الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 622/رسالة الفن

مجلة الرسالة/العدد 622/رسالة الفن

بتاريخ: 04 - 06 - 1945

5 - الفن

الكاتب الفرنسي بول جيزيل

بقلم الدكتور محمد بهجت

الحركة في الفن

يوجد بمتحف اللوفر تمثالان لرودان يتنازعانني ويؤثران فيّ بوجع خاص، هما: (العصر الحديدي) (ويوحنا المعمدان). ويخيل إلى أنهما أكثر حياة من غيرهما - إذا صح هذا التعبير. حقيقة أن كل تماثيل (رودان) الأخرى تنبض بالحياة، وتتنفس ويحس منها ما يحس من اللحم الحقيقي إلا أن هذين التمثالين يتحركان!

كاشفت رودان بولعي الخاص بهذين التمثالين ذات يوم وأنا جالس بمرسمه بميدون فما كان منه إلا أن أجابني:

أنهما حقاً من تلك التماثيل التي أبرزت فيهما الفن التقليدي إلى ابعد حدوده، مع أني صنعت غيرهما كثيراً مما لا يقل عنهما حركة وحياة، أذكر منها على سبيل المثال (رهائن كاليه) (وبلزاك) (والرجل يمشي). وحتى في أشغالي التي لا يظهر عليها النشاط حرصت دائماً على أن أطبعها بطابع الحركة. ولم أصنع قطعاً وادعه ساكنة إلا فيما ندر. ولقد حاولت دائماً أن أعبر عن الأحاسيس الداخلية بحركات العضلات. وهذا صحيح حتى في تماثيلي النصفية التي أجعلها تميل أو تنحرف انحرافاً خاصاً أو تأخذ وضعاً معيناً يجعلها تنم عن خلجة من خلجات النفس.

لا يمكن الفن أن يعيش بغير حياة. فإذا ما أراد مثال أن يعبر عن السرور أو الحزن مثلاً أو عن أية عاطفة كانت فإنه لا يستطيع تحريك مشاعرنا من غير أن يعلم بادئ ذي بدء كيف يبث الحياة فيما يسوي من الجسام. وإلا فكيف يؤثر فينا السرور أو الحزن المرتسم على شيء جامد كقطعة من الصخر الأصم مثلاً؟

ويمكننا الحصول على مخايل الحياة في أعمالنا عن طريق التمثيل الجيد والحركة. هاتان الصفتان هما بمثابة الدم والروح لكل عمل جيد). وهنا قلت له: أيها المعلم! لقد حدثتني عن التمثيل فأصبحت قادراً على تذوق روائع الفن أكثر من ذي قبل، فاسمح لي الآن أن أوجه إليك بعض أسئلة عن الحركة التي أراها لا تقل أهمية عنه. عندما أحدق في تمثالك المسمى (العصر الحديدي) الذي ينهض ويملأ رئتيه هواء ويرفع ذراعيه عالياً، أو في تمثال (يوحنا المعمدان) الذي يخيل إلى الرأي أنه يهم بمغادرة قاعدته التي يقف عليها ويضرب في أنحاء الأرض مبشراً برسالته بكلمات من الهدى، يعروني مزيج من الإعجاب والدهش. ويخيل إلىّ أن هناك سحراً في ذلك الفن الذي يهب مادة الشَّبَه حركة. ولقد درست روائع أخرى لأسلافك العظماء أذكر منها تمثال المارشال (ناي) والمارسليز، وكلاهما من عمل (رود) ثم الرقص من عمل (كاربو) وكذلك حيوانات (باري) الوحشية الكاسرة، ولا يسعني إلا الاعتراف بأني ما وجدت إلى اليوم تفسيراً مقنعاً للتأثير العميق التي تحدثه تلك التماثيل في نفسي. وما زلت أسائلها كيف يمكن أن تؤثر فينا كتل صماء من الحجارة أو الحديد؟ وكيف تبدو بعض التماثيل كأنها تعمل، بل وكأنها في حركة عنيفة بينما هي في الواقع ساكنة لا حراك بها؟)

فأجابني رودان: (أما وقد جعلتني في عداد السحرة فسأحاول جهدي أن احمي سمعتي، وذلك بأن أقوم بواجب هو أصعب بكثير من نفخ الحياة في الشبه أو الحجر، ألا وهو أن أشرح لك كيف يتسنى ذلك

