مجلة الرسالة/العدد 643/القضاء في الإسلام
→ في إرشاد الأريب | مجلة الرسالة - العدد 643 القضاء في الإسلام [[مؤلف:|]] |
ملحمة الحرب والسلام ← |
بتاريخ: 29 - 10 - 1945 |
قطعة أخرى من محاضرة ألقيت سنة 1942 ولم تنشر
للأستاذ علي الطنطاوي
القضاء، أيها السادة، مركب وعر، ومسلك خطر، وكيف لعمري يستطيع بشر، لا يعرف من الأمور إلا ظواهرها، قد خفيت عنه البواطن، وحجبت الأسرار. . . كيف يستطيع أن يقيم حقيقة العدل، ويصيب كبد الحق، ويقوم مقام الرسل والأنبياء، والرسل يتصلون بالسماء بالوحي، ويسلمون من المعصية بالعصمة، وهم مع ذلك لم يؤتوا علم الغيب، وإمام الأنبياء محمد يقول: إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم لتحتكمون إلي، ولعل أحدكما ألحن بحجته من صاحبه فأقضي له، فإنما أقضي له بقطعة من النار - وكيف يهدأ له بال، ويقر له قرار، ويلتذ بمطعم أو مشرب، ويطرب ويلعب، وهو يحمل أثقل عبء حمله إنسان: يريد أن يحقق العدل الإلهي بالوسائل البشرية، ويقول كلمته هو، فيسميها كلمة الشرع، ويصفها بأنها حكم الله؟
لذلك فزع الصالحون من القضاء، وفروا منه فراراً، ورضوا بالسجن ولم يرتضوه، وصبروا على الضرب ولم يقبلوه. عرض على أبي حنيفة ثلاثاً، وهو الإمام الأعظم، فأباه، فضرب على إبائه تسعين سوطاً وظل على الإباء. وقلد سفيان الثوري القضاء، وشرطوا له ألا يعارض فيه، فألقى عهده في دجلة واختفى. وطلب ابن وهب ليولى قضاء مصر، فجمع إخوانه وأهله فشاورهم فقالوا: اقبله فلعل الله يحي الحق على يديك! فقال: أكلة في بطونكم، أردتم أن تأكلوا ديني؟! ثم اختفى وجعل الوالي يطلبه فلا يقدر عليه، فلما عجز عنه هدم بعض داره. وكان في اختفائه يقول: يارب، يقدم عليك إخواني غداً علماء حلماء فقهاء، وأقدم قاضياً؟! لا يارب، ولو قرضت بالمقاريض!
ولم يكن الولاة يفعلون ذلك تشفياً وانتقاماً ممن أبى الولاية، بل رغبة منهم في صلاح الأمة بتولية خيارها قضاءها. ومن قبل هؤلاء فر إياس من القضاء، فلما تعذر عليه الفرار ووقع، نهض به نهضة جعلته علماً فيه شامخاً، وجبلا باذخاً، وجعلت المثل يضرب به في إصابة قضائه، وحدة ذكائه، فيقول القائل: إياس، ويكتفي
خوفهم من القضاء أنه محنة لا يدرون ما مغبتها، وبلاء لا يعرفون ما عاقبته، أيفلحون فيه أم يخرجون منه وقد حبطت أعمالهم، وزاد خوفهم منه ما ورد في أهله من الوعيد، وأن النبي ﷺ شبه صاحبه بالمذبوح بغير سكين، وأنه جعل القضاة ثلاثة: قاضياً في الجنة وقاضيين في النار
نظر هؤلاء بعين الورع، ونظر غيرهم بمنظار الشريعة، فرأوه كما قال عمر بن الخطاب: فريضة محكمة، وسنة متبعة، وعبادة من أفضل العبادات، وطاعة من أجل الطاعات، فرغبوا فيه، وتقربوا إلى الله به، قال مسروق، الإمام التابعي الثقة: لأن أقضي يوماً بالحق أحب إلي من أن أرابط سنة في سبيل الله. واستدل على ذلك بقوله ﷺ: عدل ساعة خير من عبادة سنة. وحديث ابن مسعود: إنه لا حسد (يريد لا غبطة) إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا، فهو ينفقه في طاعة الله؛ ورجل آتاه الله علماً، فهو يعلمه ويقضي به. وقال مكحول فقيه الشام في عصره: لأن أكون قاضياً أحب إلي من أن أكون خازناً. (قال السرخسي): لأن الخازن يحفظ على المسلمين مالهم، والقاضي يحفظ عليهم دينهم. وفسر علي رضي الله عنه والعلماء من بعده حديث قاضيي النار أنهما: قاض علم علماً فقضى بخلافه، وقاض جاهل يقضي بغير علم. وفسروا حديث المذبوح بغير سكين بأنه القاضي الجائر، يدل على ذلك ما رووه من قوله ﷺ: إن الله مع القاضي ما لم يجر، يسدده للحق ما لم يرد غيره.
