مجلة الرسالة/العدد 645/التصوير الفني والعقيدة في القرآن
→ من خواطر جحا | مجلة الرسالة - العدد 645 التصوير الفني والعقيدة في القرآن [[مؤلف:|]] |
من التاريخ الإسلامي ← |
بتاريخ: 12 - 11 - 1945 |
للأستاذ سيد قطب
طال الجدل بين الأستاذ عبد المنعم خلاف وبيني حول هاتين النقطتين منذ أصدرت كتابي (التصوير الفني في القرآن) ولم يكن بد من أن يطول، فالموضوع في ذاته خصب يحتمل الجدل الطويل، والأمر بيني وبين الصديق في هذا الجدل ليس فكرة عارضة ولا خاطرة سريعة، وإنما هما نظريتان مختلفتان للعقيدة بل للحياة. فما سجلته في كتابي وما ناقشت به الأستاذ عبد المنعم هو خلاصة عقيدتي ورأيي وفلسفتي الخاصة المبنية على كل تجاربي النفسية والذهنية في رحلتي على هذه الأرض. وما كتبه في مناقشتي هو امتداد لآرائه في كل ما قرأت له. وبخاصة في كتابه القيم (أومن بالإنسان)، ذلك الذي أقعدني المرض أربعة أشهر عن أن أفرغ له يستحق من النقد والتنويه
وقد تشعب الجدل بنا في تفصيلات وجزيئات لا مجال لإعادة الحديث فيها بعد هذا الأمد الطويل، فأحب أن أرد المسألة إلى أصلها الواحد الكبير لتكون لدى القراء منها صورة كلية يشارك في دراستها من يشاء
المسألة في صميمها تتلخص في كلمات:
أمن الممكن أن نعهد إلى الذهن وحده بأمر العقيدة. وأن نقيم هذا البناء الضخم في الضمير الإنساني على أساس القوة الذهنية ومنطقها المعهود؟
أما أن فلا أتردد في الإجابة بالنفي على هذا السؤال، فأنا لا أثق بالذهن كل هذه الثقة، ولا أعتقد أنه ينهض وحده لحمل هذه الأمانة؛ وإنما قصاراه في هذا المجال أن يكون منفذاً واحداً من منافذ العقيدة إلى النفس الإنسانية - وليس هو مع ذلك أقرب المنافذ ولا أصدقها - وإنه لن يصل إلى شيء يذكر إلا بوحي من البداهة وهدى من البصيرة، البداهة التي تدرك الحقائق الخالدة في هذا الكون منذ النظرة الأولى وبلا فلسفة ذهنية ولا قضايا منطقية، والبصيرة التي تتصل مباشرة بالله فتدرك وجوده إدراكاً كلياً قد يعجز الذهن عنه لو تركنا له وحده المجال. ومن هنا كان (المنطق الوجداني) الذي يعتمد على هذه الحقائق الخالدة، وعلى إدراك البصيرة لها وإقرار البداهة بها، هو الطريق الذي سلكه القرآن في تقرير العقيدة الإسلامية، لأنها (عقيدة)، وكل عقيدة مقرها الضمير الإنساني الكبير لا الذه البشرى المحدود الصغير
وأما الأستاذ عبد المنعم، فيبدو أن ثقته بالذهن كبيرة إلى حد أن يعهد إليه بالأمر كله، ويأتمنه عليه في النهاية!
على أنه كان يكون هناك محل للجدل، لو أنني أخرجت الذهن كلية من المجال، ولكنني لم أرد هذا، وليس في كتابي ما يدل على أنني أردته، وقد نقلت منه في كلماتي الماضية نصوصاً كثيرة، ثم قرأه الكثيرون أيضاً، ولست أعتقد أن أحداً من القراء قد فهم أنني أطرد الذهن من الحلبة؛ إنما أنا أضع الذهن في مكانه المناسب، فلا أغفله إغفالا في مجال العقيدة، ولكنني كذلك لا أتجاوز به هذا المكان المحدود
وأحب أن أصحح هنا وهماً صححته من قبل في الكتاب في هذه الفقرات:
(كانت وظيفته القرآن إذن أن ينشئ هذه العقيدة الخالصة المجردة - عقيدة التوحيد - وموطن العقيدة الخالد هو الضمير الوجدان - موطن كل عقيدة لا العقيدة الدينية وحدها - وأقرب الطرق إلى الضمير هو البداهة، وأقرب الطرق إلى الوجدان هو الحس. وما الذهن في هذا المجال إلا منفذ واحد من منافذ كثيرة، وليس على أية حال أوسع المنافذ ولا أصدقها ولا أقربها طريقاً.
