الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 636/حديث المائدة

مجلة الرسالة/العدد 636/حديث المائدة

بتاريخ: 10 - 09 - 1945


للأستاذ زكي نجيب محمود

رحم الله يوماً كانت فيه النفس ساذجة يافعة، تسير مطمئنة في طريق لا تلتوي وسبيل لا تجور، وتثب إلى الإيمان بما يروى أو يذاع وهي آمنة في حصن منيع من الرضى، لا تنفذ خلاله خلجة من الشك أو نزعة من الجحود والإنكار

ولعن الله يوما أزيل فيه ما ران فوق البصيرة من غشاء، فقد ودعت النفس عندئذ تلك الطمأنينة الراضية. واستقبلت شكا ملحاً مضنياً يمقت راحة التصديق، ويأبى هدوء الإيمان، ولا يطمئن إلى ما تواضع الناس عليه، لا يفرق في ذلك بين معقول ومنقول، فقد غدا كل شيء موضعاً للتفكير وخاضعاً للشك والرفض والإنكار

قال ذلك صاحبي وهو يتحدى أن يكون في العالم حقيقة واحدة تبلغ حداً من التعيين يستعصي على الشك ولا يلين للنقد والرفض، ويهزأ بتلك البدائه التي نزلت عند الناس منازل الإيمان. وكان يسائلني في شيء من السخرية: هل يمكن أن تكون للعقل كرامة موفورة في الاستسلام والرضى؟! فهو يستمرئ مرارة الشك، ولا يعدل بعبئه المضني جنات عرضها الأرض والسماء، ولو أنه كان يود أن لم يكن ذلك الشك، وأن تزل تلك السذاجة البريئة المطمئنة الراضية

قال محدثي: قد تظن أنك تعلم طائفة من المعارف لا يحدها حصر ولا عدد، تبلغ ألوف الألوف، بل ألوف الملايين، كلها ثابت لا تزعزع يقينه عواصف الشك مهما بلغت من قوة وبأس. انظر! هذا مقعد، وتلك مائدة تنتثر عليها طائفة من الكتب، وهذه نافذة تستطيع أن تشهد خلال زجاجها شمساً ساطعة وسماء زرقاء، وسحباً وكفاء تسير الهوينا مع الريح. . . نعم، وهاأنت ذا تصيح فتسمع صوتاً ينبعث هنا وجلبة تضطرب هنالك، هذه أبواق سيارات تصبح فيتبينها سمعي وسمعك على السواء، وذاك صراخ أطفال يلعبون ويمرحون. . . هذه أصابعك تنزلق فوق المائدة فتصادف جسما صقيلا ناعماً، ثم تمر على شعرات الفرجون فلا تشك في خشونتها. . . نعم! لقد يخيل إليك أنك تعلم هذا كله، وتعلم آلافاً من أشباهه علم اليقين، بل وتعلم فوق هذا كله طائفة من الحقائق المركبة المعقدة، أفلا تعلم أن الشمس تكبر الأرض، وأنها تشرق كل صباح وتغرب كل مساء لدورة الأرض حول محورها مرة في كل يوم، وأنها ستمضي في الشروق والغروب ما بقيت الأرض أرضاً والسماء سماء؟ إنك لا تشك في صحة هذه الحقائق، ولعله لا يرضيك أن تراها يوماً موضعاً للشك، ولكنك يا صاح لا تكاد تصوب نحو أي منها أشعة التفكير، حتى يتبدد ذلك اليقين هباء، ويندك من أساسه حيث يسلم بناءه لمعول الشك يعمل فيه، فلا يرتفع عنه إلا وهو أنقاض لا تغني ولا تفيد.

