مجلة الرسالة/العدد 638/الشعلة المنقذة
→ نظرية كونفوشيوس الدينية | مجلة الرسالة - العدد 638 الشعلة المنقذة [[مؤلف:|]] |
نظرات ← |
بتاريخ: 24 - 09 - 1945 |
لمكسيم جوركي
للأستاذ محمد خليفة التونسي
(إلى الأبطال الذين يضحون بأنفسهم في الوقت المناسب
ليصونوا قومهم من الانهيار: أهدي هذه القصة آية تقدير
وإعجاب)
(م. خ. ا)
منذ عهد سحيق كانت إحدى القبائل الرحالة تضرب خيامها في بقعة مجهولة تحدق بها غابات ألفاف، لكنها تنحسر عن هذه البقعة في جهة من جهاتها، فتمتد أمامها في تلك الثغرة سهول فسيحة.
كان أفراد تلك القبيلة يمتازون بالقوة والبسالة، كما يمتازون إلى جانب ذلك بالقناعة، فأقاموا ما أقاموا في تلك البقعة وهم ينعمون ببسطة العيش ورغده. وذات يوم هاجمتهم قبائل آخر أقوى منهم بطشاً وأشد عتياً، فأجلتهم عن منازلهم إلى غابة هي أكثف الغابات، وآسها ماء، وأحلكها ظلاماً. فقد كانت فروع الأشجار في تلك الغابة التي نزحوا إليها قد مرت عليها العصور تلو العصور وهي تمتد وتتشابك حتى حجبت ما بين الأرض والسماء، حتى أن الشمس كانت إذا طلعت عليها لم تنفذ منها إليها إلا أشعة ضئيلة، وكانت هذه الأشعة إذا هبطت على المستنقعات نفثت أبخرة قاتمة كأنها السموم.
تتابعت النكبات على القبيلة، فكان أفرادها يتساقطون تحت أثقالها هالكا إثر هالك، ودب الملل إلى نفوس النساء والولدان، وران الألم على قلوبهم فضجوا بالشكوى والبكاء مما هم فيه، وتنادوا إلى الآباء والأزواج أن يخرجوهم من هذه الغابة المنكودة التي تورطوا فيها مؤثرين الموت خارج الغابة على الموت انتظاراً فيها
كانت عزائم الرجال منحلة، وقلوبهم قد أشربت اليأس بما تتابع عليها من الأرزاء، ففقدوا كل أمل في النجاة من مصيرهم المشؤوم. ولقد فكروا ثم لم يقعوا على وسيلة للنجاة، وكانت نهاية الإغراق في التفكير أن وجدوا أمامهم منفذين عقباهما الفناء المحتوم، فإما أن يعودوا إلى منازلهم الأولى التي أجلاهم عنها أعداؤهم فيكروا عليهم ويقاتلوهم ليخرجوهم منها كما أخرجوهم، ولكنهم رأوا أنهم لا قبل لهم بأعدائهم، فلا جدوى من العودة، وأما أن يخرجوا من الغابة إلى مكان آخر، ولكنهم رأوها متشابكة حصينة لا سبيل إلى النفاذ منها، فلا جدوى من محاولة الخروج
لم يجدوا بدأ من البقاء حيث هم، فأقاموا في شر حال، وكانوا يتهاوون تحت الآلام كما تتهاوى الأصنام في جمود أخرس كئيب، وكانوا إذا جن الليل أوقدوا النيران لتدخل إلى قلوبهم شيئاً من الأنس والسكينة، فلا تزيدهم إلا وحشة واكتئاباً، فتنقل عليهم الذكريات القديمة يوم كانوا ينعمون بالطلاقة والعيش الرغيد في جنبات السهول الفسيحة المترامية الآفاق، وفي ظلمات الليل كانت الأعاصير تعصف بأصواتها الرهيبة المنكرة، فتملأ جوانحهم هولا ورعباً.
