شيء في هذا الوجود يولد ثم ينمو ويشب ثم يكبر ويهرم فيموت؛ لذلك كان نظام الحكم وعلاقة الدول ببعضها من أكثر الأمور تطوراً لا في المظاهر الشكلية بل في جوهر الأمور وكيانها؛ فان الخمسة والعشرين قرناً الماضية من تاريخ الإنسانية تشهد بان نظام العالم قد انتقل من حكم أقوى العائلات إلى نظام الجمهوريات اليونانية القديمة، إلى محاولة أيجاد الإمبراطوريات العالمية في عهد الاسكندر والدولة الرومانية، إلى نظام الإقطاع في القرون الوسطى، إلى نظام الملكية المطلقة إلى الديمقراطية الحاضرة.
إن هذا التطور الدائم في نظام الحكم جاء تبعاً لتطور الحياة الاجتماعية والسياسية في تلك الأزمان الماضية.
كما لا ريب عندنا في أن العالم في وقتنا الحاضر وهو تحت تأثير الاكتشافات العلمية واختراع الآلات الصناعية وإتقان طرق المواصلات بين أجزاء العالم قد تطور تطوراً خطيراً من شأنه أن جعل جميع الشعوب والأمم التي وصلت إلى درجة ما من المدنية مرتبطة ببعضها ارتباطاً اقتصادياً فلا يسع شعباً من الشعوب أن يستكفي وحده بكافة حاجاته من المآكل والملبس وغيرهما بل هو في حاجة إلى تصدير الفائض، وبجانب هذا فان العلاقات بين الدول كانت تتطور حتى أخذت شكل القانون الدولي الذي كان يتطور هو كذلك تبعا لمقتضيات الظروف بعد كل نزاع.
(البقية في العدد القادم)
محمد حافظ رمضان