لا حظ أولا أن الحركة هي الانتقال من وضع معين إلى وضع آخر. والحق يقال إن هذا التعريف الذي يكتنفه الصدق هو مفتاح السر. ولا ريب أنك قرأت في أوفيد كيف استحالت (دافني) إلى شجرة الغار،، و (بروني) إلى عصفور السنونو. يرينا هذا الأديب الساخر أن الأولى اتخذت من قشور الأعواد ومن الأوراق غطاء بينما أدثرت الأخرى بالريش حتى لنستطيع أن نرى في كل منهما المرأة التي استحالت والشجرة أو الطير التي سوف تنقلب إليهما. وأظنك تذكر أيضاً أن دانتي يصور لنا في جحيمه حية تلتف حول جسد أحد الملاعين فتنقلب رجلا، وينقلب الرجل بدوره حية تسعى. يصف لنا الشاعر العظيم هذا المنظر بجلاء تام وعبقرية فذة بحيث يستطيع المرء أن يتابع في كل من هذين المخلوقين الصراع الدائم بين طبقتين تصطرعان لتسود إحداهما الأخرى.

وقصارى القول يمكن المصور أو المثال بمثل هذا الضرب من التطور والتبدل يهب المخلوقات التي يبتكرها الحركة والحياة بأن يمثل التحول من وضع إلى آخر، ويظهر يتصل الأول بالثاني ويمحي فيه بشكل غير محسوس. . . ويجب أن نرى في عمله بعضاً مما وقع أو مما كان، ونستبين طرفاً مما سيكون. ولأضرب مثلا يوضح لك الأمر أكثر من ذلك:

(لقد ذكرت منذ هنيهة تمثال المارشال ناي الذي صنعه رود فهل نستوعبه بوضوح؟) فأجبته:

(نعم) إن البطل يشهر سيفه ويصيح في جنوده بأعلى صوته: إلى الأمام).

(تمام! حسن! عندما تمر بهذا التمثال مرة أخرى تأمله بدقة أوفى فتلاحظ إذ ذاك أن رجلي التمثال واليد اليسرى التي تقبض على عمد الحسام ثبتت على الحالة التي كانت عليها عندما استُل السيف من قرابة. أما الرجل اليسرى فقد انسحب قليلاً إلى الوراء لكي يسهل إمساك السيف باليد اليمنى التي استلته منذ هنيهة. وأما اليد اليسرى فثابتة في الهواء ممسكة بالغمد كأنها ما زالت تقدم الغمد.

ولندرس الجسم الآن؛ كان يجب أن يكون مائلاً قليلاً إلى اليسار في اللحظة التي أتى فيها بالحركة التي وصفت آنفاً. ولكنه هنا منتصب، والصدر بارز إلى الأمام، والرأس يدور نحو الجنود وقد دوى منه الأمر بالهجوم. وأخيراً ترى الذراع اليمنى مرتفعة وقد شرعت الحسام. فها أنت ترى في كل ذلك إثباتاً لما قلته لك آنفا. ً فما الحركة في هذا التمثال إلا تغيير من وضع أولى - هو الذي كان عليه المارشال عندما استل سيفه - إلى وضع ثانوي هو عندما رفع ذراعه وشرع في الاندفاع صوب العدو. . . وفي هذا كل السر في الحركة كما يفسرها الفن. فعلى المثال إذا أن يلزم المشاهد بتتبع تطورات حركة ما في فرد معين. ونرى في المثل الذي استشهدنا به أن العينين تلتزمان التنقل من الأطراف السفلى إلى العليا حتى الذراع المرفوعة، فتريان أثناء ذلك التنقل أجزاء الجسم ممثلة في فترات متتابعة رتتوهمان بأن الحركة تمت).

وقد اتفق وجود صبيبتين لتمثالي (العصر الحديدي) (ويوحنا المعمدان) في البهو الكبير حيث كنا، فسألني رودان أن أنظر إليهما ففعلت، وأدركت صدق قوله للتو واللحظة. لاحظت في التمثال الأول أن الحركة تصاعدية كما في تمثال ناي. فالشباب غير كامل النهضة، فساقاه متخاذلتان، تميدان من تحته، فإذا ما صعدت عيناك فيه قليلاً وجدت أصلب، والأضالع بارزة من تحت الجلد، والصدر يتمدد وينهد، والوجه يواجه السماء، والذراعين ممدودتين كمن يحاول أن ينضي عنه خموله. أما موضوع هذا التمثال فيلخص في التخلص من حالة الركود والخمود إلى حالة النشاط في الإنسان الذي يتحفز للعمل.

وفضلا عن ذلك فإن تلك الحركة البطيئة التي تدل على الاستيقاظ والنهوض لتظهر أروع مما هي عليه عندما يدرك المرء مغزاها. فهي تمثل - كما يدل على ذلك أسم القطعة - أول خفقة من الإدراك والتمييز في إنسانية لا زالت في مدارجها الأولى وأول انتصار للعقل على وحشية العصور السابقة للتاريخ.

