الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 64/الشريف الإدريسي يضع اقدم خريطة جغرافية للدنيا

مجلة الرسالة/العدد 64/الشريف الإدريسي يضع اقدم خريطة جغرافية للدنيا

مجلة الرسالة - العدد 64
الشريف الإدريسي يضع اقدم خريطة جغرافية للدنيا
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 24 - 09 - 1934

القديمة

للأستاذ محمد عبد الله ماضي

عضو بعثة تخليد ذكرى الإمام محمد عبده بألمانيا

1 - تمهيد:

إنني إذا تحدثت عن الخريطة الإدريسية فإنما أتحدث عن مجهود علمي خالد من مجهودات أحد أسلافنا الأمجاد، عن مبرة من مبرات رجل من رجالاتنا في التاريخ، ويدمن الأيادي البيضاء التي أسداها أحد علماء الإسلام وأبناء العرب إلى العلم والعالم يوم كانوا قادة المعرفة وحملة لوائها على وجه البسيطة، ويوم كان الشرق يملي كلمته على الغرب ويقوده إلى مسالك الحياة الحق على ضوء العلم، وفي سبيل الهدى والمعرفة. أتحدث عن اقدم خريطة عالمية جغرافية صادقة عرفها التاريخ ووصلت إلى أيدينا، وأقرب صورة عرفت في تلك العصور السالفة مطابقة لما وصل إليه العلم الحديث ولما نعلمه الآن علم اليقين، تلك هي (خريطة الشريف الإدريسي) التي أظهر في وضعها براعة علمية فائقة، وخلد لنفسه بها ذكرا طيبا حسنا بين العلماء الأمجاد سوف لا يزال يضوع شذاه وينتشر عبيره ما دام للعلم أهل يقدرونه، وما دام هناك من يعرف للعلماء حقوقهم.

ولم يكن كتابة (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) إلا شرحا لهذه الخريطة وتعليقا عليها، وهو كتاب ضخم يقع في جزئين كبيري الحجم، وإن كثيرا من علماء البحث في الشرق والغرب وفي مختلف العصور، قد بحثوا بحوثا مستفيضة في هذا الموضوع الشائق، ولقد كان آخر من عنى بذلك من علماء البحث الجديد الأستاذ (كونراد ميللر) أحد العلماء الألمان الإجلاء فانه أخرج الخريطة في ثوب قشيب، وطبعها طبعة ملونة سنة 1928 وكتب عنها الفصول الطوال، وعقد الموازنات بينها وبين الخرائط الجغرافية القديمة والحديثة، وأشاد بمنزلتها كأساس قوي متين، ومرجع منظور إليه بعين التجلة والاحترام من مراجع هذا العلم وأسسه.

2 - من هو الشريف الأدريسي؟ الإدريسي هو الشريف أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن إدريسينتسب إلى بيت الأدارسة الذي حكم مدينة (مالقة) في النصف الأول من القرن الحادي عشر الميلادي بعد سقوط خلافة قرطبة في بلاد الأندلس.

هذا البيت يمت بصلة القرابة إلى الأسرة الأدريسية التي حكمت في مراكش 135 سنة من 791 إلى 926 م.

وهاتان الأسرتان ترجعان معا في نسبهما إلى إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.

