الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 641/الزندقة؛

2 - الزندقة مجلة الرسالة/العدد 641/الزندقة في عهد المهدي العباسي (أيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهم فاقتله) (من وصية إبراهيم الإمام العباسي لأبي مسلم الخراساني) للأستاذ محمد خليفه التونسي عرضنا في المقال الماضي (الرسالة: العدد 637) عرضا موجزاً يسيراً ما كان من موقف الأمويين إزاء مخالفيهم في الرأي والسياسة، وعارضناه بموقف مؤسسي الدولة العباسية إزاء مخالفيهم في الرأي والسياسة، وبينا وجوه الخلاف بين الموقفين، كما أوضحنا موقف هؤلاء وأولئك من العرب والفرس وما كان من اطمئنان الأمويين إلى العرب وحذر الآخرين من العرب والفرس معا وضرب كلا العنصريين بالآخر لسوء ظنهم بهما معا، وأوضحنا أن النعرة الفارسية ظهرت منذ فتح العرب فارس في عهد عمر الذي لم يكن قتله إلا مؤامرة فارسية لكيد العرب، وما كان من خوف تسلط الفرس على مؤسسي الدولة العباسية فدفعهم إلى الإفراط في الاتهام والقتل لمجرد الشبهة، وما كان من طموح الفرس إلى الاستقلال وتطلع أبي مسلم إلى السلطان حتى قتله المنصور، وسوء ظن العباسيين حتى بوزرائهم وقتل كثير منهم مما أدى بخالد بن برمك إلى كراهة أن يسمى وزيرا تطيرا من القتل كما قتل قبله أبو سلمة الخلال، وما كان من إسراف العباسيين في الحجر على الحرية الفكرية خوفاً على دولتهم من الانهيار، وأن المنصور كان يحجر على حرية الرأي في كل ما يمس الحكومة ونظمها ليس غير حتى ليحاسب الناس على ما في ضمائرهم ويعاجل بالقتل كل خارج عليه، بل كان من كان وجوده خطرا عليهم ولو لم يكن يستحق القتل وما كان من عدم مراعاته في ذلك حدود الدين ولا قواعد العرف العربي ولا العهود التي قطعها على نفسه. وقلنا في ختام المقال: (فلما جاء أبنه المهدي سنة 158 هـ كانت الخلافة قد استتبت له فلم يكن يخشى ما خشي والده من الفتن على الدولة ولكن عهده لم يكن خالياً من فتن ذات طابع خاص يميزها من الفتن التي قامت في عهد أبيه، وقد جعلته هذه الفتن يتجه إلى الحجر على الحرية الفكرية في عهده ولا سيما الزندقة؛ إذ كانت الزندقة طابع هذه الفتن وعنوانها، وهذا ما جعله دقيق الإحساس من ناحيتها، كلفاً بمعاقبة من يتهمون بها إن صدقا وإن كذبا، جادا في البحث عن أتباعها في كل مكان، فإذا وجدهم حاسبهم حتى على ما في ضمائرهم وعاقبهم بالظنة كأبيه، ولو لم يجد من أعمالهم ولا أقوالهم مستنداً للتهمة فضلا عن مبرر للتعذيب والقتل، أما فيما عدا الزندقة فكان المهدي حياله سمحاً كريماً، ولذلك تفصيل سيأتي بيانه إن شاء الله). ولتفصيل ذلك لابد من بيان الحوادث التي حملت المهدي على تشدده في عقاب الزنادقة، وبيان صفاته النفسية والفكرية التي جعلته يتخذ أسلوباً خاصاً في النظر إلى هذه الزندقة وهؤلاء الزنادقة. ولابد من عرض بعض المحاكمات التي جرت بينه وبين كبار الزنادقة والتهم التي وجهت إليهم أثناءها حتى قضى فيها بالقتل أو بغيره. ولابد لنا مع هذا كله من أن ننظر نظرة ربط إلى أمرين مترابطين بوجودهما هما الزندقة والشعوبية أو الوطنية الفارسية إذ لا حيلة لنا في فهم الزندقة فهما صحيحا ما لم ننظر إليها مرتبطة بهذه الشعوبية الفارسية التي كانت السبب الأهم فيما قام في فارس من ثورات على الخلفاء من العرب أو حروب استقلالية، فلم تكن تلك الفورات المتتابعة إلا لطلب استقلال الفرس الذي