مجلة الرسالة/العدد 645/القصص
→ البَريدُ الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 645 القصص المؤلف: أنطون تشيخوف المترجم: مصطفى جميل مرسي |
عمل شاق Недоброе дело هي قصة قصيرة بقلم أنطون تشيخوف نشرت عام 1887. نشرت هذه الترجمة في العدد 645 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 12 نوفمبر 1945 |
من الأدب القصصي الروسي
عمل شاق. . .
للكاتب الروسي أنطون تشيكوف
للأستاذ مصطفى جميل مرسي
كانت ليلة من ليالي شهر مارس، والسحب مدجنة مطلخمة، وقد اسبطر الضباب فطوى الأرض والسماء في مطارفه. . حتى لا يكلف المرء نفسه الخطو خيفة العثر. . وهب الحارس فجأة وقد طرق أذنيه لغط وهسيس لبعض من الناس يمضي في مطارب المقبرة. وصاح في هيعة وتحوب (من ثمت يسرى؟). ولكن دون مجيب. . فراح يرجع صيحته قد توجس همساً وهجساً (من ثمت يسرى؟!) فأجاب صوت مختلج لرجل هرم. (أنا ذا. . أيها الرفيق.)
- ولكن من أنت؟!
- أنا رجل جوال.
فصاح الحارس في صوت حاول أن يستر به رنة الفزع التي سرت إليه:
- أي شيطان رمى بك إلى هنا؟! أتجول قدميك في المقبرة ليلا؟ أيها الشرير الخبيث!
- وَىْ! أتقول إن هذه المقبرة؟!
- وما في ذاك؟! إنها مقبرة. . ألا تلمح ذلك؟.
فتنهد الرجل الهرم قائلا: (آه. . يا للسماء. ما أقدر على إبصار شيء أيها الرفيق. . إن الظلمة لحالكة. . الظلمة. . فما يستطيع الإنسان أن ترى يده وهي أمام وجهه!
- ولكن من أنت؟!
- أما قلت لك. . زائر. . أيها الصديق، رجل جوال فنبس الحارس في يقين: (إلى الشيطان. . يالكم من معربدين أيها الجوالون، كل منكم يطل يجرع الخمر، ويأتي إلى هنا يقلق راحتنا ويسبب متاعبنا ليلا. . ولكن. . لقد سمعت أصواتاً تهمس معك فأين أصحابها؟! - إني بمفردي يا صديقي. . إني وحيد. . آه يا إلهي فدنا الحارس من العجوز ووقف إزاءه وسأله:
- كيف حضرت إلى هنا؟!
- لقد ضللت سبيلي يا سيدي بينما كنت أروم طاحونة (ميتريافسكي). .
- وي. . . أهذا طريق طاحونة (ميتريافسكي)؟ أيها الشرير؟ كان ينبغي أن تسري إلى يسارك ثم تدوم سيرك على استقامة. . . يخيل إلى أنك تناولت بعضاً من أقداح الخمر، فتنكبت سبيلك!
- نعم. . . لقد أتت يداي هذه الخطيئة، فما ثمت سبب للإنكار. ولن أعود فأركب هذا المتن الخاطئ ثانية. . . بالله أين الطريق الذي علي أن أسلكه؟
- امض أمامك في هذه المطربة حتى نصل إلى باب المقبرة، فافتحه، وانطلق إلى حال سبيلك. . . حاذر أن تعثر بالخندق فتتردى فيه. . وستلاقي الطريق حيث يمكنك أن تصل إلى الطاحونة إن سلكته.
- اسأل الله أن يسبغ عليك وافر الصحة والخير. . . أيها الرفيق، ويطهرك من ذنوبك برحمته وغفرانه. . . ألا يمكنك أن تصحبني حتى الباب. . . فيضاعف ثوابك، فما أكاد أتلمس طريقي في تلك العتمة. . .
- كأني بك ترى عندي الوقت الذي أضيعه عبثاً في السير معك. . . امض وحدك.
- كن رحيما يرحمك الله. . . فسأصلي من أجلك. إني لا أكاد أرى طريقي فالظلمة حالكة. . . بالله أرني الطريق.
- أيدور بخلدك أن وقتي متسع لصحبتك أيها الشرير الكهل!
- نشدتك الله. . . قدني إلى الباب. . . لا أقدر على أبصار شيء، كما أنني أخشى هذه المقبرة وما يجول فيها من أرواح وأشباح. . . هيا معي يا سيدي. . . بالله رافقني. . .
- ليس سبيل إلى الخلاص منك ومن ثرثرتك، هيا إذاً معي أيها العجوز. . .
ومضى الرج لان متلاصقين في صمت رهيب. . . وهبت الريح صرصراً تصطك منها الأسنان، والأشجار ضاربة في جو السماء تصفر في رهبة كأنها صراخ الجن. . . ويساقط منها الطلل والندى. . . وقد تناثرت في ساح المقبرة المناقع الضحلة. . .
