2 - الشخصية مجلة الرسالة/العدد 63/الشخصية للأستاذ محمد عطية الأبراشي المدرس بكلية الآداب بالجامعة المصرية العناصر الرئيسية التي تكون منها الشخصية القوية: إن العناصر الجوهرية التي تكون منها الشخصية القوية كثيرة منها: (1) الجاذبية: وهي قوة طبيعية إن وجدت في الشخص استطاع أن يجتذب قلوب غيره ممن يتصلون به بدون أن يتكلف أو يتصنع: وهذا العنصر يعد أقوى العناصر التي تتكون منها الشخصية إن لم نقل أقواها، ولكن بماذا يجتذب الإنسان غيره من الناس؟ والجواب أنه يستطيع أن يجتذبهم ويسيطر عليهم بأدبه وعلمه، وضبط نفسه، وسداد رأيه، وسرعة خاطره، وحسن حديثه، وكرم خلقه، ومراعاة شعورهم ومشاركتهم في وجدانهم. وهذه الصفات بعضها وراثي، وبعضها يمكن أن يكتسب بالتربية والتعلم، في البيت والمدرسة والملعب والمجتمع، (2) النشاط العقلي أو الذكاء: العنصر الثاني من العناصر المكونة للشخصية القوية هو النشاط العقلي أو الذكاء، وبعبارة أخرى حضور الذهن. وسرعة الخاطر، وصفاء القريحة. فقد يكون الرجل مثقفاً، واضح التفكير، غزير المادة، واسع الاطلاع، ولكنه قد لا يكون متقد العقل، وضاء الفكر، حاضر البديهة، فلا يستطيع أن يدرك ما يرمي إليه محدثه، ولا أن يشاركه في رأيه؛ وقد تكون المرأة وسيمة الوجه، حسنة المنظر، جميلة الملبس، ولكنها قد تكون فاقدة ذلك النشاط الفكري والاتقاد العقلي، فتعجز عن التأثير في غيرها أو اجتذابه والسيطرة عليه. فهي كصورة جميلة المنظر، ولكنها فاقدة الروح الفنية، تلك الروح التي تؤثر في الصورة فتعطيها قوة وتأثيراً وحياة معنوية. فللنشاط العقلي تأثير حسن في شخصية الإنسان، وفي ارتفاع منزلته بين إخوانه وذويه، وللغباوة وقلة الفطنة والكسل العقلي أثر سيئ في خمول الشخص وتأخره، وعجزه وارتكابه الجرائم أحياناً، ولا عجب إذا قلنا إن معظم المجرمين من الأغبياء وضعاف العقول، وتبدو شخصية الأذكياء في أعمالهم وأقوالهم كما تبدو في منطقهم وتفكيرهم المنظم، وآرائهم المرتبة، وحججهم القوية، وقدرتهم على التخلص بسهولة من المشكلات التي تعترضهم بما أوتوا من نشاط عقل وحدة ذهن وصدق حس. ومن كان لذكائهم أثر في نجاحهم في حياتهم (ابراهام لنكولن)، أحد رؤساء الولايات المتحدة الذين تدين لهم تلك الولايات اليوم بما فيها من تقدم ورقي وإصلاح. ولد في 12 من فبراير سنة 1809، وكان أبوه بحاراً، نجاراً عادياً. توفيت والدته ولما يبلغ من العمر عشر سنين، تعلم مبادئ القراءة والكتابة وهو طفل، وكانت أمه قبل وفاتها تعني به العناية كلها، اختارت له من الكتب الكتاب المقدس وكتاباً عن حياة (جورج واشنطون) قرأهما وأعاد قراءتهما مراراً حتى كاد يحفظهما. وكان في بعض الأحيان يسير أميالاً ليستعير كتاباً يقرؤه. كان في حياته الأولى عاملاً، ثم ثقف نفسه بالقراءة في أوقات الفراغ، وكان في الليل يوقد قطعاً من الخشب، يتدفأ بنارها ويقرأ على نورها، ولولا ضيق المقام، والخوف من الخروج عن الموضوع لكتبنا عنه الكثير فارجع إلى تاريخ حياته أن شئت، وكل ما نريد أن نذكره هو أنه درس القانون أخيراً، ثم كان محامياً مدرهاً يشار إليه بالبنان، حاضر الذهن متقد الفكر، قوي الشخصية، ثم كان عضواً بمجلس النواب، فسياسياً، فرئيساً للولايات المتحدة بأمريكا. فضلته زوجته - وكان فقيراً - على منافس آخر من الأغنياء، وقد اختارته زوجاً لذكائه وإخلاصه وشخصيته. تنبأت أنه سيكون عظيماً، وقد كان مثلاً للعظمة؛ ولئن قام واشنطون بتحرير الولايات المتحدة، فقد قضى لنكولن على ما كان فيها من الاضطراب، وقام بكثير من الإصلاحات، وقد