انتزعه العرب منهم، ومحاولة التخلص من السيطرة العربية ولا سيما بعد أن زاد الاضطهاد ورأى الفرس بأعينهم أنهم قادرون على هزيمة العرب بما جرى بين الفريقين من وقائع انتصر فيها الفرس على العرب ومنها المعارك التي كانت الجيوش الخراسانية وجيوش الأمويين وانتصار الأولين وهم فرس على الآخرين وهم عرب، ولقد كان ما كان من ضياع أمل الفرس في العباسيين بعد أن مكنوا لهم دولتهم، وجحودهم الذي ظهر في قتل المنصور أبا مسلم، وإخماده ثورة تلميذه سنباذ الذي ثار للمطالبة بثأره حين ثار عليه في سنة 137 هـ وهي سنة مقتله، وما كان من قمع المنصور الراوندية حين خرجوا عليه لقتله في الهاشمية سنة 141 هـ وقد كانوا على رأي أبي مسلم في زعمه تناسخ الأرواح، وادعوا أن ربهم الذي يطعمه ويسقيهم هو المنصور، وأن الهيثم بن معاوية أحد ولاته هو جبريل. ولابد لنا من النظر بعد ذلك في عقائد فارس المانوية والمزدكية لفهم الآراء التي كانت تتوج هذه الفتن ولا سيما فتنتي الزنادقة المحمرة والمبيضة في عهد المهدي، وتحديد معنى الزندقة كما تآراها المهدي والمعاني الآخر التي ذائعة في ذلك العصر لكلمة الزندقة وكانت تطلق على كثير ومع ذلك ظلوا بعيدين عن العقاب بل ظلوا في كنف الدولة ينالون خيراتها ويحتمون بها بل يلون ولاياتها من الخلفاء ويقودون جيوشها مع الثقة والتقدير، ولابد من الإشارة إلى دسائس البلاط ومكايد السياسة والتنافس بين رجال البلاط وما كان لكل ذلك من الخطر في إشاعة التهمة بالزندقة والعقاب عليها على ما ستفصله إن شاء الله. ونكتفي في القول في توارث الزنادقة بعرض موجز لأخطر ثورتين ظهرتا في عهد المهدي: إحداهما ثورة الزنادقة المبيضة في خراسان وقد ظلت نحو عامين وثانيتهما ثورة الزنادقة المحمرة بعدها وقد تم إخمادها بسرعة ويسر، فقد كانت هاتان الثورتان هما اللتين وجهتا نظر المهدي إلى الزندقة وجهة خاصة وصبغتا عهده بها صبغة خاصة مما لم يكن له قبله مثيل. وهانحن أولا نلخص أخبارهما مما كتب كل من الطبري وابن الأثير في تاريخه: ظل المنصور يدبر ملكه قرابة اثنتين وعشرين سنة (136 - 158هـ) وقد توفى في يوم السبت سادس ذي الحجة سنة 158هـ ببئر ميمون محرما وهو يقوم بشعائر الحج وقد تولى الخلافة بعده ابنه المهدي ولم تمض بضعة أشهر من سنة 159هـ أو من خلافة المهدي حتى فوجئ بثورة عوان في خراسان هي ثورة الزنادقة المبيضة فاضطرب لها ملكه وزلزل زلزالاً شديداً. ذلك أنه خرج في خراسان في هذه السنة (159هـ) رجل من الفرس يسمى هاشم بن حكيم وهو المعروف في التاريخ بالمقنع الخراساني لأنه كان يضع على وجهه قناعا من الذهب ليخفي به دمامة وجهه ولو لم تكن ثورته كثورة غيره انتفاضا على الدولة لاستبدال خلافة بخلافة أو الثأر لقبيلة من قبيلة أو نصر جيل على جيل بالقوة جيل بالقوة فحسب، بل كانت إلى جانب محاولة التخلص من الحكم العربي لفارس ثورة ذات آراء خاصة في الدين والكون: كانت نزعة عنصرية فارسية بدليل أنها قامت في خراسان، والقائمين بها من الفرس، وكانت ترمي لأخذ الثأر من الخليفة والعرب جميعاً: فقد كان المقنع يقول بتناسخ الأرواح وأن روح الله ظهرت في آدم ثم انتقلت إلى نوح وهكذا إلى أبي مسلم ثم المقنع نفسه، فهو إذن يدعى الربوبية لنفسه، وهذا ما لم يزعمه ثائر قبله لنفسه، ومن أجل ذلك كانت ثورته ذات طابع خاص يميزها من الثورات التي تقدمتها وإن اتفقت معها في كثير من الغايات.