إدريس هذا افلت من يد العباسيين بعد اشتراكه في ثورة العلويين عليهم في ولاية موسى الهادي، وفر من وجههم إلى بلاد الغرب سنة 784 م وهناك أسس مملكة الأدارسة التي ورثها أبناؤه من بعده. بعد أن بسط يده على تلك الجهة التي نزل بها، بعضها بموالاة سكانها له، والبعض الآخر بواسطة الحرب وبعد تحكيم السيف، وما زال الأدارسة هناك يدبرون ويحكمون حتى غلبهم الفاطميون على أمرهم وانتزعوا الملك من يدهم. صاحبنا الإدريسي ولد سنة 110 ببلاد المغرب في (تطوان) على إحدى الروايات أو في (سبتة) كما في الروايات الأخرى حيث هاجر والده وبعض أقاربه في نهاية القرن الحادي عشر، وأين أتم الإدريسي دراسته وتلقى دروسه؟ لم يذكر المؤرخون ذلك. ولكن الأمر كما قال الأستاذ (ميللر) ليس بعير، فان القارئ لوصفه الدقيق الوافي لمدينة (قرطبة) يستطيع أن يستنبط من ذلك أنها كانت مقر دراسته وموطن تخرجه نشأ هذا الرجل وقد حببت إليه الأسفار من صغره، فبدأ أسفاره وهو في السادسة عشرة، وسافر إلى البلدان الواقعة على البحر الأبيض المتوسط، وتغلغل في شمال إفريقية، ودرس خصائص أهل هذه البلاد وعوائدهم. فوق هذا سافر إلى سواحل فرنسا في المحيط الأطلانطي، وإلى سواحل إنكلترا كما حدث في بعض كتاباته، وفي نهاية الأمر دعاه رجار (روجر الثاني النورماني) ملك صقلية إلى الرحلة إليه والنزول عنده في (بالرم) على الرحب والسعة والإقامة ببابه كأحد أفراد الحاشية معززا موفور الكرامة. رجاه ذلك الملك الجليل في هذا بعد أن وصل إلى مسامعه من هو الإدريسي، وبعد أن علم منزلة الأمير العلمية. قبل الإدريسي هذه الدعوة الكريمة وشد رحاله نحو صقلية ليأخذ منزلته في البلاط الملكي، وليحدث هناك الدوي الهائل في الأفق العلمي الذي مازلنا إلى الآن نسمع صداه، شجعه على القول هذه الدعوة رغبته في الفرار من وجه أعدائه وأعداء أسرته في البلاد العربية الذين بالغوا في اضطهاده وطلبه، وسعوا جهدهم في النكاية به. رحل الأمير إلى صقلية وأقام بها مدة حياته حتى قبض إلى رحمة ربه سنة 1166 م. وهكذا كان حظه حظ جده الأول إدريس. كلاهما أستخلص لنفسه الحياة من مخالب الموت، وفر من حظيرة الاضطهاد الضيقة الأنحاء إلى بحبوحة الملك الواسعة الأرجاء. كلاهما شاد بجده وعزمه دولة أدريسية، غير أن دولة جده انقضت وأخنى عليها الدهر، ودولته هو خالدة لا تنقضي. والأمر ليس بغريب. فهذا شأن دولة العلم نصيبها الخلود والبقاء بينما تقضى دولة الملك وتفنى. رحل هذا العالم الجديد والأمير النبيل إلى صقلية وقضى بقية أيامه هناك، قضاها في الأنتاج والعمل المثمر. لم يحدد المؤرخون الوقت الذي رحل فيه الإدريسي إلى صقلية تلبية لدعوة مليكها رجار (روجر الثاني) ولم يذكروا في أي سنة كان هذا. غير أننا نستطيع أن نأخذ برأي الأستاذ (كونراد ميللر) ونستنبط ذلك من الحوادث التاريخية المرتبطة بالموضوع، وعليه فلنا أن نفرض أن ذلك حدث قبل سنة 1138 م بقليل. فأننا نعلم في تلك السنة عقد (رجار الثاني) العزم على العمل لوضع خريطة جغرافية ووضع كتاب يشتمل على وصف أجزاء المعمورة المعروفة في ذلك الوقت. خذا الأمر الخطير الذي لعب الإدريسي فيه دور البطل.

3 - صقلية في ذلك العهد وحالة البلاط الملكي في الدم

كانت صقلية في ذلك العهد ملتقى العقول المفكرة، ومحط رحال العلماء يأتون إليها من كل فج عميق، وكانت بالرم العاصمة كعبة رجال العلم يسعون إليها من الشمال والجنوب لما عرف عن مليكها رجال الثاني النورماني من محبته للعلم وتقديره للعلماء واحترامه لهم من أي جنسية كانوا، والى أي ملة انتسبوا. فقد كان بلاطه بحق حرم العلم، من دخله من العلماء كان آمناً. هنا التقت الحضارة الإسلامية بالحضارة المسيحية، وتعرف فن الشرق المسلم إلى فن الغرب المسيحي فتآخيا وأخذا يعملان جنباً إلى جنب إخواناً متحابين لمصلحة العلم وفي سبيل خير العالم. هناك ورث النورمانيون حضارة العرب الذين حكموا الجزيرة 242 سنة من سنة 830 إلى 1072 م والذين ورثوا حضارة الروم من قبل. في ذلك الوقت كانت الحروب الصليبية قائمة على قدم وساق، فكان هذا سبباً لوفود كثير من رجال دول أوربا ودول العلم المختلفة إلى بالرم. هؤلاء الرجال الذين كانوا للكثير منهم شأن في بلادهم ومعرفة بأحوالهم السياسية والاجتماعية والجغرافية. كان ذلك الوقت هو العصر الذهبي للنورمانيين في صقلية الذي عمت فيه سيادتهم جميع أنحاء الجزيرة، والذي دخلت تحت سلطانهم في خلاله قسم من إيطاليا وشمال أفريقيا. كل هذه العوامل سهلت للإدريسي القيام بمهمته الكبيرة الشأن، ومكنته من أن يجمع إلى معارفه الخاصة وملاحظاته الشخصية التي أكتسبها بأسفاره الطويلة ورحلاته المتعددة، وأن يضم إليها ما جعله يضع خريطته العالمية ويكتب كتابه (نزهة المشتاق) عنها بوجه لم يسبق اليه، حتى كانت هذه الخريطة وذلك الكتاب مرجع المؤلفين الجغرافيين من بعده.