أنهم لم يفروا أمام أعدائهم لنقص في شجاعتهم ولا لجهل منهم بأساليب القتال، بل أنهم آثروا الانسحاب حتى لا يستأصلهم الأعداء استئصالا، فيفنى بفنائهم تراث أسلافهم لو أنهم استمروا على الحرب. لقد سحقتهم النكبات سحقاً، غير أنهم لم يستطيعوا أن يسلوا ما نعموا به من رغد وحرية، فأرقتهم الهموم الثقال، وكانوا يقطعون الليالي بطيئة وهم ساهرون يفكرون فيما آل إليه حالهم من تعاسة وعذاب، وكانت الغابات من حولهم تتجاوب بالعزيف والعويل، وأشباحهم تتراقص حول النيران، وتتصاعد مع الأدخنة الملتفة كأنها أرواح شريرة، فتنخب في عزائمهم وتوهن من شجاعتهم، فتنطلق ألسنتهم بالسب والتجديف دون حساب. وفي نوبة من النوبات التي يطيق فيها اليأس على القلوب فيأخذ بمجامعها تشاور أفراد القبيلة، ثم قرروا أن يرجعوا إلى أعدائهم الذين أجلوهم عن منازلهم، ليستسلموا إليهم متنازلين عن حظهم من الحرية والكرامة، مفضلين الموت بأيدي أولئك الأعداء القساة عن حياة الأسر في الغابة.
وإذ ذاك برز من بين الصفوف شاب باسل وسيم كان القدر قد هيأه لهذه الساعة الحرجة كي ينقذ القبيلة من مصيرها التعس! كان اسم ذلك الشاب (دنكان)، وكانت تلوح على وجهه علائم البسالة والعزة والصرامة! نهد ذلك الشاب واقفاً أمامهم وخطب فيهم قائلا.
(أيها الرفاق! إن مشكلتنا لعسيرة، ولن يحلها التفكير العقيم، ولن تفتح لنا الثرثرة سبيل النجاة، ولن تجدي الشكوى والدموع شيئاً لرفع ما نحن فيه من البلاء. حذار أن تسرفوا في التفكير الأجوف، والثرثرة الفارغة، فتذهب قوتكم، ويضيع وقتكم سدى. لنستجمع شجاعتنا وقوتنا، ولنتهيأ للضرب في غياهب هذه الغابة حتى نجتازها إلى نهايتها. أنها لابد منتهية، لأن لكل شيء في الكون نهاية. أيها الرفاق الأمجاد! عليكم بالصبر والإخلاص والشجاعة، ولا سيما في المراحل الأولى! ولتكن عزائمكم راسخة، وخطاكم ثابتة جبارة!
كان أفراد الغابة مقبلين بفتور عندما وقف (دنكان) ليلقي فيهم خطابه القوي. ثم رأوا في وجهه وفي نبرات صوته آيات الثبات والإخلاص والبسالة، فسرى فيهم الإخلاص والحماسة، فآمنوا أنه أفضلهم وأقدرهم على قيادة القبيلة في طريق الخلاص، حتى أنها لم يكد يفرغ من خطابه حتى صاحوا: امض بنا راشداً فنحن على آثارك مقتدون!
حينئذ سار (دنكان) مؤمناً بالفلاح والظفر والخلاص، واتخذ أفراد القبيلة طريقهم من خلفه وفي قلوبهم من الإيمان مثل ما في قلبه. لم تكن الطريق بالممهدة ولا المأمونة، بل كانت عقباتها كثيرة، وأوحالها عميقة، يمكن أن تبتلع في كل خطوة بضعة أشخاص، وكانت تعترضها الأشجار الكثيفة التي تسبح فوقها الحيات صاعدة هابطة، وهي ترسل عليهم من فوق رؤوسهم فحيحها الرهيب.
وكانت جلودهم تنضح بالعرق، وجروحهم تسيل بالدماء، وأعصابهم وعضلاتهم تفيض بالكلل والإعياء، ومع ذلك استطاعوا أن يقطعوا مسافة طويلة دون ضجر ولا استياء
ولكن الأيام تتابعت فازداد بتتابعها وقع المتاعب على النفوس والأجسام، وأحس أفراد القبيلة بخور في عزائمهم وتهافت في قواهم، فتناسوا ما عاهدوا (دنكان) عليه، وأقبلوا إليه يزفون وقد ملئت صدورهم ضغينة وحقداً، وصاحوا في وجهه: (أيها الشاب الطائش! لقد انتهى بنا حمقك إلى الخراب، فليتنا ما سمعناك وما أطعناك!)
