مجلة الرسالة/العدد 630/البريد الأدبي
→ الظلام. . . | مجلة الرسالة - العدد 630 البريد الأدبي [[مؤلف:|]] |
القصص ← |
بتاريخ: 30 - 07 - 1945 |
من وحي المرأة
أخي صدقي. . .
. . . إنك لتعلم رأيي في دموعك هذه التي نظمتها قصائد. تعلمه من هذه الانفعالات التي كنت أحاول أن أخفيها عنك فتظهر، وأنت تسمعني هذه القصائد قبل نشرها فأسمع، وأنا أحس أنك تعيش في أثناء قراءتها وتتألم!
ولقد كنت أستزيدك منها كلمات هممت أن تطوي أوراقك الحبيبة في صدرك، وأنت تضمها إليك ضمة الحب والأسى، ريثما تزدرد عيناك دمعة ندّت، فلم تشأ أن تطلقها على سجيتها، لأننا لسنا وحيدين، بل حولنا الناس في المقهى أو في الطريق!
كنت أشفق عليك أن تقرأها، وكنت أستزيدك من قراءتها. . . لأنني أعلم - وقد جربت من قبل تجربة شبيهة بتجربتك في الأم الصديقة - أن هذا الألم النبيل الكريم الذي تحسه وأنت تستعيد هذه الصور العزيزة، هو ألم كذلك عزيز مريح!
والألم النبيل الكريم يا صديقي نادر في هذه الدنيا الحافلة بشتى الآلام! وما أحوج الإنسانية إلى مثل هذا الألم بين الحين والحين، يظهرها وينقيها، ويرفعها من ثقلة الأرض، ويطلقها ترفرف في السماء
ولكن الذين يعرفون مثل هذا الألم ويقدرونه نادرون مثله في هذا الوجود. وأنت الذي تقول في صدق مفجع حزين:
كأنيَ بالأحزان غّيَرنَ طابعي ... وأن بوجهي ما تجن أضالعي
ظلال جحيم من دخان ولاعج ... وأشباح تعذيب دوامٍ دوامع
وإلا فما للناس يجتنبونني ... وقد كنت منشوداً بتلك المجامع؟
وإني لألقاهم كعهدي مرحباً ... وأبسط كفي في سلام مسارع!
أفرّج ما بين الشفاه تبسما! ... وأدعو أساريري وأجلو مطالعي!
وأضحك أحياناً وأظهرنا جدي! ... وآخذ في أسمار غِرّ وخالع!
فما لهم لا يطمئنون؟ ما لهم؟ ... وضحكي عالٍ مسمِع ذو قعاقع
ابِشْرِيَ غير البشر في عين ناظر! ... أضِحْكَي غير الضحك في سمع سامع؟ أجل صدقوا، مذ مُتِّ يا سرَّ فرحتي ... طُبعتُ كتمثالٍ على الحزن فاجع
أجل يا صديقي، لأن الناس في هذا الزمان يريدون أن يضحكوا دائماً، ويا ليتهم يعرفون كيف يضحكون!
أما أنا فلست بناصح لك أيها الصديق - كما لم أنصح لك في فورة الألم - أن تتسلى، فما أرخص السلوى في الحياة، وما أعز الألم الصادق النبيل؟ وما أفدح الخسارة حين نمسي ونصبح، فإذا أيدينا خالية من هذا الألم الذي يربطنا بأعز أحبابنا، ويصلنا بذلك الماضي الذي لن يعود
وإنني لأقرأ ثم أقرأ في احترام بالغ قصيدتك (تساؤل):
أتغلبني هذي الحياة على حزني ... فاصبح مثلوج الحشى ضاحك السن؟
أيأتي زمان تخطرين بخاطري ... فلا يسبق الدمع الهتون إلى عيني؟
أيجري لساني باسمك الحلو صادحاً ... مبيناً فلا يومي إليه ولا يكنى؟
وقد كان في حلقي يجف ويلتوي ... ويهمس مبحوح الصدى مجهش اللحن!