وبغتة قال الحارس بعد أن طال أمد الصمت بينهما:
- ثمت شيء يثير حيرتي وتساؤلي! كيف تسنى لك أن تدلف إلى هنا مع أن الباب مقفل؟! أتسلقت الحائط!؟ ما أظن ذلك فأنت هرم، فأنت آخر من أتي هذا العمل!.
- لست أدري! أيها الرفيق. . . لست أدري كيف أتيت إلى هنا. . . لعمري إنها مشكلة. . . رحماك يا رب. . . لا بد أن الشيطان مس عقلي، ألست حارس المقبرة أيها الرفيق؟
- بلى. . .
- أنت وحدك تقوم بحراسة كل هذه المقبرة؟!
وارتفعت حينئذ ريح عاصف كادت أن تنتزعهما من مكانهما فلما هدأت حدتها عاود الحارس حديثه مجيباً:
- إنا هنا ثلاثة رجال: واحد مضطجع في فراشه محموم، والآخر مستغرق في نومه، ونحن الاثنين نتبادل الحراسة. . .
- حسن. . . آه، يالها من ريح عاصف يكاد أن يسمع صفيرها الأموات في قبورهم. . . إنها تزأر كالوحوش الكاسرة. . . آه. . . آه. . .
- ولكن من أين أتيت إلى هنا؟
- كنت عند صديق في إقليم (فولجدا) على مبعدة من هنا. . . إني أتجول من مكان إلى آخر حيث أصلي وأعظ. . . اغفر لي يا إلهي. . .
توقف الحارس هنيهة ليشعل غليونه، وقام الرجل العجوز بينه وبين الريح. . . وأبرق عود الثقاب على المطربة التي يسلكانها واستقر شعاعه على بعض أحجار القبر التي إلى جانبهما؛ فأشعل العود الثاني فتألق ضوؤه ثم خبا على حين فجأة. . . أما العود الثالث فألقى بشعاعه إلى اليمين وإلى الشمال، فتمكن من إشعال غليونه قال الرجل الغريب:
- إن الراحلين راقدون. . . الراحلين الأعزاء. . . أنهم يرقدون سواسية لا فرق بين غني وفقير، حكيم وأحمق، قوى وضعيف، إنهم على حال واحد الآن. . . وكذلك سيمكثون إلى أن ينفخ في الصور وتبعث الأموات من القبور. . . أن هذه الحياة الدنيا لفانية مضمحلة أما الحياة الأخرى فخالدة سرمدية. فقال الحارس في جلال:
- نعم. . . إننا لنسير في هذا المكان الآن، وبعد حقبة تطوينا هذه الأرض فنصبح نسياً منسياً. . .
- لا مجال لريب في ذلك. . . كلنا جميعاً. . . جميعاً إلى هذا المصير سائرون. وليس ثمت من يخلد على أديم هذه الأرض. . . أواه. . . إن أفعالنا لآثمة، وأفكارنا تطمح إلى آمال كالسراب. إن الخطيئة لتسيطر علينا وليس ثمت خلاص من قضاء الله سواء في الدنيا أو في الآخرة. وإني لغارق في خطيئاتي كالحشرة تسعي في جوف الأرض. . .
- أجل. . . ورب منيتك كانت قلب قوسين منك!
- إنك لعلى صواب وحق، أيها الصديق. . .
فقال الحارس وهما يحثان الخطأ نحو الباب.
- إن الموت لأدنى إليكم معشر الجوالين منا نحن من نستقر في الأرض على الدوام!
إن هناك أنواعاً متباينة من الجوالين يا سيدي. فمنهم من أنزل الله السكينة على قلبه، فراح يصلي ويعبد ربه. ومنهم من أصابه الفجور فراح يعربد ويأتي المنكرات وليس له رادع يردعه عن أفعاله. وإن هؤلاء يجولون في المقابر لتتصل أنفسهم بالشياطين.
وهناك من في مقدورهم أن يهووا بفأسهم على هامة رأسك فتخر وقد بت على شفا الموت. . .
- هه. . . عم تتحدث أيها العجوز؟!
- آه. . . لا شيء. . . يخيل إلى أن هذا هو الباب. . . نعم إنه هو. أرجو منك فتحه. . .
فتلمس الحارس طريقه وفتح الباب، وقاد الرجل إلى الخارج من منكبه وقال:
- هذا هو منتهى المقبرة. . . وعليك بالانطلاق عابراً الحقول حتى تدرك الطريق، وحاذر الخندق أن تتردى فيه. وإذا ما لحقت بالطريق العام فانثن إلى يمناك وواصل سيرك حتى تصل إلى الطاحونة التي ترومها. . .
