مجلة الرسالة/العدد 626/الزمان النفسي
→ بحث في الصلاة | مجلة الرسالة - العدد 626 الزمان النفسي [[مؤلف:|]] |
أحمد محرم! ← |
بتاريخ: 02 - 07 - 1945 |
للأستاذ زكريا إبراهيم
نسيجُ الحياة النفسيَّة هو الزمان. والزمان - كما يقول برجسون - جِدَة مستمرة، وخلق جديد، وإبداعٌ لصور لم تكن موجودة من قبل، ولم يكن وجودها منتظراً. فليس الزمان الحقيقي عبارة عن لحظة تعقب لحظة أخرى، وإنما هو امتداد الماضي باستمرار. وهذا الطابع الذي يتصف به الزمان، يتمثل في الحياة النفسية بشكل واضح، فإن ماضينا يتعقَّبنا في كل لحظة من لحظات حياتنا. وليس من شك في أننا لا نفكر إلا بجزء صغير من ماضينا، ولكننا إنما نرغب ونريد ونعمل بهذا الماضي كله. (فكل ما فكرنا فيه، وما شعرنا به، وما أردناه منذ طفولتنا المبكّرة، لا يزال عالقاً بنفوسنا، متجهاً نحو الحاضر الذي يوشك أن يتصل به، ضاغطاً بقوة على باب الشعور الذي يريد أن يدعه خارجاً).
هذا هو جوهر الحياة النفسية، كما تكشف لنا عنه النظرة العميقة إلى النفس الإنسانية. فكل فرد منا إذن هو عبارة عن تاريخ؛ وهو عبارة عن تاريخ قائم بذاته مختلف عن غيره؛ وثراء هذا التاريخ هو الذي يدل على ثراء حياة صاحبه الباطنة، لا عدد السنين التي عاشها. وقد يبدو لنا أننا نسير مدفوعين بحكم الزمان الآلي - زمان الساعات - ولكننا في الحقيقة نتحرك وفقاً لإيقاع الحالات الباطنة، والحركات الداخلية، مما يقوم عليه الزمان النفسي.
فنحن لسنا عبارة عن ذرات من الغبار تطفو على سطح نهر، بل نحن قطرات من الزيت تنتشر على سطح الماء سائرة بسرعتها الخاصة.
ومعنى هذا أن جوهر حياتنا هو الزمان النفسي - لا الزمان الآلي - لأن شعورنا إنما يسجل حركته الخاصة، أي السياق الخاص الذي تتوالى وفْقاً له حالاتُه الباطنة، (وإن كان هذا تحت تأثير المنبه الخارجي الذي يَعرض له). وبعبارة أخرى فإن الزمان الباطن هو جوهر نفوسنا. ومن المؤكد أن لحظات الزمان الآلي إنما تهوى إلى العدم؛ أما لحظات الزمان النفسي فإنها لا تهوى إلى العدم مطلقاً، بل تنطبع في الشعور، وتنضاف إلى سجل الوعي الإنساني. فنحن نحمل معنا الطابع النفسي لكل أحداث حياتنا، لأننا خلاصة للحالات النفسية التي مرت بنا.
وكل تجربة جديدة تمر بنا، وكل فكرة تطوف بخاطرنا، وكل فعل نقوم بتحقيقه؛ بل كل حالة عضوية تعرض لنا، لا بد أن يكون لها تأثير لا يمحى في حياتنا النفسية. ومعنى هذا أننا لا ننفصل مطلقاً عن ماضينا، بل إن شخصيتنا تزداد ثراء وخصباً بكل تجربة جديدة تعرض لنا. وقد نشفى تماماً من مرض انتابنا، أو حالة نفسية عرضت لنا، ولكن لا بد أن يظل أثر هذا المرض أو هذه الحالة النفسية باقياً في طوايا شعورنا.
ومن جهة أخرى فإن من المستحيل على الشعور الإنساني أن يمر بحالة واحدة مرتين. قد تكون الظروف الخارجية واحدة، ولكنها لا يمكن أن تؤثر في الفرد نفسه تأثيراً واحداً، ما دامت تعرض له في لحظة جديدة من لحظات حياته. وعلى ذلك فإن التاريخ الإنساني (باعتبار أن كل إنسان هو عبارة عن تاريخ) لا يعيد نفسه مطلقاً. والشخصية الإنسانية تتكون في كل لحظة من التجارب المتجمعة، فهي تتغير دائماً أبداً، وهي إذ تتغير، تحول دون تكرر حالة واحدة بعينها. ومن هذا كله إلى هذه النتيجة الهامة، وهي أن الزمان النفسي غير قابل للإعادة، أعني أننا لا نستطيع أن نحيا (إن صح هذا التعبير) حالة واحدة بعينها مرتين، لأن هذا يقتضي أن نلغي وجود الذاكرة التي تحتفظ بالماضي.