أيحلو لطرفي أن يطالع صورة ... لحسنك من بعد الفجيعة في الحسن؟
وقد كنت أخفيها وكانت بناظري ... إذا عرضوا عفوا - كغاشية الدجن
أيخلو مكان من خيالك ماثلا ... بكل مكان - أينما سرت - أو ركن؟
ويطغى على نفسي شعور وفكرة ... ولم تشركيني في شعوري وفي ظني؟
ويشغلني شيء ولو بعض ساعة ... فلا أنت في قلبي ولا أنت في ذهني؟
نشدت زماناً يورث الناس سلوة ... ليكفينني برد السلو ويستأتي
بديلي منك الحزن لم يبق غيره ... فلا حبذا السلوان غبناً على غبن
وإني لأستحييك إن غب مدمعي ... وأحزن يوماً إن غبت على حزني
إنك لغني يا صديقي بهذا ال ... كنز من الألم الرفيع النبيل
فكن أمينا عليه، فمثله نادر في هذا الوجود!
سيد قطب
كلمة هادئة - إسكان أواخر الكلمات ألمع ابن خلدون في مقدمته الشاملة إلى اقتراح السكان أواخر الكلمات تخلصاً من حركات الإعراب فقال: (ولعلنا لو اعتلينا بهذا اللسان العربي لهذا العهد - عهد ابن خلدون - واستقرينا أحكامه نعتاض من الحركات الإعرابية في دلالتها بأمور أخرى). وقال أيضاً: (ولم يفقد منها - أي من لغة مصر مقارنة بلغة عهد ابن خلدون - إلا دلالة الحركات على تعين الفاعل من المفعول فاعتاضوا منها بالتقديم والتأخير وبقرائن). ومن الملاحظ أنه لم يشرح شيئاً من (الأمور الأخرى) في قوله الأول ولا شيئاً من (القرائن) في قوله الثاني بحيث لا يمكننا أن نستنبط منهما وسيلة تنفيذية إلا التقديم والتأخير أي تقديم الفاعل وتأخير المفعول مثلا للتمييز بينهما وأظن أنها وسيلة غير كافية لأن اللغة ليست قاصرة على حالتي الفاعلية والمفعولية وليست قاصرة على حركتي الرفع والنصب وليس حتما أن تشتمل الجملة على اسمين اثنين لا غير
مع هذا لا يزال ينادي بهذا الاقتراح الظريف باحثون معاصرون يرون في اللغات الأوربية المسكنة الأواخر برهاناً تطبيقياً نافذاً.
والذي يخيل إلي أنهم لم يبحثوا الموضوع على الأقل من الناحية الشكلية التي يبدو فيها خلاف كبير بين اللغة العربية واللغات الأوربية يستعصي معه إتباع هذا الاقتراح.
فأولا: صب اللفظ العربي يحتاج إلى ضبط كامل لا يفيد معه إسكان الآخر لأنه يتكون من حروف ظاهرة في الكتابة وحروف أخرى تظهر في النطق. ولا زلت أذكر قصة لأحد الظرفاء إذ شاهد مع بعض ضيوفه من الريف حيواناً عجيباً في حديقة الحيوان فسألوه ما هذا؟ فحار في قراءة كلمة (الببر) على قفصه لا لجهله بحركة آخرها طبعاً بل لجهله بحركات سائر الحروف.
وثانياً: استقلال اللفظ، فنجد أن اللفظ في اللغة الأوربية منفصل قائم بذاته في كل معانيه بينما هو في العربية خاضع لغيره أو متصل به. فنحن نقول: كتابهما - كتابهم - كتابهن. . . فأين الحرف الذي يسكن؟ الأخير أصلا أم الأخير رسماً؟ اللفظ الأصيل! كتب وآخره الباء فحينما أسند إلى غيره تغير آخره بالاندماج فيه. بينما الإنجليز مثلا يقولون: لهذه الحالات الثلاث. ولسْت بصدد القول بأن أساليب التعبير عندنا أدق وأوفى وهذا ربح لا يهون بجانب تسهيل النطق عندهم.