ومن أجل ذلك أيضاً كان من الحزم والفطنة أن ينظر إليها الخليفة المهدي نظرة خاصة تمتاز عن نظراته إلى الخارجين عليه من الطلاب الملك والمغانم وغيرهم.

نهض المقنع يدعو من حوله إلى الإيمان بربوبيته والأخذ بتعاليمه في خراسان وما وراء النهر فاستوفى بشراً كثيرا من الصغد وبخاري وسمرقند وأتراك بحر قزوين، وامتد نفوذه في تلك البقاع النائية ونبه أمره، وكان أتباعه يسجدون له من أي النواحي كانوا، وكانوا يقولون في الحرب: (ياهاشم أعنا) وتحصنوا في قلعة بسيام وسنجرده وهي من رساتيق كش فيما وراء النهر، وأعانه كفار الأتراك فأغاروا على المسلمين، ومان يعتقد أن أبا مسلم لأفضل من النبي عليه السلام، ويدعى أنه يقتل قاتليه؛ واجتمع مع من والوه بكش وغلبوه على بعض قصورها وعلى قلعة نواكث وحاربهم أبو النعمان والجنيد وليث بن نصر من ولاة المهدي في إقليم خراسان وما وراء النهر مرة بعد مرة فلم ينالوا منهم شيئاً، وقتلوا حسان بن تميم ومحمد بن نصر وغيرهما من الولاة. وعندئذ لاح الخطر على الدولة للمهدي فعبأ جيوشه ووجه بها إلى المقنع يقودها أبرع قواده فعجزوا عن إخضاعه: ومن هؤلاء معاذ بن مسلم واليه على خراسان ومعه عقبة بن مسلم وجبرئيل بن يحيى وأخوه يزيد وليث بن نصر بن سيار مولى المهدي. ولقد أشتغل هؤلاء بقتال المقنع وزنادقته المبيضة الذين كانوا ببخارى فقاتلوهم أربعة أشهر في مدينة بومجكت ونقبوها عليهم وقتلوا منهم سبعمائة، ولكن منهزميهم لحقوا بالمقنع فكانوا له قوة، ولقد تبعهم جبرئيل بن يحيى بعد أربعة أشهر في القتال بلا جدوى. وكان ممن سيرهم المهدي إلى المقنع قائده أبو عون فلم يبالغ في قتاله. واستمرت الحرب بين جيوش المهدي وجيوش المقنع نحو سنتين حتى عيل صبر المهدي ولقي المسلمون منه بلاء عظيما، وكان المهدي أثنائهما يبعث بقواده على جيوشه مجتمعين، وفي نهاية الأمر أرسل معاذ بن مسلم وجماعة من القواد والعساكر وعلى مقدمته سعيد الحرشي، وأتاه عقبة بن مسلم وجاعة من القواد والعساكر وعلى مقدمته سعيد الحرشي، وأتاه عقبة بن مسلم من فاجتمع به بالطواويس وأوقعوا بأصحاب المقنع، وأتى معاذ بن سعيد فحاربهم، ولكن كل أولئك لم ينزل الهزيمة الساحقة بالمقنع وجيوشه. وجرت في نهاية الأمر جفوة بين القائدين سعيد الحرشي وعاذ بن مسلم فكتب سعيد إلى المهدي يقع في معاذ ويضمن له أن يكفيه المقنع أن افرده بالقيادة فأجابه المهدي إلى ما طلب، فبدأ يطارد المقنع ويضيق عليه ويحاصره وإذ ذاك شعر المقنع بالخطر فبدأ يجمع الأقوات والأسلحة عدة للحصار، ولكن سعيداً ضيق عليه الحصار حتى أيأسه من النصر والحياة والمقنع محصور في قلعة كش، فلما أحس بالهلكة شرب سما وسقاه نساءه وأهله فمات وماتوا جميعاً، ودخل المسلمون قلعته واحتزوا رأسه ووجهوا به إلى المهدي وهو بحلب. ولقد عرف المقنع الخراساني هاشم بن حكم وأتباعه بالزنادقة المبيضة لأنهم اتخذوا اللباس الأبيض شعاراً لهم هذه هي الصدمة الأولى من صدمات الزنادقة التي أصابت