مجلة الرسالة/العدد 646/من محاسن التشريع الإسلامي
→ في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب | مجلة الرسالة - العدد 646 من محاسن التشريع الإسلامي [[مؤلف:|]] |
من خواطر جحا: ← |
بتاريخ: 19 - 11 - 1945 |
للأستاذ حسن أحمد الخطيب
- 4 -
حرصه على الأخلاق والفضائل
من خصائص الشريعة الإسلامية التي امتازت بها على الشرائع الوضعية كلها أنها قامت على الأخلاق المرضية، والفضائل المرعية، وخشية الله، ومحاسبة الوجدان والضمير، في كل ما يصدر عن الإنسان، ألا ترى إلى قوله تعالى: (ولا يجر منكم شنآن قوم على إلا تعدلوا، اعدلوا، هو أقرب للتقوى)، وقال صلوات الله وسلامه عليه في الحديث المتفق عليه: (إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو مما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار)، ويجتهد عمر رضى الله عنه في إبعاد الناس عما يغرس الأحقاد والإحن في النفوس، فيقول: (ردوّا الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن)، ويشدد الرسول ﷺ في النكير على من يخادع المسلمين ويغشهم، فيقول: (من غشّنا فليس منا) كما يقول صلوات الله عليه (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: رجل كان له فضل ماء بالطريق فمنعه من ابن السبيل، ورجل بايع إمامه، لا يبايعه إلا لدينا، فإن أعطاه منها رضى، وإن لم يعطه منها سخط، ورجل أقام سلعته بعد العصر، فقال: والله الذي لا إله غيره لقد أعطيت بها كذا وكذا فصدقه الرجل - ثم قرأ - إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة، ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم).
ولست قوانين أفلاطون، ولا الشرائع الرومانية، ولا القوانين الغربية الحديثة بمستطيعة أن تجاري الشريعة الإسلامية في هذا السمو الخلقي الذي بنيت عليه جميع التصرفات والمعاملات، وما يصدر عن الإنسان من قول أو عمل.
- 5 -
اقتصار تشريعه التفصيلي على الأمور الثابتة التي لا تختلف باختلاف الأمم والعصور، أ الحوادث الجزئية، والأحكام الفرعية التي تختلف باختلاف الأحوال والأمم فإنه لم يتناولها إلا بقواعد كلية، ومقاصد عامة، ليترك الباب مفتوحاً لأهل الاجتهاد من كل أمة، وفي أي عصر، ليستنبطوا من الأحكام ما يحقق مصالح العباد، ويتفق مع حاجاتهم.
لذلك كان من خصائص هذه الشريعة التي امتازت بها على سائر الشرائع أنها قائمة على دعامة الاجتهاد، من لدن أول مجتهد في الإسلام، وأعظم مشرع، وهو الرسول ﷺ، إلى مجتهدي الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من العلماء المجتهدين في كل عصر.
هذا الاجتهاد - فيما لا نص فيه - هو الذي يكفل تجددها على مدى الأيام، ومسايرتها لتطورات الأمم والشعوب، ويضمن قدرتها على وضع الأحكام لما يجد من الأحداث والوقائع، وضروب المعاملات، بل هو سر خلودها، ودوامها وبقائها على وجه الدهر، صالحة لكل زمان ومكان، وليس ذلك يدع ولا يعجب، فإن أحكام الشريعة معللة، لها أسرار وحكم ومنافع، والنصوص المعقولة المعنى.
وقد تضافرت الأدلة الشرعية، والنصوص الدينية على أن الإسلام شرع الاجتهاد ودعا إليه في وضع الأحكام في وضع الأحكام عنده عدم وجود النص، فمن ذلك.
1 - أن النبي ﷺ أقر معاذ بن جبل على اجتهاده برأيه فيما لم يجد فيه نصا عن الله ورسوله، فإنه عليه الصلاة والسلام، لما بعثه إلى اليمن - قال له: (كيف تصنع إذا عرض لك قضاء؟ قال أقضي بما في كتاب الله، قال فإن لم يكن في كتاب الله، قال فبسنة رسول الله، قال فإن لم يكن في سنة رسول الله، قال أجتهد رأيي لا آلو)، قال معاذ فضرب رسول الله ﷺ صدري، ثم قال: الحمد لله وفق رسول رسول الله لما يرضاه رسول الله).
2 - ما ثبت من أقوال بعض الصحافة من إقرار الاجتهاد بالرأي والقياس، فمن ذلك ما جاء في رسالة عمر بن الخطاب في القضاء إلى أبى موسى الأشعري (الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك القضاء مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الأشباه والأمثال فقس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أقربها إلى الله، وأشبهها بالحق).
3 - ما ثبت من أن كثيراً من الصحافة كانوا يجتهدون في النوازل، ويقيسون بعض الأحكام على بعض، ويعتبرون النظير بنظيره، ويرون استعمال الرأي عند عدم وجود النص، ولعل عمر كان أظهرهم وأجرئهم في هذا الباب، متى بان له وجه الحق فيه، فمن ذلك أنه رفعت إليه قصة رجل قتلته امرأة أبيه وخليلها، فتردد عمر، هل يقتل الكثير بالواحد؟ فقال له علي أرأيت لو أن نفراً اشتركوا في سرقة جزور، فأخذ هذا عضواً، وهذا عضواً، أكنت قاطعهم؟ قال نعم، قال فكذاك، فعمل عمر برأيه، وكتب إلى عامله أن اقتلهما، وروي عن عمر أيضاً انه لم يقطع يد السارق في عام المجاعة، وأوقع الطلاق ثلاث بلفظ واحد ثلاثاً، وقال إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه.
كذلك ثبت اجتهاد بعض الصحابة في حياة الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - في كثير من الأحكام، فلم ينههم ولم يعنفهم، فقد أمرهم يوم الأحزاب أن يصلوا العصر في بنى قريظة، فاجتهد بعضهم وصلاها في الطريق، وقال لم يرد منا التأخير، وإنما أراد سرعة النهوض، فنظروا إلى المعنى، واجتهد آخرون، وأخروها حتى وصلوا إلى قريظة، فصلوها ليلا، فنظروا إلى حرفية النص، واجتهد سعد بن معاذ في بنى قريظة، وحكم فيها باجتهاد، فصوبه النبي ﷺ وقال: (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات).
هذا هو حكم الاجتهاد في شريعة الإسلام، وهذا هدى السلف الصالح فيه، أفما آن لنا نعد العدة، ونأخذ الأهبة، لنحيي هذه السنة، ونقتفي أثر السالفين من علمائنا المجتهدين؟!
(يتبع)
حسن أحمد الخطيب