وثالثاً: حركة الآخر ليست خاضعة لاتصال اللفظ بغيره اتصالا مباشراً فحسب بل أيضاً تخضع للاتصال غير المباشر بالألفاظ المجاورة. فإسكان الأواخر يكثر من (التقاء الساكنين) أو تعذر النطق لتعاقب حركتين. . فإذا تعمدنا الوقوف عند كل كلمة قطعنا في المنطق تقطيعاً مضحكاً مرهقاً وإذا استرسلنا بغير ضوابط خرجنا على القاعدة خروجاً همجياً، وإذا اعتمدنا على التقديم والتأخير أخفقنا في الجمل المتشابهة الكلمات والجمل التي تتكرر فيها كلمات معينة.
ورابعاً: كثير من الألفاظ ساكن ما قبل الآخر. فإسكان الآخر أيضاً ثقيل جداً. وهو بالغ الثقل عندما نصل مثل هذه الألفاظ بألفاظ ساكنة الأول أو طيعة الأول على الأصح.
وخامساً: بعض الألفاظ مبني على حركة تدل دون غيرها على معنى خاص. مثل: أنتَ - أنتِ فإسكان (أنت) يحرمنا من فهم المعنى إلا بالسياق والإطناب حيث يغني الإيجاز.
إلى غير ذلك من الأحوال الخاصة بطبيعة لغتنا وحدها.
والعجيب أن اللغات التي تلائم طبيعتها قاعدة إسكان الآخر قد تجنح إلى أدوات شاذة لتعذر اطرادها. مثل إقحام حروف غريبة لا تمت إلى الأصول والأصلاب بصلة ما كالحرف في - أي: (هل هناك. . .؟) والجواب: بلا وجود للحرف الذي وجد لتحاشي التعقيد بالتخلص من تعاقب ولا أعرف لذلك ضريباً إلا في لغة بعض قبائل النوبيين فهم يقولون مثلا: (إتِّرْكِ اكِّرِى) (إتر: طعام - اكرى: هات - الكاف: زائدة لهذا الغرض. وللنوبيين عذرهم في لغة لا تكتب ولا تطرد لها قواعد مدونة.
وعلى العموم فإن إسكان الآخر عامل من عوامل إضعاف اللغات. حتى الأوربية بدليل الاختلاف بين سماعها وقراءتها إلى حد ما. فمعظم حروف الآخر فيها صامتة مثل: - ذلك مستقبلا إلى ضمورها كما أدى تمهيدياً إلى انقطاع الصلة بين المكتوب والمنطوق. لذلك يلتزم بعض الفقهاء في فن القراءات ضرورة الاتكاء على الحرف الأخير في حالة السكون بالقلقلة والغن والتنوين حتى لا يعتريه ضمور أو إبهام أو إضغام.
وهب أننا سنهتدي إلى قواعد للغة المقترحة فلابد من بذل مجهود ضخم في تعليم العامي أن كلمة (مستأبل) خطأ وأن صوابها (مستقبل) بإسكان الآخر وأنها تقدم في حالة الرفع وتؤخر في النصب. بمثل هذا المجهود تقريباً يمكن تعليمه أن الصواب (مستقبلٌ)، (مستقبلا).
والفرق بين المجهودين بسيط لأن القواعد التي تسري على كلمة واحدة تسري على أشباهها جميعاً.
وليس الإعراب بهذه الوعورة التي تنتهي بنا إلى القنوط. والذين لا تحتمل عقولهم بعض القيود المادية كالإعراب لا يرجى أن تحتمل آراء وعلوماً وفنوناً.
عبد الفتاح البارودي