مجلة الرسالة/العدد 630/رسالة الفن
→ هذا العالم المتغير | مجلة الرسالة - العدد 630 رسالة الفن [[مؤلف:|]] |
على الشاطئ. . . ← |
بتاريخ: 30 - 07 - 1945 |
12 - الفن
للكاتب الفرنسي بول جيزيل
بقلم الدكتور محمد بهجت
عن الأمس وعن اليوم
(تابع)
(وعلى ذلك ذهبت عنده وعملت منه عدة دراسات سريعة بالقلم الرصاص ليسهل علي عمل التمثال فيما بعد. ثم أحضرت منصتي وشيئاً من الصلصال. ولما كان من عادة الشاعر أن يجلس في البهو مع أصدقائه كان من الطبيعي ألا أجد مكاناً سوى الشرفة أضع فيه تلك الأدوات القذرة. وإنك لتستطيع أن تدرك صعوبة واجبي. كنت أدرس الشاعر العظيم في انتباه كبير وأحاول أن أطبع شخصه في ذاكرتي ثم أجري فجأة إلى الشرفة لأطبع في الطين ما لاحظته والتقطته ذاكرتي من هنيهة. ولكن كثيراً ما كانت تخبو ذاكرتي وأنا في طريقي إلى الشرفة. فإذا ما وقفت أمام المنصة لم أجد في نفسي القوة على لمس الطين. وكان يتحتم على أن أقفل راجعاً إلى مثالي مرة أخرى. (وعندما قاربت النهاية من عملي سألني دالو أن أقدمه إلى فكتور هوجو. فأجبته إلى ذلك في حينه. ولم يعش الرجل العظيم الهم بعد ذلك كثيراً. وما استطاع دالو أن يبلغ غايته إلا من صبيبة أخذت للشاعر بعد موته).
قادني رودان وهو يتكلم إلى ظرف من الزجاج بداخله قطعة واحدة من الحجر. إنه الحجر الأوسط من عقد، الحجر الذي يضعه المهندس وسط العقد ليدعم به منحناه. نحت على واجهته قناع مربع من ناحية الخدين والصدغين، متمشياً في ذلك مع شكل الحجر المربع. رأيت ثمت وجه فيكتور هوجو. وعند ذلك قال المثال الكبير: (كثيراً ما أتخيل مثل هذا الحجر يتوسط بناء يوهب للشعر)
وكان من السهل علي أن أتخيل ذلك. فإن جبين فكتور هوجو وهو يدعم في ذلك الوضع حنية تذكارية فكأنما يرمز بذلك إلى العبقرية التي ارتكزت عليها آراء وجهود عص بأكمله. ثم عاود رودان حديثه قائلا:
إني لأعطي هذه الفكرة أي مهندس يستطيع أن يخرجها إلى حيز التنفيذ).
وقريبا منا قام التمثال النصفي لهنري روشفور، وهو معروف تمام المعرفة؛ فرأسه رأس ثائر تعلوه خصلة شعثاء من الشعر تموج كأنها شارة التسليم، وبجبينه عجر كثيرة كأنه جبين طفل مشاغب، دائم الشجار مع أترابه، له ثغر قلصته السخرية، ولحية نافرة صاخبة. إنه ثورة لا تهدأ، وروح النقد والكفاح بعينها. إنه قطعة فنية رائعة نستطيع أن نرى فيها ناحية من نواحي ذهنيتنا المعاصرة. وهنا قال رودان.
(وكانت معرفتي بهنري رشفور عن طريق بازير أيضاً، فقد كان رئيساً لتحرير الجريدة التي يعمل بها. ورضى هذا المناظر الشهير أن يجلس إلي. كان ذا روح مرحة حتى ليحس المرء منه السحر عندما يصغي إليه وهو يتكلم. ولكنه ما كان يستطيع الجلوس ساكنا لحظة واحدة. وكان يؤنبني في رفق لأني أنصرف بكليتي إلى مهنتي؛ حتى لقد قال لي مرة وهو يضحك إني قضيت جلسة بأكملها في إضافة قطعة من الطين إلى التمثال، وجلسة أخرى في رفعها عنه.
(وفيما بعد، عندما رأى أن تمثاله حظي بإطراء ذوي الذوق الرفيع وثنائهم جاراهم في ذلك الإطراء غير متحفظ، ولكنه ما كان يعتقد أن تمثاله ظل على حاله الأولى من ساعة أن حملته من منزله، وكان يكرر ويعيد علي هذه العبارة: (لقد أعملت يدك فيه كثيراً. هذبته تهذيباً. وحقيقة الواقع أني لم أمسسه حتى بظفري).