ترك لنكولن اسماً خالداً محبوباً لا من الأمريكيين فحسب، بل من أبناء الإنسانية في جميع الشعوب، فقد كان يعمل للإنسانية ويفكر كثيراً في الإنسانية وينسب إليه كثير من الحكايات التي تقرب من الخيالات والروايات. وممن كان لحدة ذهنهم وشخصيتهم أثر كبير في نجاحهم أيضاً (اللورد ماكولي) الاسكتلندي، فقد كان كاتباً وشاعراً، وكان مؤرخاً وقانونياً، وكان خطيباً وسياسياً، ولد في 25 من أكتوبر سنة 1800 م وتوفى في 28 من ديسمبر سنة 1859 م. أظهر حباً للقراءة وتعطشاً للعلم منذ نعومة أظفاره، توسم فيه أبوه كثيراً من علامات الذكاء والمقدرة العقلية منذ طفولته؛ فقد قلد (السير وولتر سكوت) في كتابته وعمره لم يزد على سبع سنين، فكتب ثلاث قصائد، ومختصراً تاريخياً عاماً، وهو طفل. كان قوي الذاكرة، محباً للعمل مولعاً بالأدب وبخاصة الروايات. وكثيراً ما لامه أبوه على قراءتها، التحق في أكتوبر سنة 1818 بجامعة (كمبردج). وحصل على أربع جوائز منها. وكنا نود أن نكتب عنه كثيراً لولا الخوف من التطويل. وكل ما يمكننا أن نقوله هو أنه اشتغل بالقضاء، ثم اتخذ الأدب مهنة، ثم انتسب إلى أحد الأحزاب السياسية، ونجح في حياته النيابية نجاحاً باهراً لنشاطه العقلي، وتأثيره الخطابي، وإخلاصه في قوله. وكان ينضم لآرائه كثيرون حتى المعارضون لحزبه. وله خطبة هي آيات بينات يدافع فيها عن تعميم التعليم المجاني، تدل على غيرته، وحضور بديهته. ولم يفخر الشعبان: الإنكليزي والاسكتلندي إلى اليوم بأحد من رجال السياسة والأدب فخرهما بماكولي: ومن كتابته تكاد تلمس قوة حجته، وروح خطابته، ووضوح لغته، وصفاء ذهنه، وسلامة ذوقه في كتابته، وجمال تعبيره، وحسن أسلوبه، ووفاءه لبلاده وأقاربه وأصدقائه، تكاد تلمس نقده المر البريء الذي ينبئ عن الإخلاص والإيمان بما يقول. . وممن كان يشهد لهم بالذكاء وحضور البديهة كثير من رجال العرب ونسائهم نذكر لك منهم: معن بن زائدة؛ فقد دخل على أبي جعفر المنصور، فقارب خطوه، فقال المنصور: (لقد كبرت سنك؛ قال في طاعتك. قال وإنك لجلد؛ قال على اعدائك. قال: وأرى فيك بقية؛ قال: هي لك.) فانظر إلى أجوبة معن تجد أنها تدل على سرعة الخاطر وحسن الجواب. فالنشاط العقلي يساعد على النجاح في الحياة، وينقذ الإنسان من أدق المراكز، ويحفظ شخصيته في أشد المواقف، ويسهل الصعب، ويقرب البعيد وله أثر كبير في حسن الخلق والسلوك. وبالإحصاء وجد أن أكرم حكام أوربه خلقا في القرون الثلاثة الأخيرة الماضية كانوا على قسط كبير من الذكاء. . (3) المشاركة الوجدانية: العنصر الثالث من العناصر التي تكون منها الشخصية يدعى المشاركة الوجدانية؛ فاذا لم نشعر بشعور الناس ونشاركهم في مسراتهم وأحزانهم، ونتأثر بآرائهم وأفكارهم، فهذا دليل على أننا في حاجة إلى أن نضع أنفسنا موضعهم، مهما كانت علاقتهم على شرط أن يكون لدينا استعداد للفهم والتفكير والشعور، مهما كانت مراكزنا بالنسبة إليهم، من غير نظر إلى رئيس أو مرءوس، غني أو فقير، عظيم أو حقير، رفيع أو وضيع، وألا تكون مناصبنا العالية حجر عثرة في سبيل فهمنا لغيرنا، وتقدير ظروفه المحيطة به؛ بل تكون معينا على أن نشاركه في حالاته، فنسر لسروره، ونتألم لآلامه، وبذلك نمتلك قلبه. أما صاحب المزاج البارد الذي يتمثل فيه الجود والقسوة والغلظة فلا يتأثر لما ينتاب غيره من نكبات، ولا يحب أن يتفاهم مع أحد؛ فهو ينفر من الناس، والناس ينفرون منه. وهو يؤثر في غيره بالإيذاء، كما يؤثر الهواء البارد في النبات الغض الشديد الاحساس، فيتجمد قبل أن ينمو أو