(وبعض الناس يكبرون من قيمة هذا الذهن في هذه الأيام بعد ما فتن الناس بآثار الذهن في المخترعات والمصنوعات والكشوف وبعض البسطاء من أهل الدين تبهره هذه الفتنة فيؤمن بها، ويحاول أن يدعم الدين بتطبيق نظرياته عل قواعد المنطق الذهني أن التجريب العلمي!
(إن هؤلاء - في اعتقادي - يرفعون الذهن إلى آفاق فوق آفاقه. فالذهن الإنساني خليق بأن يدع للمجهول حصته، وأن يحسب له حسابه. لا يدعو إلى هذا مجرد القداسة الدينية. ولكن يدعو إليه اتساع الآفاق النفسية، وتفتح منافذ المعرفة. (فالمعقول) في عالم الذهن، و (المحسوس) في تجارب العلم، وليس كل (المعروف) في عالم النفس. وما الفكر الإنساني - لا الذهن وحده - إلا كوة واحدة من كوى النفس الكثيرة. ولن يغلق إنسان على نفسه هذه المنافذ، إلا وفي نفسه ضيق، وفي قواه انحسار، لا يصلح بهما للحكم في هذه الشئون الكبار).
والأمر الذي أريد أن أقرره، وأصحح به وهماً قد يرد على بعض الأذهان: هو أن العقيدة أكبر من الذهن، فلا يعيبها ألا تعتمد على الذهن وحده، وأن يكون لها منافذ إلى الضمير الإنساني غير هذا الذهن المحدود.
ولم يفتني أن أشير إلى هذا في ختام الفصل الذي عقدته في الكتاب تحت عنوان (المنطق الوجداني) فقد جاء فيه:
(لم يكن المنطق الذهني ليصل إلى شيء لو اتبعه القرآن؛ لا لأن ما فيه من حقائق لا يثبت لهذا المنطق؛ ولكن لأن العقيدة لا ينشئها هذا الجدل. إنها دائماً في أفق أعلى من هذه الآفاق. وما يعيب العقيدة أن يكون عمل الذهن فيها ضئيلا. فما الذهن إلا قوة صغيرة محدودة، تتعلق باليوميات، وما هو بسبب من اليوميات)
والذي أعتقده أن (المجهول) قسط أساسي من بناء كل عقيدة - ومن عقيدة الإسلام بالطبيعة - وحين تخلو العقيدة من روعة المجهول تستحيل رأياً، ولا تملأ جوانب النفس الإنسانية جميعاً.
وما دامت للمجهول حصته في العقيدة، فهناك مجال لغير الذهن بكل توكيد. والعقيدة - أية عقيدة - كلٌّ لا يتجزأ في داخل النفس، وإن تجزأت قضاياه وتعددت أمام الذهن. والشك في قضية منها معناه تخلخل جميع قضاياه
ويجهد الذهن ما يجهد في فلسفة العقيدة فيكون له هذا، ولكن بعد أن تكون العقيدة قد استقرت في الضمير، وسلكت إليه طرائق شتى ليس الذهن إلا واحداً منها، لم يكن ذا أثر حاسم ولا أثر ظاهر في عملية البناء.