وقد فصل الحنفية فذكروا أن القضاء من فروض الكفاية، وأن طلبه تعتريه الأحكام الخمسة، فيكون واجباً إذا لم يكن في الأمة من يصلح له إلا واحد، فطلب القضاء واجب على ذلك الواحد. ويكون مستحباً إن كان فيها صالحون ولكنه أصلح منهم، ومباحاً إن كان صالحاً له ويصلح له غيره، ومكروهاً إن كان غيره أصلح منه. وطلب القضاء حرام على من يعلم من نفسه أنه عاجز عنه، وأن من طبعه الميل مع الهوى، ومجاراة الناس، واتباع المغريات
وليس كل طالب للقضاء يولاه، وما عمل من أعمال الدولة إلا لتوليه شروط، ولأهله صفات، باجتماعها تكون التولية، وبانتفائها يكون الرد، يعملون بها اليوم في بلادنا حيناً وتهمل أحياناً، خطأ أو عمداً، فتوسد الأعمال إلى غير أهلها، ويدخل فيها غير مستحقيها. أما القضاء عندنا، فباب الدخول إليه أضيق وشروطه أشد، ولولا ثغرة كانت، ربما ولج منها الضامر الهزيل الذي يمر من هذا الشق، فإذا صار من داخل ترعرع وسمن وصار من أرباب المكان وخلاصة السكان، فإذا عدونا ذلك لم نجد في أصول تقليد القضاء عندنا مغمزاً
وتعالوا قابلوا بين شرائط تقليد القضاء اليوم، وقد نص عليها القرار ذو الرقم 238 وبين ما اشترطه الفقهاء في القاضي تروا أمرها من أمره قريب، فقد شرط القرار أن يكون القاضي سورياً، لأن القضاء مظهر من مظاهر السيادة، وأداة من أدوات السلطان، فهو يوسد إلى أبناء الأمة تثبيتاً لسيادتها وتقوية لسلطانها. وشرط الفقهاء أن يكون مسلماً، لأن الجنسية عند المسلمين هي الدين، وقد منعوا سماع شهادة غير المسلم على المسلم، لأنها ولاية، والله تعالى يقول: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا)، والقضاء بذلك المنع أولى
واشترط القرار ألا يكون القاضي محكوماً بعقوبة شائنة، وأن يكون فاضل الخلق، واشترط الفقهاء العدالة فيه، وإن ذهب الحنفية إلى صحة ولاية الفاسق إن لم يجاوز في أحكامه حد الشرع مع تأثيم من يولي فاسقاً
واتفق القانون والشرع على اشتراط صحة الحواس في القاضي، لأن بها تمييز ما بين الخصوم، وتمييز المحق من المبطل، وعلى اشتراط الذكورة في القاضي، ولم يجوز القانون تقييد امرأة القضاء بين الناس، وقد قال أبو حنيفة رحمه الله بجواز تقليدها القضاء فيما تصح به شهادتها، أي في الشرعيات والمدنيات دون الجنائيات، فمن لي بإفهام هؤلاء الذين يسمون أنفسهم أنصار المرأة أن الشرع أعطاها أكثر مما يطلبون لها، وأن مذهبهم يقوم على واحد من شيئين: إما الغفلة وابتغاء ما لا يكون أبداً من تساوي المرأة بالرجل، وإما المجانة واتخاذ هذه الدعوة مطية يبلغون بها حاجات في نفوسهم
ولم يرو لنا التاريخ خلال هذه العصور الطويلة أن امرأة وليت القضاء، ولا يكاد يسيغ العقل ذلك ولا الطبع يألفه، وقد قال الله تعالى: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض)؛ وفسروا الفضل بأنه العقل والدين
واتفقت قوانين اليوم وأحكام الفقه على اشتراط العلم في القاضي؛ غير أن القانون أوجب نيله ليسانس الحقوق قاضياً شرعياً كان أو مدنياً
