مجلة الرسالة/العدد 635/الحياة الأدبية في الحجاز
→ الشرق كما يراه الغرب | مجلة الرسالة - العدد 635 الحياة الأدبية في الحجاز [[مؤلف:|]] |
إلى شقيقي إبراهيم ← |
بتاريخ: 03 - 09 - 1945 |
نهضة الشعر
للأستاذ أحمد أبو بكر إبراهيم
كان الشعر الحجازي قد أصابه الركود كما أصاب غيره في الأقطار الأخرى، وقنع شعراؤه بتقليد ضعاف الشعراء في عصور الاضمحلال الأدبي؛ فوقفت المحسنات البديعية في طريق تجويدهم وإبداعهم، وأضاعوا وقتهم واستنفذوا مجهودهم في التشطير والتخميس، وظل الشعر على هذه الحال حتى عزته ثورة التجديد فتخلص من هذه القيود التي كبلته الزمان الطويل، وقد وصف الأستاذ أحمد العربي حال الشعر الحجازي قبل نهضته فقال: (لم يكن الأدب الحجازي سوى بضع منظومات وكتابات سقيمة المعنى واهية السبك ملتوية الأسلوب يدور أكثرها في نطاق ضيق من المديح السخيف والغزل والتشطير والتخميس على نمط ليس له من مبرر سوى ذلك العقم الأدبي الذي منيت به الأفكار في تلك الحقبة المشؤومة، وإلا فأي إنتاج ينتجه أولئك الذين يتناولون بيتين أو أكثر من الشعر بالتشطير والتخميس، فيعمدون إلى تمطيط معناها وتفكيك أواصرها وحشوها بما يناسب وما لا يناسب من الألفاظ المترادفة والتراكيب المرصوفة. . . الخ)
وما كاد الحجازيون يتذوقون المناهج الحديثة في الشعر حتى حملوا على عشاق القديم جملة عنيفة ليردوهم عن التقليد ويوجهوهم إلى الغاية التي يرجونها للشعر، وقد جاء في مقال للأستاذ عواد ينتقد فيه المقلدين: (. . . نعم الشعر جميل، ولكن أين الشعر الذي تنظمونه أو تروونه؟
أأتلمسه في تخميس:
(تتيه علينا مذ رزقت ملاحةً) أم تشطير: (إذا كان لي أهلان أهلٌ ترحلوا) أم في مشجر: (على جيد هذا الظبي فلينظم الدرُّ) أم في تخميس آخر مطلعه:
(أنيري مكان البدر إن فقد البدر) أم في مدحه أنشدت للحسين في يوم عيد مطلعها:
(سلْ ما لسْلمى بسوق النحس تشريني) أواه! كل هذه أيها المتشاعرون صديد فكري وقيوء (باللغة التي تفهمونها) لو أنفق العمر بأجمعه في مثلها لما وصل الناظم إلى الشعر. الشعر جميل أما أمثال هذا فلا. . .) وبدهي أن ثورة التجديد في الشعر الحجازي لا يمكن أن توجه الشعراء جميعا إلى وجهة واحدة؛ إذ لابد له من زمن طويل يشتط فيه المجددون ويسرفون في التجديد، ويشعر القدامى بتأخرهم فيقتربون منهم شيئاً فشيئًا، ويعود المسرفون فيهدئون من ثورتهم ليلتقوا بإخوانهم القدامى الذين تخلفوا عنهم وحينئذ يجتمع في الشعر محاسن الطريقتين، ويستقر في طريق له معروفة مرسومة لا تكون عرضة لزعازع التغيير والتبديل الفجائيين.
حدث هذا الصراع في الحجاز منذ أن قام الشعراء بنهضتهم الحديثة؛ فقد جمل المجددون على الجمود والخمول وتناولوا عشاق القديم بالنقد اللاذع فأثر فيهم هذا النقد، ولم يعد الآن في الحجاز من يطرب للتشطير والتخميس أو يهتز لألوان البديع، واتجهوا جميعا إلى أغراض الحياة يبسطونها في أشعارهم ويجلونها في بيانهم وإن كانت ظاهرة الاختلاف لا تزال قائمة؛ فشعراء الحجاز الآن طائفتان: طائفة مجددة ولكنها متئدة متمهلة تعنى بالديباجة القوية وتبقي على كثير من الأغراض القديمة. وطائفة متوثبة مسرفة في التجديد قد استطاعت أن تقطع صلتها بالقديم إلا في الألفاظ والتراكيب.