يترعرع. ومن أكبر عيوب نابليون التي كان يتخلق بها شدة قسوته على النوع الإنساني، وعدم مشاركته له في شعوره، ومن ثم كانت شخصيته غير كاملة. وإننا في الوقت الذي نطالب فيه بالعدالة نطالب أيضاً بالرحمة. ومن الحكمة إذا كنت رئيساً أن تصل بالمشاركة الوجدانية إلى تنفيذ جميع رغباتك من غير التجاء لإظهار سلطتك، وأن تفوز بطاعة مرءوسيك من غير احتماء بالقانون. ومن المهارة أن تبين لمرءوسيك أخطاءهم، ونقط ضعفهم، وتسيرهم كيف تشاء، بدون أن تحط من كرامتهم، وبدون أن تظهر لهم أنك أعلى أو أرقى منهم، ومن غير اضطرار إلى اتخاذ شدة أو عنف. إذا أمكنك الوصول إلى كل هذا كانت شخصيتك قوية، وكان تأثيرك كبيراً. وإن قوة التأثير لا تستدعي قسوة أو غلظة، ولكنها تستدعي أن تشارك الناس في شعورهم ووجدانهم، وتتألم لما يدهمهم من حوادث الدهر، وتواسيهم فيما يلم بهم من نوائبه، وتنظر إلى حسناتهم قبل سيئاتهم، وفي صوابهم قبل خطئهم، وتقدر حسناتهم إذا أحسنوا، وتفكر في البواعث التي اضطرتهم إلى الخطأ إذا أخطأوا، وتعدل في أحكامك إذا حكمت، لا تنزع إلى جانب الظلم، ولا تميل إلى ناحية التهاون، وبهذه الوسيلة تكون قوياً، ليناً في غير ضعف، متواضعاً في غير ذلة، موفقاً في عملك محبوباً عند غيرك. أما هؤلاء الذين يلجأون إلى الشدة والقسوة دائماً فهم ضعفاء، يشعرون بالضعف فيلجأون إلى الغلظة، ظانين أنهم بتلك الطريقة يسترون ذلك الضعف، ويكملون ذلك النقص. مثلهم مثل الكلاب، تنبح في الطرق لا في ضوء النهار، بل في ظلام الليل، كي تبحث عن فريسة تفترسها، أو خيانة تخونها، أو طعام تسرقه، هم كالكلاب تسرهم عيوب غيرهم، ويفرحون لهفوات سواهم. وأمثال هؤلاء لا شخصية لهم، فأشخاصهم مكروهة، وأسماؤهم منبوذة، وأفعالهم مذمومة مشئومة. فالمشاركة الوجدانية من أهم عناصر الشخصية تجعل القلب متقداً يشعر بشعور غيره، ويقيس نفسه بمقياس سواه من الناس. يقول (السير وولتر سكوت) الكاتب الاسكتلندي الكبير: (إن المشاركة الوجدانية هي الحلقة الفضية أو الرباط الحريري الذي يصل القلب بالقلب، ويربط العقل بالعقل، والجسم والروح) فإذا كانت الشخصية هي القوة التي بها يجتذب الغير فالمشاركة الوجدانية من أهم الأشياء التي بها نتصل بقلوب غيرنا وأرواحهم. . وإذا قدرنا غيرنا، وفكرنا فيه، وسررنا لسروره، وتألمنا لألمه، فإننا ننتظر منه أن يقابل المثل بالمثل، فيقدرنا ويفكر فينا، ويشاركنا في سعادتنا وشقائنا بوجدانه وقلبه، أما إذا لم نقدر أحداً، ولم نفكر في أحد، فإننا لا نترقب أن يقدرنا أو يفكر فينا أحد. ومن المشاركة الوجدانية أن يخلص الأستاذ في نصح طلبته وإرشادهم، والتفكير في عملهم وظروفهم ومستقبلهم، فيقابل الطلبة ذلك بالوفاء والطاعة والتقدير. فالشخصية تستدعي أن نتأثر للغير، ويتأثر الغير لنا، ونشعر بشعورهم، ويشعروا بشعورنا. ولا أثر للتربية والتعليم إذا لم يصحبا بمحبة غيرنا، والتفكير فيهم بقلوبنا، فالمشاركة الوجدانية يجب أن تتحقق في القادة، قادة الفكر وقادة العمل، حتى تكون لهم شخصية جذابة. غير أنه ينبغي ألا يتدخل الوجدان والعاطفة في أقوالنا وأفعالنا وحركاتنا وسكناتنا تدخلاً كبيراً، حتى نستطيع أن نزن الشيء بميزان العدالة لا بميزان العاطفة. ويجب ألا ننظر إلى الأمور من ناحية واحدة وهي الناحية الوجدانية، لئلا يختل التوازن، ويصبح العقل عبداً خاضعاً للتأثيرات الوجدانية العاطفية التي تعمينا عن حقائق الأشياء وعلاقاتها بغيرها. ونظراً لطول الموضوع وتشعبه أرجئ البقية إلى بعض الأعداد التالية من الرسالة. محمد عطية الأبراشي