وأكثر الفقهاء شرطوا في القاضي أن يكون من أهل الاجتهاد، واحتجوا بحديث معاذ حين أرسله النبي ﷺ إلى اليمن، فقال له: بم تحكم؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي، فارتضى ذلك رسول الله، وقال: الحمد لله الذي وفق رسول الله إلى ما يرضي رسوله؛ واحتجوا بأنه عليه الصلاة والسلام كان يجتهد فيما لم يوح إليه حكمه. ويقضي باجتهاده (ولكن الله لا يقره على الخطأ)، وأن الاجتهاد كان جائزاً للصحابة في حياة النبي عليه الصلاة والسلام
وجاء في المبسوط: إن للقاضي أن يجتهد فيما لا نص فيه، وإنه لا ينبغي أن يدع الاجتهاد في موضعه لخوف الخطأ، فإن ترك الاجتهاد في موضعه بمنزلة الاجتهاد في غير موضعه، فكما أنه لا ينبغي له أن يشتغل بالاجتهاد مع النص، لا ينبغي له أن يدع الاجتهاد فيما لا نص فيه
غير أن الحنفية ذكروا أن أهلية الاجتهاد شرط الأولوية لا شرط صحة التولية، وأنه يصح قضاء المقلد إذا قضى بفتوى غيره (الهداية والهندية)، أما المفتى، فأجمعوا على اشتراط كونه من أهل الاجتهاد، أو النظر في الدليل. قال أبو حنيفة: لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا حتى يعرف من أين قلنا. وهذا منتهى ما تصل إليه حرية البحث، وما تبلغه الروح الاستقلالية في العلم
قال في المبسوط: (وإذا لم يكن القاضي من أهل اجتهاد الرأي ليختار بعض الأقاويل، سأل المفتين (أي المجتهدين)، ونظر إلى أفقههم عنده وأورعهم فقضى بفتواه، وهذا اجتهاد مثله، ولا يعجل بالحكم إذا لم يبن له الأمر حتى يتفكر فيه ويشاور أهل الفقه لأنه مأمور بالقضاء بالحق، ولا يستدرك ذلك إلا بالتأمل والمشورة)
ومهما كان من أمر، فالأصل في القضاء الاجتهاد، ولا يكون إلا كذلك، لأن النصوص محدودة، والوقائع لا حد لها، ولا ينقطع الاجتهاد في المسائل الجزئية أبداً، ومن قال بسد باب الاجتهاد، إنما أراد به الاجتهاد في غير موضع الحاجة أو الاجتهاد المطلق، أما الاجتهاد عند وقوع الواقعة لا بد من معرفة حكم الله فيها، أو عند تبدل العزف الذي بني عليه الحكم الاجتهادي، فلم يمنعه أحد ولم ينقطع أبداً، ولا يقلد في هذا الموطن إلا عصبي أو غبي كما قال القاضي أبو عبيد علي بن الحسين بن حرب:
قال الطحاوي (أبو جعفر الإمام الحنفي الكبير)، وكان كاتب هذا القاضي: كان أبو عبيد يذاكرني بالمسائل فأجبته يوماً في مسألة فقال لي: ما هذا قول أبي حنيفة، فقلت له: أيها القاضي، أو كل ما قال أبو حنيفة أقول به؟! قال: ما ظننتك إلا مقلداً، قلت: وهل يقلد إلا عصبي؟ قال لي: أو غبي. فطارت هذه الكلمة في مصر حتى صارت مثلا، وكان ذلك في أول القرن الرابع
سمعتم خلاصة الخلاف في هذه المسألة، وعلمتم أن العزيمة هي كون القاضي من أهل الاجتهاد، والرخصة التي قال بها الحنفية هي جواز كونه مقلداً يا أيها السادة: إنهم كانوا يختلفون في القاضي هل يجوز له التقليد، فلم يبق خلاف بيننا اليوم في أن القاضي لا يجوز له الاجتهاد!
ونقل الماوردي، أن السلطان إذا قال للقاضي قد وليتك فلا تحكم إلا بمذهب فلان (من الأئمة) كان الشرط باطلا، وكان له أن يحكم بما أداه إليه اجتهاده. ومن الاجتهاد اختيار من يفتي بقوله من المفتين كما جاء في المبسوط.