وإنه لحسب الذهن أن تكون وظيفته هي تفسير هذه العقيدة بعد بنائها. تفسير ما يستطيع تفسيره منها، أما ما لم يستطع، فليقف على أبوابه هناك، فقد استلهمته النفس من منافذها الأخرى التي لا شك فيها
أما الاستدلال بالآيات التي استدل بها الأستاذ على أن الذهن هو محور الإثبات فيها، فلا أزال فيه عند رأيي الذي أبديته: وهو أن القرآن كان أعرف بالنفس الإنسانية من الأستاذ عبد المنعم فلم يسق الآيات سياقته لها، بل تركها في إجمالها الذي يخاطب قوى النفس جميعاً، ولا ينفرد بالذهن المحدود في نقاش جدلي قابل للردود الجدلية على طريقة الذهن المعهودة. . .
على أن هناك واقعة تاريخية لا سبيل إلى الجدل فيها: هي أولئك الذين آمنوا، أو كثرتهم التي لا يتخلف عنها إلا أفراد. وهؤلاء لم ينتظروا من يفلسف لهم الأدلة، حتى يؤمنوا بالمنطق الذهني؛ إنما هم استراحوا إلى نصوع هذه العقيدة ونفاذها إلى نفوسهم من شتى منافذها، فآمنوا مطمئنين!
أما القضية الأخرى التي يجادلني فيها الأستاذ، فهي قضية التصوير الفني في القرآن. . . وهي أيسر وأوضح من القضية الأولى
فأما أنا، فرأيي أن إدراك التصوير القرآني في هذا المستوى المعجز إدراك لسر الإعجاز في تعبير القرآن.
وأما هو، فيرى ألا أذكر كلمة الإعجاز هذه، لأن هذا السر يجب أن يبقى مجهولا أبداً حتى يتحقق له وصف (الإعجاز)
ولقد قلت من قبل، وأكرر اليوم: إنه ليس من الحتم أن يكون الأمر المعجز هو المجهول السر، فيكفي ألا يستطيعه أحد مع
التحدي. ولم يستطع أحد أن يرقى إلى مستوى التناسق الفني في هذا التصوير، فإدراكه إدراك لسر الإعجاز - على الأقل في هذا الأوان، وليس ما يمنع من ظهور أسرار أخرى غير ما ظهر منها حتى الآن -
على أنني كنت دقيقاً في التعبير، فلم أقل سر الإعجاز في (القرآن) إنما قلت: سر الإعجاز في (تعبير) القرآن. وفرق كبير ما بين العبارتين. فالإعجاز في القرآن شائع، وشامل لتعبيره ومنحاه وقضاياه. . . الخ
غير أن العجيب في الأمر أن الأستاذ عبد المنعم الذي يريد أن يعهد إلى الذهن البشري بقضية العقيدة كلها، لا يأتمن هذا الذهن على إدراك سر من أسرار الإعجاز في تعبير القرآن.
وكلمة أخرى تتصل بالجدل وإن تكن ليست منه:
لقد شكا الأستاذ عبد المنعم من عبارات جاءت من غير قصد في ردودي، فأحب ألا يكون في نفسه منها أثر، ليظل هذا الجدل العلمي المفيد بعيداً عن جميع المؤثرات وبدوري أشكو إليه كلمة ظالمة قالها عن كتابي، تاركا ما عداها مما لو رحت أعده عليه، لأربي على مواضع عتبه:
هذه الكلمة الظالمة هي أن يقرن بين بعض عملي في (التصوير الفني في القرآن)، وبعض عمل المرحوم الأستاذ (الرافعي) في (إعجاز القرآن)، وإنه ليعلم، وقراء الكتابين يعلمون أنه ما من نقطة ارتكاز واحدة بين النهجين والطريقتين. بل لقد قرر بعض النقاد المنصفين أن طريقتي في عرض الجمال الفني في القرآن غير مسبوقة في كل ما كتب عن هذا الموضوع الخالد على الزمان
وكل ناقد منصف عليه أن يسجل أولا هذه الحقيقة. ثم ليكن له رأيه في نقد هذه الطريقة وعيبها كما يريد؛ فهي قابلة للنقد والعيب ككل عمل إنساني في الوجود.
وعلى أية حال فللأستاذ عبد المنعم شكري الخالص، وإليه ثنائي الجم الذي أحسب القراء يشاركونني فيه، لإخلاصه فيما كتب وسلوكه طريق النقد الصحيح.
سيد قطب