ولعل الحجازيين عندما انفسح أمامهم طريق الرقي الأدبي وجدوا أنفسهم متأخرين؛ وجدوا مصر والشام ثم العراق قد قطعت في ميدان التقدم شوطا بعيد المدى فهالهم الأمر وأرادوا اللحاق بهم؛ فلم يكن هناك بد من أن يسرعوا الخطا ويغذوا السير في حركة الواثب المتحفز الذي لا يبقى ولا يذر. فماذا وجدوا أمامهم؟
رأوا دواوين الشعر القديم قد ملأت الأسواق ورأوا أدباء مصر والشام قد أنتجوا المعجب في الأدب. ورأوا غير هاتين الناحيتين أدبا آخر هو الأدب العربي في أمريكا، وهو أحدث هذه الآداب وأقربها إلى الأدب الأجنبي.
وجدوا كل هذا فمال الكثيرون إلى الآداب الحديثة وبخاصة أدب المهجر وتعشقوها وجاهدوا في تقليدها كأنهم رأوا فيها الخلاص من الجمود والتأخر؛ فاستطاعوا في زمن وجيز أن يباعدوا بين منهاجهم ومنهاج من سبقوهم؛ حتى ليخيل إليك عدم الارتباط والصلة بين الأدبيين.
وأما الآخرون - وهم أقلية - فقد آثروا الاعتدال والتمهل والتفتوا إلى الأدب القوي القديم يقرءونه ويحاكونه في بلاغته ورصانته، ومالوا إلى الأدبيين المصري والشامي يتهجون منهجيهما ويلائمون بينهما وبين حياتهم، ولم يتركوا من أدب المهجر ما راقهم من موضوعاته ومعانيه. وإنك لتلمس في الأبيات الآتية وهي (للغزاوي) تأثراً بالأدب العربي القديم في أساليبه ومعانيه وتجديدا في قليل من الأخيلة والمعاني:
حمائم إليك أبكاكِ ذو شجن ... أصفيتهِ الحبَّ إسراراً وإعلانا
وبتِّ فيه على ذكرى وموجدة ... تذرين دمعكِ أسجاعاً وألحانا
وظل دأبك في الأسحار أغنيةً ... يخالها السمع بالتوقيع عيدانا
فما بنفسي مما تشتكي حُرَقٌ ... ولا تعشقت آراماً وغزلانا
لكن سكبت دمي دمعاً على وطني ... قد كان في المجد والتاريخ ما كانا
على أن تأثر هذه الطائفة بالشعر القديم يبدو في طريقة الشعر نفسه فالغزاوي في قصيدة له عنوانها (منازه الطائف) يملؤها بذكر الأمكنة على طريقة الأقدمين في ذكر الديار والأطلال فهو يقول فيها:
وتهفو بنا النسمات حين هبوبها ... إلى فرصِ اللذاتِ تحت الكواكب
(بوجٍ) وفي وادي (العقيق) ودونه ... وفي (ليةٍ) أو بين (قرن) النجائب
وفي (الوَهطِ) المخضر أو في (وهيطه) ... وفوق (الشفا) أو في أديم السحائب
ويقول:
ولا أنس (بالمثنات) ليلات أنستنا ... وبين (الهدى) أو في جوار (الكباكب)
وهكذا يسير الشاعر في قصيدته معددا الأماكن التي ألفها وأقام بها. ولكن هذا التقليد للأقدمين لا يعدو الطريقة؛ فإن الشاعر متأثر بهذه الأماكن وله فيها ذكريات، ولا يعاب عليه أن يذكرها في شعره؛ لأنه ذكر العالم بها المتأثر بما فيها.
أما المدرسة المسرفة في التجديد فقد تعلقت بالثقافة المنقولة عن الغرب ومالت إلى أدب أدباء المهجر من أمثال جبران والريحاني وأبي ماضي وفرحات وغيرهم؛ وذلك لأن شعراء هذه المدرسة لمسوا في أدب المهجر ثورة على القديم وجرأة في التجديد وصراحة في الحق، فعكفوا على هذا الأدب لأنهم وجدوا فيه غذاء حركتهم الناشطة ومشعلا يضيء لهم جوانب الحياة التي يرجونها وهي التجديد السريع.
وجد شعراء هذه المدرسة جبران ينعى على التقليد ويحط من شأنه حين يقول: (. . . ليكن لكم من مقاصدكم الخصوصية مانع عن اقتفاء أثر المتقدمين؛ فخير لكم وللغة العربية أن تبنوا كوخا حقيرا من ذاتكم الوضيعة من أن تقيموا صرحا شاهقا من ذاتكم المقتبسة. ليكن لكم من عزة نفوسكم زاجر عن نظم قصائد المديح والرثاء والتهنئة، فخير لكم وللغة العربية أن تموتوا مهملين محتقرين من أن تحرقوا قلوبكم بخورا أمام الأصنام والأنصاب. ليكن لكم من حماستكم القومية دافع إلى تصوير الحياة الشرقية أن تتناولوا أبسط ما يتمثل لكم من الحوادث في محيطكم وتلبسوها حلة من خيالكم من أن تعربوا أجل وأجمل ما كتبه الغربيون).
(البقية في العدد القادم)
احمد أبو بكر إبراهيم