لكن (دنكان) رغم سخطهم عليه ولومهم إياه وضيقهم به لم يهن ولم يفتر، بل بقي كما كان، عامر القلب بالأمل والإيمان، وسار يقود الصفوف الثائرة بعزيمة وطيدة وخطاً راسخة.
ثم أقبلت أمسية! كانت الغابة في تلك الأمسية رهيبة قاسية، فقد تعالى في جنباتها هزيم الرعد، وأطبقت عليها الظلمات الحالكة، وقد تراكم بعضها فوق بعض كأنما احتشدت فيها الليالي جميعاً بظلامها منذ كان العالم. كان القوم التعساء في تلك الأمسية يسيرون في سكون كئيب، فيتعثرون حيناً، ويتصادمون حيناً، وقلما كانوا يستقيمون، وكان الخوف قد أزاغ قلوبهم، وجمد الدماء في عروقهم، وخيل إليهم أن فروع الأشجار المعترضة في طريقهم إنما هي أيد عارية تمتد إليهم في الظلام لتختطفهم عن أيمانهم وعن شمائلهم.
وضاقوا أخيراً بما حاق بهم من كلال ولغوب، فأقبلوا على (دنكان) يوسعونه سباً وشتما حتى لا يعترفوا بالضعف على أنفسهم وقالوا له: (أيها الشاب الأحمق! لقد خدعت نفسك وخدعتنا، وأنا لنراك فينا ضعيفاً، وما أنت بالزعيم الذي يصلح لقيادتنا والإمرة علينا).
ثم وقفوا حيث انتهوا وقد طفحت قلوبهم بالحقد والموجدة على (دنكان)، وكانت الظلال تتراقص في الغابة حول القوم، والأشجار تردد أناشيد الفوز والشماتة، بينما انصرف القوم لمحاكمة (دنكان) على ما غرر بهم، وكبدهم من مشقات، ثم أفضوا إليه بحكمهم قائلين: (أنك لغادر أثيم! وقد ثبت لنا أنك امرأ سوء بما أوردتنا من موار التهلكة، فجزاؤك أن تموت!)
وأمنت أصداء الغابة وقصف الرعد وحفيف الأشجار على حكم القوم قائلة: (جزاؤك أن تموت!) في تلك الآونة الرهيبة الحرجة وقف (دنكان) أمام القوم في شجاعة واطمئنان، وكشف عن صدره، وصاح فيهم قائلا: (يا رفقائي: لقد طلبتم إلي أن أكون دليلكم فكنته، وإن لدي من القوة والجرأة ما يهيئني لقيادتكم، ولقد أردتم مني أن أسير أمامكم فسرت، وكنت لكم مرشداً وعليكم حفيظاً، ثم سرتم ورائي كما تسير قطعان الغنم وراء دليلها دون أن تكون لديكم مسكة من صبر وجلد. . .)
ولم يتركوه ليكمل حديثه إليهم، بل صاحوا في وجهه حانقين: (لابد أن تموت! لابد أن تموت!)
كان (دنكان) ينتظر من قبيلته أن يوفوا بعهدهم الذي عاهدوه، وأن يعرفوا له فضله ونبل مقصده، وما كان له أن ينتظر منهم هذا الجزاء السيئ الذي يدل على منتهى الكفر والكنود. لقد محضهم حبه ونصيحته، ومن أجلهم غامر بحياته، وضحى براحته وقوته، ثم هاهو ذا يرى نفسه فيهم وحيداً مخذولا مذموماً وهم به محدقون يطالبون بدمه دون أن أمل في عدل، ولا طمع في رحمة. وهاج (دنكان) ولكنه سرعان ما سكن وأناب، إذ كان ما يزال حفيظاً على حبهم حريصاً على سعادتهم، رغم أنهم يهمون بقتله، فتحرك حبه وإيمانه، وبرقت عيناه بالجرأة والثبات حتى لقد ظنوا بريق عينيه آية جنونه، فأقبلوا عليه في قسوة وضراوة ليشدوا وثاقه، ولاح واضحاً (لدنكان) ما يكنون له من ضغينة وبغض رغم ما يذخر به قلبه من الحب والإخلاص لهم فتهيأت له فكرة أزمع على إنفاذها
في تلك الآونة طففت جنبات الغابة المترامية الحالكة تردد أناشيد الموت، وأخذت العواصف تزأر والرعود تجلجل والأمطار تنهمر في أصوات هائلة منكرة، غير أن (دنكان) صاح صيحة مروعة غطت على جميع الأصوات في الغابة قائلا لقومه: (لقد عرفت الآن واجبي نحوكم، وسأعمل حالا على إنفاذ رغباتكم، فكونوا راضين)!