وإذا عمدنا الآن إلى مقارنة الزمان الآلي بالزمان النفسي فإننا نجد أن الزمان الآلي يسير وفقاً لإيقاع مطّرد؛ أعني أنه مكون من فترات متساوية لا يتغير مساره خلالها. أما الزمان النفسي فهو على العكس من ذلك، لأنه يختلف في سرعته لدى الفرد الواحد، تبعاً للفترات المختلفة في حياته. فالسنة الواحدة - إبَّان الطفولة - تحتوي على أحداث فسيولوجية وتغيرات نفسية، أكثر مما تحتوي عليه السنة الواحدة إبان الشيخوخة - وعلى ذلك فإن السنة الواحدة أطول إبان الطفولة، وأقصر إبان الشيخوخة؛ لأن قيمتها بالنسبة إلى الطفل أكبر منها بالنسبة إلى والديه.
من هذا يتبين لنا أن الحياة الإنسانية لا تُحْسَب بالأيام والسنوات، بل بالقدر الذي (تحيا) به الأحداث والتجارب. ومعنى ذلك أنه من العبث أن تقاس أطوار الحياة الإنسانية بالزمان الآلي، لأن هذا يقتضي أن يكون في الحياة النفسية اطراد الزمان الآلي؛ ولكن هذا الاطراد - في الحقيقة - لا وجود له في الحياة فالحياة الإنسانية لا يمكن أن تقسم إلى أطوار زمنية تحسب بوحدات الزمان الآلي، بل يجب أن تقسم إلى أطوار نفسية تحسب بوحدات الزمان النفسي.
وإذا أقمنا اعتباراً للزمان النفسي، فإننا لابد أن نهتم اهتماماً كبيراً جداً بزمن الطفولة المبكرة، لأن هذا الزمن هو بطبيعة الحال، الزمن الثري الحافل. . . حقاً إن الزمان الآلي الذي تشغله هذه المرحلة من حياة الإنسان، لا يبلغ مدى مرحلة الاكتمال أو مرحلة الرجولة، ولكن الزمان النفسي الذي تنطوي عليه يفوق أية مرحلة أخرى. ولهذا فإن من الواجب أن تعطي مرحلة الطفولة المبكرة كل عناية ممكنة في التربية. ولسنا في حاجة إلى أن نؤكد ما لهذه المرحلة من قيمة سيكولوجية في الحياة النفسية كلها، فإن هذه حقيقة ثابتة لا شك فيها.
أما مرحلة النضج ومرحلة الشيخوخة فليس لهما إلا قيمة سيكولوجية ضئيلة بالقياس إلى مرحلة الطفولة، لأنهما مرحلتان خاليتان تقريباً من التغيرات النفسية والتطورات العقلية ومن أجل هذا، فإن من الواجب أن يملأ الفراغ الموجود فيهما بنشاط صناعي. وعلى ذلك فإنه إذا بلغ الفرد مرحلة الشيخوخة، لم يكن عليه أن يقلع عن العمل ويركن إلى الدعة والخمول، لأن الفراغ أخطر بالنسبة إلى الشيوخ منه بالنسبة إلى الشباب. . .؛ بل إن من الواجب على المجتمع أن يعهد إلى أولئك الذين وهت قواهم بعمل معتدل مناسب، لا براحة تدينهم من الموت، أو دعة تذيقهم طعم الموت الحي
وإذا أنعمنا النظر في هذه الفكرة - فكرة الزمان النفسي أمكننا أن نفهم كيف أننا منعزلون بعضنا عن بعض في دوائر منفصلة، أو عوالم متميزة. فمن المستحيل بالنسبة إلى الأبناء ن يفهموا آباءهم وبالأحرى أجدادهم. ولهذا فإننا إذا نظرنا إلى الأفراد في حقبة واحدة أمكننا أن نقسمهم إلى أربعة أجيال متعاقبة بينها من التنافر أقصى ما يمكن. . . وإن هذا الجد الطاعن السن وذلك الحفيد الصغير، لهما كائنان مختلفان كل الاختلاف، وكل منهما غريب عن الآخر تمام الغرابة. . . فإذا أريد أن يكون تأثير الجيل الواحد في الجيل الذي يليه تأثيراً أكبر، كان من الواجب أن تقل المسافة الزمنية بينهما. ولهذا فإن من الأفضل أن تصبح المرأة في دور شبابها الأول، حتى لا يكون المدى الذي يفصل بينهما وبين أولادها هو من السعة بحيث لا يمكن الحب نفسه أن يسد فراغه.
زكريا إبراهيم