أما القضاء اليوم فالأهلي منه على مذهب (أئمة) الإفرنج، كأننا أمة من البرابرة لا دين لها ولا فقه، ولا كتاب. وقد بدت في سواد هذا الليل خيوط الفجر، وأوشك أن يفيق النائمون. وأما الشرعي فعلى مذهب أبي حنيفة، إلا مسائل بأعيانها جرى العمل فيها (في مصر) على غيره، منها ما عدل فيه إلى قول معتمد في أحد المذاهب الثلاثة، ومنها ما خولفت فيه المذاهب الأربعة اجتهاداً ورجوعاً إلى دليل كمسألة طلاق الثلاث دفعة واحدة ووقوع طلقة واحدة به، ومنها ما خولفت فيه بلا دليل شرعي كمنع سماع دعوى الزواج ممن لم تبلغ السابعة عشرة أو ما لم تسجل في كتاب وقد مات أحد الزوجين - ولو أنهم اجتهدوا في مصر ونظروا في الأدلة لهان الخطب، ولكن سبيلهم أن يهونوا حكما، كتوريث ابن الابن مع الابن، فيحتالوا عليه، فيسموه وصية إجبارية، أو يجدوا له مستنداً قولا لمجتهد من المجتهدين الأولين ولو كان مرجوحاً أو منقطعاً سنده، فيأخذوا به، وهذا ما سماه ابن عابدين في رسالته اتباع الهوى.
أما القضاء عندنا فليس فيه ابتداع أو مخالفة إلا في مسألة واحدة ولكنا خالفنا فيها ظاهر القرآن وثابت السنة والإجماع. لا تعجبوا يا سادة قبل أن تسمعوا البيان:
نصت المادة 7 من قرار حقوق العائلة على أنه لا يجوز لأحد أصلا أن يزوج الصغير الذي لم يتم الثانية عشرة ولا الصغيرة التي لم تكمل التاسعة. ونص في المادة 52 منه على أن هذا النكاح فاسد. وفي المادة 77 على أن البقاء على الزوجية ممنوع في هذا النكاح فإذا لم يفترقا يفرق بينهما القاضي.
أما خلافها لظاهر القرآن (وظواهره حجة كما هو محرر في كتب الأصول) فلقوله تعالى: (واللائى يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائى لم يحضن). ففهم من ذلك صحة زواج المرأة وطلاقها قبل بلوغها سن الحيض. أما السنة فلزواج النبي ﷺ بعائشة في السنة السادسة من عمرها، والحديث (كما قال في فتح القدير) قريب من المتواتر. وقد انعقد الإجماع على أن حكمه عام وليس خاصاً بالنبي ﷺ أو بعائشة. وقد زوج الزبير ابنته لقدامة بن مظعون يوم ولدت، ولم ينكر عليه ذلك أحد من الصحابة مع علمهم به. أفنكاح قدامة بنت الزبير نكاح فاسد يا أيها السادة؟ أم انه يجب التفريق بين محمد سيد النبيين وإمام المرسلين، وعائشة أم المؤمنين، لأن قرار حقوق العائلة يمنع بقاءهما على الزوجية؟ أم إنه يزعم أن أحكام الإسلام تتبدل ولو نطق بها القرآن وجاءت بها السنة المتواترة وانعقد عليها الإجماع؟
سيقول قائل منكم أو من غيركم إن قانون العائلة وضعه فحول من العلماء، وعرض على شيخ الإسلام وأمر به السلطان واستند فيه إلى اجتهاد ابن شبرمة وأبي بكر بن الأصم.
لا يا سادة، إنه لا شيخ الإسلام، ولا السلطان، ولا مائة مجتهد يستطيعون مخالفة الكتاب والسنة والإجماع، وما أحسب قاضياً يخاف الله ويعرف طرق العلم يحكم بغير ما أنزل الله فيصح فيه الوصف بالفسوق والظلم والكفر، وقد وصف الله بها من لم يحكم بما أنزل الله، فكيف بمن يحكم بخلافه؟!
وإني احب أن أسركم فأخبركم بأن هذه المادة قد وضعت من أكثر من ثلاثين سنة، ولكن قاضياً واحداً لم يقض بها، فلم يبق منها إلا سواد الحبر في بياض الورق، ذلك لتعلموا أن هذا القرآن قد تولى الله حفظه وحمايته (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) وإن قلعة يدافع عنها الله لا يستطيع أن يقتحمها بشر!
علي الطنطاوي