وأقبل بكلتا يديه على صدره فمزقه تمزيقاً، ثم انتزع قلبه، وحمله بيده فوق رأسه، ودهش قومه حين رأوا الدماء المتفجرة من قلبه قد حالت أنواراً متوجهة كأنها الشمس، فبهرت كل ما تضم الغابة، حتى لقد أصيب كل ما فيها بالصمت والسكينة. وخر الرجال جثياً كما تخر الصخور، فصاح (دنكان) فيهم صيحة أخرى قائلا: (أيها الرفاق! سأمضي أمامكم، فانطلقوا من خلفي صابرين، وأشفقوا علي كما كنت عليكم شفيقاً!)
وانطلق (دنكان) أمام القوم، فساروا وراءه في صمت وذهول، وكان ما يزال قابضاً على قلبه الذي اندلعت منه الأنوار فهتكت حجب الظلام وأنارت الطريق للسارين من خلفه. كانت الغابة ما تزال يتردد فيها زئير العواصف وهزيم الرعود وخرير الأمطار، لكن وقه أقدام السارين كان يغطي على كل أصوات الغابة. لقد كان القوم منطلقين إلى الأمام، وقد سحرتهم الأنوار الساطعة من ذلك القلب المشتعل. وكانوا يتساقطون موتى كما تتساقط الأوراق الجافة دون تذمر ولا عويل.
وما زال (دنكان) منطلقاً أمام القوم والأنوار تتفجر من قلبه الذي صار شعلة حتى بلغوا نهاية الغابة!
وهناك. . . هناك انفتح أمامهم منفذ فسيح، فنفذ إليهم النور الباهر والهواء الطلق، بعد أن لبثوا ما لبثوا غرقى في المطر المنهمر والظلام الكثيف. وأداروا عيونهم عندئذ إلى الوراء، فرأوا الغابة يطبق عليها الظلام، ويجلجل فيها الرعد ويلمع البرق، ثم التفتوا أمامهم حيث انتهوا، فرأوا أمامهم الشمس تسكب أشعتها على سهول فسيحة معبدة قد وطئت لهم، تتخللها الأنهار التي تترقرق فيها أمواهها الفضية الصافية.
كانت الشمس عندئذ توشك أن تغيب، وعندما انحدرت أرسلت أشعتها الصفر على المياه المترقرقة، فلاحت كأنها الدماء الدافقة من الجرح المنفتح في صدر (دنكان) الجسور. وعندئذ رفع (دنكان) رأسه في إباء، وأجال نظره في السهول الممتدة أمامه، وقد تملكته نشوة غبطة ورضا وخيلاء. وخر في تلك اللحظة صريعاً على الأرض، وقبل أن يطلق نفسه الأخير هتف قائلا: (ما أشهى الموت فيك يا أرض الحرية والكرامة!)
وكأنما روحه القوية حلت في الغابة، فارتجفت حينئذ أشجارها وسمع لها أنين وعويل
وانتشى القوم غبطة بالخلاص في نهاية الرحلة، حتى لقد نسوا (دنكان) وفضله عليهم، فلم يسؤهم موته، ولم يأبهوا حتى بقلبه الذي كان في تلك اللحظة يشرق عليهم ويباركهم وهو مطروح بجانب جثته الساكنة الخرساء، لولا أن واحداً منهم دلف إليه في خوف وحذر، وأرسل يمينه نحو ذلك القلب المشتعل، وما قارب يمسه بإصبعه حتى انفجرت تلك الشعلة، ثم تلاشت أنوارها في الفضاء. . .
لقد أدت الشعلة واجبها، ثم صعدت لتستريح في السماء!
محمد خليفة التونسي