وعند ذلك أخفى رودان خصلة الشعر بإحدى كفيه واللحية بكفه الأخرى ثم سألني عما يمكن أن يشبهه إذ ذاك). فقلت:
(تستطيع أن تقول إنه قيصر من قياصرة الروم)
(هذا ما أردتك أن تقوله تماماً، إذ أني لم أستطع أن أجد الطراز اللاتيني القديم نقياً خالصاً كما وجدته في روشفور)
وإذا لم يدر عدو الإمبراطورية الألد للآن وجوه تشابه بين وجهه ووجه القياصرة، فإني أراهن أن مجرد علمه بذلك سيبعثه على الابتسام
وعندما تكلم رودان من لحظة عن دالو، صورت في مخيلتي تمثاله الذي صنعه لذلك المثال والمودع الآن بمتحف اللوكسمبورج إنه رأس متكبر عات يقوم على رقبة رفيعة معروقة كأنها رقبة طفل. له لحية كثة كأنها لحية صانع ماهر، وجبهة مغطنة متجهمة، وحاجبان أشعثان كأنهما حاجبا شيوعي قديم، وهيأة متكبرة محمومة ترى فيها الديمقراطي الذي لا يحول. أما العينان الكبيرتان والتقعر البسيط الذي بالصدغين، فتنم كلها عن الشغف العظيم بالجمال
سألته عن هذا التمثال فأجابني بأنه عمله عندما عاد دالو من إنجلترا بعد أن شمله العفو السياسي وقال:
(إنه لم يأخذه قط، لأن علاقتنا انصرمت من بعد أن قدمته لفيكتور هوجو بقليل.
كان دالو فناناً عظيماً، ولكثير من أعماله قيمة زخرفية رائعة تجعلها من أجمل مجموعات القرن السابع عشر. ولو لم تتملكه شهوة الحصول على وظيفة حكومية لكان كل ما أنتجه قطعاً خالدة؛ ولكنه جهد ليكون لوبران جمهوريتنا، وليكون زعيما لكل فنانينا المعاصرين. لقد مات قبل أن تتحقق أمنيته؟
(إنه ليستحيل على المرء أن يمتهن مهنتين في وقت واحد. فكل الجهد الذي بذله لكسب أنصار وأعوان يركن إليهم، وفي محاولته أن يكون ذا شأن وخطر - كان كل هذا خسارة للفن. ليس أصحاب الدسائس أغراراً مغفلين؛ فعندما يريد الفنان مناهضتهم أو ينهز معهم بدلوهم فإن عليه أن يكيد لهم بقدر ما يكيدون، وبذلك لا يبقى له وقت ينصرف فيه لعمله.
(ومن يدري فلو كان دالو لزم مرسمه دواماً ومضى في سبيل فنه هادئاً وادعاً لأنتج روائع يخطف جمالها الأبصار، ولربما أجلسه الإعجاب العام على عرش الفن وتوجه ملكا على الفنانين - وذلك هو الذي بذل في سبيله كل ما في وسعه لتحقيقه، ولكن في غير طائل.
ومع كل ذلك لم يذهب طموحه سدى؛ لأن نفوذه وحظوته في الأوتيل دي فيل كانا سبباً في إخراج قطعة خالدة من أعظم قطع عصرنا الحاضر. فهو الذي مكن بوفي دي سافان من أن ينال الإذن بزخرفة جانبي السلم بمدخل الأوتيل دي فيل، وذلك رغم مناهضة أعضاء اللجنة الإدارية مناهضة علنية وأنت تعرف بأي شعر سماوي أضاء المصور العظيم حوائط البلدية).
وقد استرعت هذه الكلمات انتباهي إلى تمثال بوفي دي شافان قال عنه رودان: (لقد رفع رأسه عالياً. أما جمجمته فصلبة مستديرة وكأنما خلقت لتلبس خوذة. وأما صدره المقوس فيظهر كأنه اعتاد لبس الدروع. ولقد يسهل على المرء أن يتصوره في بافيا يحارب ذياداً عن شرفه إلى جانب فرنسيس الأول).
ترى في التمثال أرستقراطية شعب قديم. فالجبهة والحاجبان المرتفعان تدل على الفيلسوف. وتشف النظرة الهادئة التي تشمل أفقاً كبيراً بعيداً عن ذلك المزخرف العظيم والمصور الطللي السامي. هذا ولا يوجد فنان معاصر يمكن له رودان من التقدير والإعجاب بقدر ما يكنه لمصور القديسة جنيفيف. ثم صاح رودان:
(أكان هذا الرجل يعيش بيننا ويخالطنا، أكان هذا العبقري الخليق بأزهى عصور الفن يتكلم معنا! وإنني شاهدته ووضعت يدي في يده! ليخيل إلي أني صافحت يد نيقولا بوسان!
(يتبع)
دكتور محمد بهجت
قسم البساتين