وضرب صاحبي بقبضة يده فوق المائدة وقال: خذ هذه المائدة مثلاً! أفتشك في أنها مصنوعة من خشب قد طلبت باللون الأصفر، وأنها مستطيلة الشكل ناعمة الملمس؟ فناظراك ينقلان إليك لونها وشكلها، وأناملك تحس نعومة صقلها، وأذناك لا يخطئان رنين الخشب إذا ما نقرت ظهرها بإصبعك، ومن تلك الحقائق الجزئية التي سلكت إلى ذهنك هذه الطريق أو تلك تكونت في نفسك صورة للمائدة قوية واضحة، تستطيع أن تستعيدها على صفحة الذاكرة كاملة، إذا ما حال بينك وبينها حائل

ولكن من أدراك يا صاح أن هذه المائدة موجودة فعلا؟ أفلا يجوز أن تكون الحواس خادعة تبدع لك وجوداً من عدم؟ هل يبعد أن يكون اللون من خلق البصر، بل وأظنه كذلك عند العلم والعلماء الذين يستمع إلى قولهم إذا قالوا، فهم لا يعترفون بأكثر من موجات، تطول حيناً وتقصر حيناً، فتتلقاها العين ثم تأخذ في ردها إلى هذا اللون أو ذاك، وإذن فالعلم - وهو جهينة هذا الجيل - ينكر أن يكون للون وجود في الواقع. . . وقل مثل ذلك في صوت هذه النقرة التي بلغت أذنيك فأنبأتك بأنها للوح من الخشب، فهي الأخرى موجات صامتة في الواقع، صائتة في أذنك أنت!. . . وهكذا تستطيع أن ترد ما تنقله إليك الحواس جميعاً عن حقيقة المائدة، وإذن فهي وهم تآمرت على نسجه الحواس، ليس له وجود حقيقي في العالم الخارجي

وهبها حقيقة موجودة لاشك في وجودها، فهل تراك تعلم من أمرها شيئاً؟ أنعم النظر في لونها الذي خيل إليك للنظرة الأولى إنه أصفر، ألا ترى أشعة من الضوء تنعكس على سطحها الصقيل، فانقلب في بعض المواضع أبيض أو قريباً من الأبيض؟ در حول المائدة ينتقل موضع الضوء، وإذن فلون المائدة يختلف باختلاف موقفك، فلو جلس حول المائدة عشرون شخصاً، وأمسك كل واحد لوحة ينقل فوقها المائدة بلونها كما يراها، لاجتمع لديك عشرون رسماً لا يشبه بعضها بعضاً، فأين الحقيقة بين هذه العشرين؟ إني لأرى شفتيك تفتران عن ابتسامة ساخرة من هذا الهراء، أو ما تحسبه أنت هراء، ولكنه حق لاشك فيه، فلو رضت عينك على النظر إلى الأشياء بحيث ترى ما يقع عليها من مختلف الألوان، إذن لرأيت لكل شيء عشرات وعشرات من الألوان المتباينة، لا يأبه لها النظر السريع، ويدركها الرسام في جلاء ووضوح. . . لقد شاهدت مرة في معرض أقامه مصور فنان، لوحة تصور منظراً للنيل عند أنس الوجود، فوجدته قد خلع على الماء مجموعة من ألوان لا تراها العين، أو على الأصح يخيل إلى العين أنها لا تراها - فسألته: أين رأيت هذه الألوان التي صبغت بها لوحتك، فأجاب: رأيتها على صفحة الماء، وهو صادق فيما يقول

فليس لون المائدة أصفر وإن لك أنه كذلك، لأنه يختلف مع الضوء وحدة البصر، كما ينعدم في حلكة الليل، وإذن فليس هو صفة لازمة للمائدة في كل وقت وعند كل عين، إنما يتوقف على موقف الرائي والضوء الساقط، كما يتوقف على المائدة نفسها

دع اللون وابحث في نعومة السطح، فعينك المجردة العارية قد تراه صقيلا لامعاً، لا غضون فيه ولا التواء، فإذا ما نظرت إليه خلال المجهر، رأيت سهولا وحزوناً وهضاباً ونجاداً، وكلما ازداد المجهر حدة ازداد السطح تغضناً وخشونة، فأين حقيقة السطح إذن؟ أهو وعر كثير المسالك كما يبدو خلال المنظار؟ أم مستو صقيل كما تراه العين المجردة؟ لا أحسبك تستطيع أن تقطع في هذا بقول صحيح!

