الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 643/سجون بغداد

مجلة الرسالة/العدد 643/سجون بغداد

بتاريخ: 29 - 10 - 1945


زمن العباسيين

للأستاذ صلاح الدين المنجد

- 4 -

وكان في نورمبرغ سجن يتناقل الناس أشد الأخبار هولا عما كان المسجونين يسامون فيه البلاء، وكان يعرف بالسجن الأحمر. وكانوا يقلعون أظافير السجناء، ويفقأون عيونهم، ويضغطون على عظامهم بآلات حديدية فتسحق وتهرس. أو يدفعونهم ليناموا في أسرة ذات مسأمير محماة، تنخزهم وخزاً مؤلماً فتسيل دماؤهم. وكان في السجن نفسه كساء حديدي يدخل فيه المسجون فيطبق عليه. وكان له من داخله مسامير حادة تنفذ في الجسم، فيقاسي الرجل أنواع الألم حتى يموت.

وكان في مدينة لاهاي سجن يسمى (جيفا نجن بورث) كان المسجونين فيه يصابون بالجنون قبل أن يموتوا لشدة ما كانوا يعانون من العذاب كالكي بالحديد وقطع الأعناق بحز الرؤوس حزاً بطيئاً.

وفي مدينة هاليفكس كانوا يأتون بالمسجون وهو موثق اليدين والقدمين فتوضع عنقه تحت آلة قاطعة مدلاة مربوطة إلى السقف بحبل، إذا انقطع سقطت الآلة الحادة على عنق الرجل فمات.

وفي سجن قمة سان ميشيل في فرنسا كان السجناء يدفعون إلى كهوف في بطن الأرض فيها الأفاعي وضروب الحشرات وقد ملئت بالماء الراكد القذر فيموت المسجون موتاً بطيئاً؛ وربما ضرب أو عذب حتى يموت.

اللهو

على أننا نرى من تمام البحث، وقد أوردنا طرفاً من ألوان التعذيب أن نسوق طرفاً من اللهو الذي كان يتمتع به بعض المسجونين في بعض السجون. حدث أبو علي بن مقلة قال (من ظريف ما اتفق لي في نكبتي التي أدنتني من الوزارة، أني أصبحت وأنا محبوس مقيد في حجرة من دار ياقوت أمير فارس. وقد لحقني من الأياس من الفرج وضيق الصدر م أقنطني وكاد يغلب على عقلي. وكنت أنا وفلان محبوسين مقيدين في بيت واحد، إلا أنا على سبيل ترفيه وإكرام. فدخل علينا كاتب لياقوت كان كثيراً ما يجيئنا برسالته، فقال الأمير يقرأ عليكما السلام، ويتعرف أخباركما ويعرف عليكما قضاء أي حاجة لكما. فقلت: تقرأ على الأمير السلام وتقول له ضاق والله صدري، واشتهيت أن أشرب على غناء طيب. (قال) والمحبوس معي يخاصمني ويقولك يا هذا، والله ما في قلوبنا فضل لهذا. ثم مضى وعاد يقول: الأمير يقول حباً وكرامة لك، أي وقت شئت! قلت: الساعة، فلم يمض إلا ساعة حتى جاءوا بالطعام والمشام والفاكهة والنبيذ. وصفف المجلس، فجلست والمحبوس معي مقيداً، وقلت له تعال حتى نشرب ونتفاءل بأول صوت يغنى به لنا في هذه الساعة. وجاءت المغنية، وغنتنا غناء طيباً، فقطعنا يومنا بين لهو وشراب وغناء. . .).

وحدث أحمد بن المدبر أنه (لما أمر محمد بن عبد الملك بحبسي، أدخلت محبساً فيه أحمد بن إسرائيل وسليمان بن وهب. فجعلت في بيت ثالث. وكنا نتحدث ونأكل جميعاً وربما أدخل إلينا النبيذ فنشرب ونلهو).

مدة السجن

ولم يكن للسجن مدة خاصة، ولم يكن لكل جرم عقوبة ذات أجل معروف. فقد حبس اسحق بن خلف القاتل حتى مات. وهذا ما يشبه السجن مدى الحياة في أيامنا. وسجن يعقوب بن داوود خمسة عشر عاماً. وحبس رجل في كساء بدرهمين سنتين، وسجن أبو نواس ثلاثة أشهر، وأبو دلامة ليلة واحدة، وحبس الرشيد زلزلاً المغني لوجد عليه عشر سنين، وسجن القاهر إحدى عشرة سنة، في حين سجن المتقي في جزيرة بمقابلة السندية خمساً وعشرين سنة. وهذا ما يشبه السجن مع الإبعاد في هذه الأيام.

فأنت ترى أن ليس للسجن أجل محدود وإنما كان الخروج منه منحصراً في سبل خمسة سنذكرها فيما يلي.

الخروج من السجن

أما هذه السبل فهي: (ا) الفرار، (ب) كسر السجن، (ج) موت الخليفة، (د) العفو، (هـ) حيلة يحتال بها.

ا - الفرار:

أما الفرار فحوادثه كثيرة نسوق إليك منها مثالا. حدث محمد بن القاسم وكان المتوكل قد قبض عليه وسجنه في سجن منفرد قال: كنت أدبر أمري في التخلص منذ حبست. وكان في البيت الذي حبست فيه خلاء إلى الغرفة التي فوقه وخلاء في الغرفة إلى سطحها. وكنت قد أدخلت معي منذ حبست لبداً. فكان وطأتي وفراشي. وكنت أرى (بغرش) وهي قرية من قرى خراسان حبالا تعمل فيها من لبود، كما يفعل بالسيور، فتجيء أحكم شيء. فسولت لي نفسي أن أعمل من اللبد التي تحتي حبلاً. وكان على باب البيت قوم وكلوا بي يخفظونني لا يدخل علىّ منهم أحد؛ وإنما يكلمونني من خلف الباب، ويناولونني من تحته ما أتقومه، فقلت لهم إن أظفاري قد طالت جداً، وقد أصبحت إلى مقراض. فجائني رجل بمقراض وقلت لهم إن في هذا البيت فيراناً يؤذونني ويقذرونني إذا قربوا مني، فاقطعوا لي جريدة من النخل تكون عندي أطردهم بها، فقطعوا لي جريدة من بعض نخل البستان، ورموا بها إلي. فأخذت أضرب بها في البيت وأسمعهم صوتها أياماً. ثم قشرت الخوص عنها، وقطعتها على مقدار ما علمت أنها تعترض في ذلك الخلاء إذا رميت بها. فضممت كل ما قطعته منها بعضه إلى بعض، وقعطت اللبد، وضفرت منه حبلاً على ما كنت أرى يعمل بغرش ثم شددت ما قطعته من الجريدة في رأس الحبل، ثم رميت به في الكوة، وعالجته مراراً حتى اعترض فيها. ثم اعتمدت عليها، وتسلقت إلى الغرفة، ومن الغرفة إلى سطحها، وفعلت ذلك أياماً، وشددت القيد مع ساقي. فلما كان ليلة العيد، وقد شغل الناس وانصرف من كان على الباب صعدت بين المغرب والعشاء إلى الغرفة، ومن الغرفة إلى سطحها، ثم تدليت بالحبل إلى بستان مجاور وفررت. . .).

صلاح الدين المنجد