مجلة الرسالة/العدد 637/العلماء يتعلمون من المشعوذين
→ من الإلياذة الإسلامية | مجلة الرسالة - العدد 637 العلماء يتعلمون من المشعوذين [[مؤلف:|]] |
القصص ← |
بتاريخ: 17 - 09 - 1945 |
للأستاذ فوزي الشتوي
القتل بغير تسمم
منذ قرون بعيدة وكهان الطب ومشعوذوه في غابات المناطق الاستوائية في أمريكا الجنوبية يعمدون إلى بعض الأعشاب يطبخونها بطريقة خاصة وفي وسط مراسيم دينية. حتى إذا تمت الطقوس عمدوا إلى عيدان رفيعة غمسوا أطرافها في المادة المطبوخة. واحتفظوا بها حتى إذا خرجوا إلى الصيد أطلقوها بدفع الهواء بأفواههم على الفرائس ولا يكاد العود يخترق الجلد ويسري السم في دم البقرة أو الوعل حتى تتوقف عضلات المعدة والقلب والتنفس عن الحركة فيخر الحيوان ميتا.
وليس من الضروري أن يصاب الحيوان في مقتل، فالمهم أن يصل السم إلى الدم في أي جزء من الجسم ليشل أعضاء الحيوان الداخلية والخارجية عن الحركة. . ولا يفسد لحم الحيوان بل يحتفظ بجودته فيقبل عليه صيادوه يلتهمون لحمه النقي الذي لا يبدو فيه أي أثر للتسمم.
هذا السم الغريب هو مدار البحث والتجربة الآن عند فريق من الأطباء والجراحين الأمريكيين. لأنهم يعالجون به كثيراً من الأمراض المخيفة المستعصية. ويعجلون به شفاء عدد من الأمراض العقلية المحيرة.
من أحاديث الخرافات
أما كيف حدث اكتشاف هذه المادة فأمر يوشك أن يكون من أحاديث الخرافات والقصص الخيالية ولكن الأطباء يوردون آلاف الحوادث والحالات التي شفت هذه المادة أصحابها والتي يطلقون عليها اسم كورا راي. وهو ذات اللقب الذي يسميه به سكان القبائل البدائية في مناطق أمريكا الجنوبية الاستوائية.
وليس عهد العلماء حديثاً بهذه المادة الغريبة، فمنذ أربعة قرون أحضر السروالتراري الرحالة الإنكليزي عينات منها استغلها العلماء في القرن السادس عشر في علاج بعض الحالات. ولكن الكمية كانت محدودة فلم تتح لهم مواصلة تجاربهم وأوشك اسم الكورار أن يزول من رؤوس الباحثين.
وأريد لهذه المادة الحياة مرة أخرى على يدي مستكشف ناشئ مارس حياة الغابات منذ 1930 واسمه ريتشارد جيل. وفي خلال الأعوام التي عاشها في غابات أمريكا الجنوبية تعرف إلى مشعوذيها واكتسب صداقتهم وإعجابهم فأطلعوه على طقوس الكوراراي وطريقة تحضيره والأعشاب التي يستمد منها فأقام في الغاب سنوات طويلة وهو يقتنص صيده بواسطته ويأكل لحمه. ولكنه لم يدرك أهمية المادة للعالم المتمدن.
المرض المحير
وجمح به حصانه مرة فسقط على الأرض وأصيب بالشلل. ونقل إلى مستشفيات أمريكا ففحصه الأطباء من قمة الرأس إلى أخمص القدم فلا يجدون به علة ولا يعثرون في أعضائه على عطب. ولكنه كان لا يقوى على الحركة. بل أن شعوره كان مبهماً غامضاً لا يحس حتى بالألم فأفتى أطباؤه بأنه ربما كان فريسة الشلل التشنجي.
والمصابون بهذا المرض تتولاهم هزات عضلية قاسية تنشأ من تيبس العضلات. وأخطره الطبيب بأن علاج حالته غير معروف. ولم يعرف الطب إلا مادة واحدة لا سبيل إلى الوصول إليها لأنه من مواد الغابات الاستوائية وهي الكوراراي.
وسمع جيل الاسم المألوف لديه فسرى في جسده كتيار كهربائي ساحر. فتلك المادة التي توفرت لديه في الماضي مطلوبة الآن ليجرب بها الطبيب طريقة لعلاج علته، وتناوشته الأفكار والآراء وعصفت به نفسه، وهو يرى بصيص الأمل ويعرف طريقه ولكنه لا يقوى على السعي إليه.