ثم انتقل إلى شكل المائدة وحدثني ما هو. . . وإن زعمت إنه مستطيل فمن ذا أنبأك بهذا؟ انك لا ترى استطالة السطح إلا في موقف واحد، وهو أن تنظر إليه من أعلى نظراً عموديا لا يميل، وقل أن يحدث هذا. . . خذ قلما وقرطاساً وحاول أن ترسم سطح المائدة وسترى عجباً، فلن يبدو لك السطح مستطيلا كما تظن بل ستراه يضيق من ناحية أخرى، وكلما نزل مستوى بصرك أو صعد تغير الشكل المنظور، وكلما تحركت قيد شبر واحد تغير شكل المائدة. . . فلو وقف في الحجرة ألف شخص ورسم كل واحد منهم المائدة كما يراها، كان لديك ألف شكل لا يشبه واحد منها الآخر، فهل لشكل المائدة حقيقة واحدة أم ألف من الحقائق؟!

ثم تعال معي نخبرها من حيث الصلابة والليونة. . . اضغطها بين إصبعيك فماذا أنت واجد؟ لا أحسبك شاكا في صلابتها، فهذا ما تحسه يدك، كما يحسه كل إنسان آخر، ولكن هب أن الله قد أمدك بقوة تساوي ألف مثل من قوتك، فهل ترى صلابة المائدة تطل بين إصبعيك كما هي لا يطرأ عليها التغيير والتبديل؟ كلا! فكلما ازدادت قوة الضغط، قلت نسبة الإحساس بالصلابة، فهي أصلب في ملمس الطفل منها في ملمس الرجل، وهي أصلب في ملمس الرجل منها في مخلب الأسد! فهل ترى من حق الإنسان أن يكون حكما يقضي لهذه بالصلابة ولتلك بالرخاوة، وهو لا يعبر إلا عن شعوره الخاص؟. . . اقرع المائدة بإصبعك تسمع لها صوتا تعهده للخشب، فتظن أن للخشب صوتا يلازمه في كل ظروفه، وأنه لازمة من لوازمه، ولكنك ترفض هذا حين تعلم أن له رنينا آخر إذا نقرته بمفتاح مثلا، وثالثاً إذا ضربته بممحاة وهلم جرا. . .

إذن ليس لون المائدة أصفر على وجه اليقين، وليس السطح مصقولا على وجه اليقين، وليس الشكل مستطيلا على وجه اليقين وليس الخشب صلباً على وجه اليقين، وليس له صوت بعينه. . . وإذن فما نقلته إليك عيناك مشكوك في أمره، وما نقلته إليك أذناك مطعون في صحته، وما نقلته إليك أصابعك موضع للأخذ والرد، فماذا بقي لك من مائدتك التي عهدتها وما شككت يوما في يقينها؟ أفلا ترى الآن أن صورة المائدة في ذهنك قد تنقص عن الواقع، وقد تزيد على الواقع، وقد لا يكون لها واقع على الإطلاق؟!

أخشى أن ينتقل بنا الحديث من المائدة إلى مشكلات فلسفية عميقة، فهي توشك أن تفتح أمامنا أبواب بحث جديد، جدير بالتفكير. هل هناك مادة في الوجود كما يبدو أم هي بدعة أنشأها الفكر البشري إنشاء وخلقها من العدم خلقا؟!. . . هل تعدل مظاهر الأشياء على حقائقها وتنطبق عليها انطباق المثال على المثال أم تختلف عنها اختلافا بعيداً أو قريباً؟!. . .

ثم وضع صاحبي كفه القوية فوق كتفي، وقال في عطف ونصح: فكر في كل شيء، وستشك في كل شيء!!

زكي نجيب محمود