فزفر العجوز بعد فترة صمت:
- هيه. . . ولكن ما الذي يدفع بي إلى الذهاب إلى طاحونة (ميتريافسكي) إني أفضل البقاء هنا على المضي إلى هناك يا سيدي. . .
- وما الذي ترجوه من اللبث هنا؟!
- ستجد مني من يؤنس وحدتك، ويفرج عنك كربك.
- العلك رجل لطيف المعشر، حلو النكتة؟!
- بلا شك يا سيدي. . . فستضل تذكرني. . . تذكر ذلك الجوال على الدوام. . .
- ولم تظل ذكرى إنسان مثلك ببالي على الدوام؟!
قال العجز في صوت أصحل ساخر:
- هه. . . اسمع. . . إنك تمعن في الجفاء. . . وأنا أتبسط في الحديث. . . فما أنا بجوال كما أنبأتك!
- إذن من أنت؟!
- رجل ميت لقد خرجت الآن من لحدي. . ألا تذكر (جبرياف) القفال الذي شنق نفسه في عيد (الكرنفال). . . حسن. إنه أنا (جبرياف).
- بالله خبرنا بشيء غير هذا. . .
لم يصدق الحارس لفظة مما قاله العجوز، ولكن سرت قشعريرة الهلع في جسده فراح ينتفض فرقاً. . . ويسرع بالنأي عن الباب، فقبض الرجل الغريب على كتفة وهتف قائلا:
- قف. . . أتمضي وتدعني وحدي أعاني مرارة الوحدة. . . فصاح الحارس وهو يحاول نزع ذراعه من براثن ذلك العجوز:
- دعني أذهبّ دعني أمض بسلام!
- قف. . . إني آمرك بالوقوف، وستقف حتماً. . . لا تناضل أيها الكلب الرعديد. . . إن كنت تبغي الحياة. فقف حتى آذن لك؛ هذا لأني لا أود أن أسفك دماً حقيراً كدمك أيها الخنزير الجبان. . . قف مكانك. . .
وتهاوى الحارس، وقد سرت عنه شجاعته فأغمض جفنيه وراح يرتعد ويرتجف وقد طارت نفسه شعاعاً. . . إنه يستطيع الصياح والاستغاثة ولكن عبثاً يحاول. . . فليس من حي تصل إلى أذنه صيحاته. . .
قام الرجل الغريب إلى جانبه وساعده في ثبات وقسوة. . . وتقضت ثلاث دقائق والكون غارق في صكت رهيب. . . فعاد الغريب يقول:
- واحد مريض محموم، والثاني غارق في النوم، والثالث يلقى الجوالين بجفاء وبرود. . . ألا بالله خبرني يا سيدي الحارس كيف تستحقون مرتباتكم، إنكم كاللصوص ولكن في الخفاء. قف مكانك. . .
انقضت خمس دقائق ثم تلتها عشر والصمت لم ينفك مخيما على المقبرة. . . وعلى حين غرة. . . قطع هذا الصمت صوت صفير سرى في جنح الليل. . . فقال الغريب إثر ذلك وهو يطلق ذراع الحارس: (حسن. . . الآن. . . امض. . . امض، واذكر أن الله يرقب أعمالك الشائنة. . .)
ثم أطلق صفيراً - يشابه سرى مذهنيهة - وانطلق خارجاً من باب المقبرة. . . وسمعه الحارس وهو يجتاز الخندق قفزاً ووقف الحارس هنيهة جامداً لا يتحرك. . . يرتعد فرقاً. . . كأن الغريب ما زال ماثلا أمامه.
ولما انقلب عقبه في المطربة طرق أذنه أصوات لأقدام تتسارع في سيرها، وسؤال يجري على لسان يقول: (أنت (تيموفي)؟ أين (ميتكا)؟) وابتعدت عنه الأصوات فراح يجد في سيره حتى لمح شعاعاً يخفق في الظلام. . . فلما أمعن في الدنو، وضح له الشعاع فراح يردد:
- كأن النور يشع من الكنيسة!. من أين أتى هذا الشعاع يا إلهي. . . فرج كربتي. .
دار الحارس حول الكنيسة حتى وقف أمام نافذة محطمة فراح يحملق نحو المذبح. . . في هلع وفزع. . وكانت هناك شمعة خلفها وراءهم اللصوص تخفق في رهبة، وتلقى الظلال الدامسة في الأرجاء. . . وقلب الحارس طرفه فرأى الخزانة مقلوبة محطمة وقد فتحت على مصراعيها، واختفى ما كان بها من كنوز وأموال. . .
وكذلك ذهبت القرابين وغيرها. . وأدرك الحارس سر ذلك الرجل الغريب الذي راح يداوره ويبعده عن الكنيسة حتى يهيئ الفرصة لزملائه اللصوص. . .
ومضت برهة، وعادت الريح تعصف وتصفر في جنون وكأنها تسخر من ذلك الحارس المسكين
مصطفى جميل مرسي