أنه يعرف هنود تلك المناطق ومشعوذيها. ويعرف كيف يستحضر مادة حياته. ولكنه سجين بين جدران أعضائه النائمة. أنه يعرف الطريق لإنقاذ آلاف الناس وإبراء ملايين العلل ولكنه لا يقوى على الحركة.
كفاح اليأس
وكانت الإرادة، وكان الصبر، وكان الكفاح، فأمضى الساعات الطوال وهو يدرب عضلاته على الحركة بمختلف الوسائل وبما أثير في نفسه من دوافع العزم على الحياة. فلم تمض شهور بارز فيها مع أطبائه ومستشاريه العلة حتى تغلب عليها وغادر مستشفاه.
ومضت أعوام أربعة حتى استطاع زيارة مناطق خط الاستواء على رأس بعثة خشي أن تفشل. إذ توهم أن سحرة الهنود قد ينكرونه أو ينسون أمره. ولكنه ما كاد يقابلهم حتى استقبلوه بترحاب وتقدير.
ومن هناك سارت عشرات القوارب ومئات الحيوانات في الأنهار وفي الأدغال لتنقل إلى الطب تلك المادة الثمينة النادرة. وعاد جيل وقد حرص هذه المرة على التقاط أشرطة سينمائية تبين جميع مراحل تحضير الكوراراي.
ولم يكن الطب مؤمناً كل الإيمان بفعله فسخر منه ولكن أحد أطباء كلية نبراسكا احتضن البحث وأقبل على تجربته واحتضنته إحدى الشركات أيضاً فحضرته مركزاً ونقياً ووزعت عيناته مجاناً على الباحثين ليجروا عليه تجاربهم ولم تمض فترة حتى ظهر في الأسواق التجارية. واقتنع الأطباء بأنهم يستطيعون التعلم ولو من متوحشي الغابات ومشعوذيها.
سلامة الجسم أم العقل:
وواجه الأطباء في تلك الفترة معضلة خطيرة، فقد وفق بعضهم إلى علاج بعض الأمراض العقلية بأحدث صدمات عصبية في المرضى تؤدي في الغالب إلى الشفاء. ولكنها تؤدي أيضاً إلى تشنجات عضلية جادة تضر أعضاء المصابين الداخلية، وتحطم عظامهم في بعض الأحيان. فهل لمثل هذا العلاج أن يستمر؟ وهل يجوز أن يكون شفاء العقل على حساب تحطيم الجسم؟
وحل الكوراراي الأشكال وأجاب على السؤالين حينما عرف العلماء كيف يستخدمونه لأنه أتاح للطبيب إحداث الصدمة الطبية بغير أن يتعرض المريض إلى خطر تحطيم عظام جسمه، وكان الطبيب بنت من جامعة نبراسكا أول من سلك الطريق فأجرى تجاربه على الأطفال المصابين بالشلل التشنجي.
يريح العضلات:
ودلت الأبحاث على الحيوانات أن الكوراراي يريح العضلات إذ يصيب وصلات الأعصاب المحركة لها بالشلل، أو يعزلها فيمتنع تهيجها. كما ثبت أنه من الميسور استخدام الكوراراي في معالجة الإنسان. وتدل التجارب الأولى على نجاحه لأن المخدر كان يمتص الصدمة العضلية فيستلقي المريض مسترخياً أثناءها بدل أن تتقلص عضلاته ويتحرك في موجات بالغة العنف.
ومع أن الكوراراي لا يفقد المريض شعوره بالألم فقد وجد فيه علماء التخدير مادة ثمينة لأنه خفف مهمة الجراحين إذ جعل المرضى يسترخون في راحة مما يزيل كثيراً من المضاعفات التي تنتج من حركة المريض، مما ينبئ لهذا المخدر الجديد بمستقبل جيد في عالم الطب.
ويرى الأطباء في هذا المخدر أنه خير علاج لمرض خطير يصيب الشبان فيشل أعصابهم وشفاؤه بالراحة التامة والاستجمام وهو ما يفعله الكوراراي في المريض ويسميه الدكتور بنت بأنه (أقوى واكمل مخدر عرف لاراحة العضلات وانبساطها) وكلما زدنا علماً بخواصه زدنا استخداماً له في علاج علل الإنسان.
فوزي الشتوني