4 - مؤلفات الإدريسى في المدة التي قضاها في صقلية

لم يقتصر عمل الإدريسي في تلك المدة التي قضاها في بلاط الروم على وضع تلك الخريطة، ولكنه ألف غير ذلك أربعة كتب (1) كتاب نزهة المشتاق أو كتاب رجار الذي سبقت الإشارة إليه، والذي أختصر فيما بعدتحت هذا الاسم عينه، ولقد أطلعت على نسخة من هذا المختصر في مكتبة المعهد الشرقي بهامبورج مطبوعة بروما في سنة 1592 م ومكتوب على هامشها أن هذا الكتاب أول ما طبع باللغة العربية (2) كتاب الممالك والمسالك الذي لم يصلنا منه إلا بعض مقتبسات اقتبسها أبو الفدا عند كلامه على الجغرافية العربية. كذلك حدثنا عنه الشاعر أبن بشرون الأندلسي، وحدث أن الإدريسي ألف هذا الكتاب سنة 1161 لنجل رجار الثاني (فلهلم) الذي حكم من سنة 1154 إلى سنة 1166 م (3) كتاب روض الفرج، وهو كتاب جغرافي صغير اكتشفه أحد الباحثين من نحو ثلاثين سنة بمكتبة خاصة في (إستانبول) (4) كتاب يبحث في وسائل العلاج البسيطة. فوق هذا نقل الأستاذ (ميللر) عن المؤرخين أنه كان شاعرا وأنه لم يصلنا من شعره إلا بعض مقطوعات، ولكنني لم اعثر على شئ من هذه المقطوعات لأعرضه على قراء الرسالة.