ثم درست بعد ذلك تمثال يوحنا المعمدان على الوتيرة السابقة، فرأيت أن انسجام هذا الجسم أدى إلى تطور من حالة إلى حالة أخرى كما قال رودان. فأولا يتكئ الجسم بكل ثقله على القدم اليسرى التي تضغط على الأرض بكل قوتها. ويبدو كأنه يتذبذب في ذلك الوضع هنيهة بينما تنظر العينان صوب اليمن. وبعد ذلك ترى الجسم كله يتجه في هذا الاتجاه ثم تخطو الرجل اليمنى وترتكز قدمها على الأرض. وفي تلك اللحظة يظهر الكتف الأيسر المرتفع كما لو كان يلقي بثقل الجسم إلى هذا الوضع الجديد كيما يعين القدم اليسرى الخلفية على الخطو إلى الأمام. والآن، لم يخرج علم الفنان عن أنه يضع تلك الحقائق نصب عين الرأي على النحو الذي ذكرته حتى يكون من تعاقبها وتتابعها ما يشعر بالحركة.

وفضلا عن هذا أيضاً فإن لحركة (يوحنا المعمدان) دلالة روحية، كتلك التي لتمثال (العصر الحديدي). فالفني يتحرك حركة آلية كلها جلال ووقار حتى لتتوهم أنك تسمع وقع أقدامه مثلما تتوهم ذلك عندما تشاهد تمثال (القائد) تحس منه كأن قوة خفية كامنة تهيمن عليه وتسيره. وعلى هذا نرى أنه بينما تبدو لنا حركة المشي عادية صرفه نراها هنا جليلة لأنها في سبيل رسالة مقدمة. وهنا سألني رودان فجأة:

- (هل سبق لك أن عاينت بإمعان صوراً فوتوغرافية لأشخاص تمشي؟). ولما أجبته بالإيجاب قال (حسن. ماذا لاحظت عليها).

- (لاحظت أنها ثابتة في أماكنها لا تتقدم. وتبدو على العموم كأنها ترتكز على ساق واحدة، في غير ما حراك، أو أنها تحجل على قدم واحدة).

- تمام! ولأضرب لك الآن مثلاً تمثالي (يوحنا المعمدان)، الذي ترى قدميه مرتكزتين على الأرض. فإذا ما أخذت صورة فوتوغرافية لمثال حي يمشي مشيته فلربما ظهرت قدمه الخلفية مرتفعة تلاحق القدم الأخرى؛ أو على النقيض من ذلك قد لا تكون القدم الأمامية على الأرض إذا ما شغلت الرجل الخلفية في الصورة الفوتوغرافية نفس الوضع الذي تشغله من التمثال.

ولهذا السبب عينه قد يبدو مظهر هذا المثال الفوتوغرافي غريباً كما لو كان رجلاً فاجأه الفالج وتحجر في موضعه، كما وقع في القصة الخرافية البديعة لخدام (الجمال النائم) الذين مُسِخُوا وسمروا في مكانهم على حالهم التي كانوا عليها. وهذا أيضاً يدعم ما شرحته لك من هنيهة بخصوص الحركة في الفن. وفي الواقع أنه إذا ظهرت الأشخاص في الصور الفوتوغرافية كأنها مثبتة في الهواء مع أنها أخذت وهي في حالة الحركة فما ذلك ألا لأن جميع أجزائها صورت في فترة زمنية واحدة هي جزء من عشرين أو أربعين من الثانية فلا يوجد في هذه الحال تدرج في الحركة كما هو الحال في الفن).

فقلت:

- (أني أفهمك تمام الفهم يا أستاذ: ولكن أرجو أن تسمح لي بأن أقرر أنك تناقض نفسك).

- (وكيف ذلك؟).

- (ألم تصرح لي أكثر من مرة بأنه يجب على الفنان أن ينسخ الطبيعة بكل إخلاص؟)

- (لا ريب في ذلك. ولا أزال أتمسك به.)

- (حسن! إذن إنه عندما يفسر الحركة فيناقض بتفسيره الآلة الفوتوغرافية تمام المناقضة - والفوتوغرافية دليل آلي دامغ لا يرقى إليه الشك - فإنه بذلك يغير من الحقائق.)

- (كلا. أن الفنان هو الصادق، والآلة الفوتوغرافية هي الكاذبة؛ لأن الزمن لا يقف كما هو ثابت مقرر. وإذا نجح الفنان في إظهار تعبير حركة تستغرق عدة لحظات حتى تتم فان عمله يكون بلا ريب أقل تكلفا من الطيف العلمي (الفوتوغرافية) حيث أقتضب فيه الوقت اقتضاباً مفاجئاً.

(له بقية)

دكتور محمد بهجت