الدولة العباسية في عهد المهدي فاضطربت له دولته جميعاً وتتابعت لها الزحوف إثر الزحوف نحو سنتين حتى أخمدتها بعد لأي شديد وإسراف كثير في الأرواح والأموال، ولم يكن المهدي قبل ذلك إلا عالماً أقوى العلم خطر إقليم المشرق فمنه انبعثت الجيوش الخراسانية التي دكت المملكة الأموية دكا، وأسلمت الخلافة للعباسيين، وما كان المهدي ليجهل خطر الفرس وما أنزل بهم العرب من بلاء طوال مدة بقائهم في الأقاليم الفارسية، ولا حقد الفرس على العرب وتربصهم بهم الدوائر، وما كان من قتل أبي مسلم ومطامعه وثورة تلميذه وتابعه سنباذ ثم ثورة الراوندية، وما كان ليجهل الدوافع القريبة والبعيدة التي أثارت هذه الفتن؛ ولم يكن ينقصه سوء الظن والدهاء وكان الأمران من أهم الأركان في سيساة الدولة العباسية من عهد السفاح بل قبله إلى عهده هو (المهدي) أما الثورة الثانية فقد جاءت إثر الثورة الأولى بعام واحد تقريباً وإن لم تبلغ من القوة ما بلغت الأولى ولم تكلف المهدي من الأموال والأرواح والمتاعب ما كلفته تلك: قامت هذه الثورة في المشرق أيضاً (وهكذا المشرق دائماً) في ولاية جرجان شرقي بحر قزوين، وكان القائمون بها يعرفون بالزنادقة المحمرة لأنهم اللباس الأحمر شعارهم، ولا خلاف بين الطبري وابن الأثير في أن هذه الثورة كانت سنة 162 هـ، بل تكاد كلماتهما تتحد في الرواية. قال ابن الأثير في أخبار سنة 621 (وفيها خرجت المحمرة بجرجان عليهم رجل اسمه عبد القهار فغلب عليها وقتل بشراً كثيرا فغزاه عمر بن العلاء من طبرستان فقتله عمر وأصحابه) وقد انتشرت تعاليم طوائف الزنادقة بين الناس فيمار وراء النهر وخراسان والولايات الفارسية الغربية والشمالية، وتسربت أيضاً إلى العراق، وكانت تعاليمها مزيجاً من فلسفة ماني واشتراكية مزدك كما سنفصله إن شاء الله، فهب علماء المسلمين ممن اشتغلوا بعلم الكلام يردون على هذه التعاليم. ولقد كان لتعاليم الزندقة بعدئذ وقبلئذ أثر عظيم في نظريات علم الكلام واتجاهاته بل اتجاه الفكر الإسلامي كله حينذاك وفي أقوال الشعراء الفرس، حتى لا نستطيع أن نفهم بعض مذاهب المتكلمين وأقوال بعض الشعراء وبعض اتجاهات الفكر الإسلامي بل كله في ذلك العصر إلا إذا درسنا حركة الزندقة. ولا حيلة لنا كما قدمنا في فهم معنى الزندقة بل معانيها المختلفة ما لم ندرس حركة الشعوبية التي ظهرت كما قدمنا منذ وطئت أقدام العرب أرض فارس في عهد عمر بن الخطاب ولم تظهر في غيرها من البلاد التي فتحها المسلمون كمصر واليمن والشام وبلاد المغرب وموعدنا بذلك المقال التالي إن شاء الله. محمد خليفة التونسي تصويب في مقالنا الأول (الزندقة في عهد المهدي العباسي) المنشور بعدد الرسالة 637 وقع خطأ في أسم أبي سلمة حفص الخلال فكتب في صفحة 1013 أبو حفص سلمة الخلال، وفي صفحة 1014 أبو سلمة وصوابه - كما قلنا - أبو سلمة حفص الخلال كما يفهم من الأبيات التي نقلناها هناك، ومنها: شرب الكأس بعد حفص سليما ... ن ودارت عليه كف المدير