5 - كيف فكر روجر الثاني في وضع هذه الخريطة وكيف

عهد إلى الإدريسي بذلك؟

عنى روجر الثاني عناية خاصة بالمسائل الجغرافية واخذ يشتغل بدراسة الكتب الجغرافية المختارة الموجودة في ذلك العهد، ولا سيما العربية منها، ولكنه لما لم يجد بعد البحث الطويل ما يطفئ غلته ويقضي به لبانته ويريح ضميره كباحث مجد، لما لم يجد جواباً واضحاً وحلاً موفقاً لما كان يجول بخاطرهم، المشكلات العلمية أخذ يستحضر رجال الخبرة الأجانب الذين وفدوا على مملكته من كل فج ويسألهم بواسطة المترجمين منفردين أو مجتمعين عن مواقع البلدان وحدودها، وعن كل ما يتعلق بها جغرافيا كلا بقدر ما تصل إليه معرفته، وقد كانوا كثيري العدد، فأن توافقت أجوبتهم ولم تتضارب أقوالهم اعتبر إجابتهم صحيحة وأعطاها قيمتها العلمية وقيدها وإلا ردها عليهم ولم يعتبرها، وبعد أكثر من خمس عشرة سنة قضاها بلا إنقطاع مع صاحبة الإدريسي في هذا العمل الخطير والبحث الشائق أستقر الرأي على تقييد ما وصلوا إليه ورسمه في خريطة عالمية كاملة تبين فيها مواقع البلدان والبحار والأنهار والجبال إلى غير ذلك كما وصل إليه البحث وانتهى إليه الاستقرار، فأعطيت القوس باريها، وعهد بهذه المهمة الكبيرة إلى الشريف الإدريسي الذي رسم أصل هذه الخريطة، ثمبعد هذا أراد الملك أن تحفر هذه الخريطة ثانية على لوح من الفضة، فأحضر الصناع المهرة الذين أتموا هذا العمل تحت رعاية الإدريسي ورقابته، وبعد أن جعل الملك مقدار أربعمائة ألف درهم من الفضة كما روى خليل الصفدي تحت تصرف الإدريسي لهذا الغرض اتخذ الإدريسي أقل من ثلث المقدار مائدة مستطيلة يبلغ طولها كما قدر الأستاذ (ميللر) ثلاثة أمتار ونصف متر وارتفاعها مترا ونصف متر تقريبا، ثم حفر عليها بواسطة الصناع المهرة كما قدمنا خريطة بغاية الدقة والإتقان وتمام الموافقة لتلك الخريطة التي رسمها قبل القيام بعملية الحفر، وكان الفراغ من هذا العمل الجليل الشأن في يناير سنة 1154 م. وكشرح لهذه الخريطة وتعليق عليها ألف الإدريسي كتابه نزهة المشتاق في إختراق الآفاق أو كتاب رجار الذي أشرنا أليه، وإنه لجدير بهذه التسمية بعد أن بذل هذا المليك الجليل تلك العناية الكبيرة، وقدم هذا السعي المحمود خدمة للعلم وحبا فيه، وقد كانت العناية بتآليف هذا الكتاب شبيهة بأختها في وضع الخريطة. فقد اختار رجار الثاني والإدريسي عدة من الرجال الذين بصح الاعتماد عليهم في مثل هذه العظائم وبعثوهم إلى جهات العالم المختلفة ليدرسوا احولا البلدان النائية ويدرسوا أهلها وعاداتهم وأحوالهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ويدرسوا حاصلات البلاد وحيواناتها وكل ما تنتجه ويعيش فيها إلى غير هذا مما له أهمية جغرافية وما يتعلق ببعض نواحي علم طبقات الشعوب وعلم الاجتماع. أمرهم بان يدرسوا هذا ثم يضعوا تقريراتهم عنه، ولقد حمل هؤلاء الرسل إذنا من الملكالنورماني رجار الثاني ليحضروا معهم كل ما يعدونه غريبا في بابه ذا أهمية جغرافية خاصة من الأمور الخارقة للعادة في باب الطبيعة، بعد أن تم ذلك وعاد أفراد تلك البعثة الاستكشافية من الجهات التي أرسلوا إليها، وقدموا تقاريرهم أجتمع لدى الإدريسي ما مكنه من وضع كتابه نزهة المشتاق.

6 - كيف كانت صورة الأرض في نظر الإدريسي عند وضع

خريطة؟

ولا بد لنا قبل أن نتكلم عن شرح الخريطة وبيان بنائها أن نشرح الصورة الأرضية التي كان يعتقدها الإدريسي عند وضع خريطته. كان الرأي الشائع إلى أواخر العصر المتوسط أن الأرض مسطحة عائمة على وجه الماء. نعم لقد شك بعض علماء اليونان في ذلك وثار عليه أفراد آخرون بعدهم، ولكنه لم يزل رأي الأغلبية حتى نهاية ذلك الوقت. أما رأي الإدريسي يشاركه فيه علماء الجغرافيا الأخصائيون من العرب فقد كان غير ذلك، أعتقد الإدريسي أن الأرض مكورة على شكل بيضة يحيط بها الماء ويتعلق بها بواسطة قوة جاذبية طبيعية، فالماء يغمر نصفها وينحسر عن النصف الآخر مع كون هذا النصف الأخير المنحسر عنه الماء آخذاً شكلاً بيضاوياً منقسماً بواسطة خط الاستواء إلى قسمين متساويين: شمالي وجنوبي، المعمور منها الشمالي فقط. أما الجنوبي فهو خراب غير معمور لشدة الحرارة ولعدم وجود الماء، ولا يفوتنا أن ننبه إلى أن أبن رشد الطبيب والفيلسوف والفقيه المسلم (1126 - 1198) عارض الإدريسي في هذه النقطة، فلقد روى عنه أبن خلدون (732 - 808 هجرية) في مقدمته أنه ارتأى النصف الجنوبي من الكرة موافق للنصف الشمالي منها تمام الموافقة في الجو والطبيعة وأنه مأهول بالسكان مثله، وأن النقطة القريبة من خط الاستواء سواء كان شمالا أو جنوبا شديدة الحرارة، ثم تتدرج درجة الحرارة في الانخفاض بقدر بعد المنطقة عنه. ووافق ابن خلدون أبن رشد في اصل نظريته وأيدها بما ساق من الأدلة، إلا انه رأى أن النصف الجنوبي لا سكان فيه كما في الشمال، وعلل ذلك بأن معظم القسم الجنوبي الصالح لسكن مغمور بالماء.

يتبع

محمد عبد الله ماضي