مجلة الرسالة/العدد 622/دار الترجمة أيضا
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 622 دار الترجمة أيضا [[مؤلف:|]] |
في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب ← |
بتاريخ: 04 - 06 - 1945 |
ً
عفواً يا معالي الوزير!
هذا الطريق لا يؤدي
في عدد مضى من الرسالة اقترحنا على صاحب المعالي وزير المعارف أن تنشأ دار للترجمة مستقلة عن ديوان الوزارة يُختار لها مائتان على الأقل من المترجمين النابغين في لغتهم وفي اللغات الأوربية الثلاث ينقلون المعارف الأجنبية نقلاً كاملاً صحيحاً فلا يدَعون عَلماً من أعلام الأدب والعلم والفن والفلسفة والاجتماع إلا نقلوا كتبه ونشروها على حسب ترتيبها وتبويبها في طبعاتها الأصلية؛ فإذا فرغوا من ترجمة الموجود فرغوا لترجمة المستجد، فلا يكون بين ظهور الكتاب في أوربا وظهوره في مصر إلا ريثما يترجم هنا ويطبع. وكان هذا الاقتراح مبين الأسباب، مفصل النتائج، موضح الآثار، يقرأه القارئ فيحسبه الطول ما تردد في نفسه، وتجدد في أمانيه، صادراً عن رأيه أو منقولاً عن شعوره. لذلك دوى صداه في الأقطار العربية فتجاوبته ألسنٌ مبِينة، وتناولته أقلام بليغة؛ ولو ذهبنا نذكر كل ما قيل، وننشر كل ما كُتب، لما اتسعت الرسالة لموضوع غير هذا الموضوع.
على أننا ننشر اليوم قولين رسميين دارا على هذا الاقتراح في مجلس الشيوخ، أحدهما سؤال لشيخ محترم فيه رأي الأمة، والآخر جواب عنه لوزير المعارف لخص فيه رأي الحكومة، ثم نعقب عليهما بما نعتقد أنه الحق والأحق
صاغ الأستاذ أحمد رمزي بك أحد أعضاء مجلس الشيوخ من هذا الاقتراح سؤالاً وجهه إلى معالي عبد الرزاق السنهوري بك فأجابه عنه بقوله: (توجد فعلاً بوزارة المعارف إدارة لأداء الأغراض النافعة التي أشار إليها حضرة العضو المحترم في الجزء الأول من سؤاله، وهي ترجمة المؤلفات الأجنبية ونقل المعلومات العلمية والاجتماعية والأدبية وثمرات الثقافة الأجنبية إلى اللغة العربية؛ وعندما توليت وزارة المعارف أعدت تنظيم إدارة الثقافة العامة التي تتبعها إدارة الترجمة بما يكفل لها أداء مهمتها على الوجه الأكمل، وراعيت في هذا التنظيم الجديد أنه يمكن الوزارة من أن تستعين بمن يمكن الاستعانة بهم من الكتاب والمترجمين من موظفين وغير موظفين فتعهد إليهم بأعمال الترجمة والمراجعة نظير مكافآت سخية تصرفها لهم. وشكلت لجنة من كبار رجال الوزارة والجامعة لاختيار الكتب التي تترجم، ووضع المناهج للترجمة وتعيين من يقومون بها. أما عن النفقات التي يحتاجها هذا العمل فإن الوزارة فضلاً عما يوجد في أبواب ميزانيتها من اعتمادات مرصودة لهذا الغرض لن تتأخر عن التقدم إلى البرلمان بطلب ما يحتاجه هذا العمل الواسع النطاق من اعتمادات جديدة)
أما سؤال الشيخ فاتجاه إلى الطريق الأقوم في تربية الشعب وترقية عقله ولغته وأدبه وعلمه وعمله؛ وأما جواب الوزير فاحتفاظ بالنمط المألوف من مسايرة (الروتين)، ومشاورة اللجان، ومطالعة التقارير، ومماطلة الحوافز، حتى يتراخى الزمن ويفتر العزم ويتغير الحال وينتقل الحكم وينتهي كل شئ إلى لا شئ! وكان الظن بصاحب المعالي وزير المعارف وهو من هو في منطقه وتعمقه وجده أن يعالج نقل المعارف الأجنبية على أنه تصحيح نهضة وتثقيف أمة وبدء تاريخ، فيجعله الهدف الأول لسياسة الوزارة في عهده، والمنار الهادي لمن يسلك هذا الطريق من بعده
إذن بقينا في نقل الثقافة الغربية على ما كنا عليه لم نتقدم خطوة: إدارة الترجمة في مراقبة الثقافة العامة تشرف على خمسة مترجمين أو ستة ينقلون سفراً ضخماً في التاريخ العام لا ندري في أي مدة ينتهي، أو كتاباً في تاريخ إنجلترةلماكولي لا ندري أي أمة يفيد؛ ثم الاستعانة بالكتاب والمترجمين من موظفين وغير موظفين (في أعمال الترجمة والمراجعة نظير مكافآت سخية تصرف لهم)، وهذه هي الخطوة الجديدة في الإدارة القديمة ولكنها إلى الوراء، لأن اختيار الكتب وتوزيعها على أحرار المترجمين تجربة تحققت في بعض العهود ثم أخفقت. وإخفاقها إنما أتاها من نزعتها الفردية في اقتراح الفكرة وانتخاب الكتاب واختيار المترجم. وبقاء الأعمال الفردية رهن ببقاء الفرد. والقاعدة عندنا أن يهدم الخالف ما بنى السالف حتى لا يكون لغيره بناء يقوم ولا عمل يتم. أما إذا أسس العمل على قانون أو مرسوم عز على الرياح أن تنال منه وإن سفَت عليه التراب وزمجرت حوله باللغط.
وبعد، فهل نستطيع أن نعرف ولو بالحدس بعض الأسباب التي سوغت للوزارة أن تفضل إدارة للترجمة على دار للترجمة؟ يقولون إن من هذه الأسباب صعوبة الحصول على مائتي مترجم يصلحون لهذا العمل. واعتراف الوزارة بهذه لصعوبة اعتراف منها بالعجز عن أداء ما خلقت له؛ فإن من العار الذي لا يرحضه ندم ولا لوم ألا نجد في جيلين نشأتهما الوزارة المعارف في مصر وفي أوربا، مائتين يحسنون اللغة العربية ولغة أخرى أوربية، وتعليمهما كما نظن يبتدئ مع الدراسة الابتدائية، وينتهي مع الدراسة الجامعية! فإذا سلمنا لهم أن ذلك هو الواقع فإن في الإمكان أن يسدوا هذا العوز بطائفة من إخواننا العرب، إذ الغرض العلمي واحد، والتعاون الثقافي قائم. فإذا أعيانا الوصول إلى هذا، كما أعيانا الحصول إلى ذاك، بدأنا العمل بمائة أو بخمسين ثم بعثنا إلى أوربا في كل سنة عشرة من خريجي الأزهر ودار العلوم والجامعة يخصون في درس هذه اللغات حتى يبلغ النصاب عدده. ولو أن (البعثة الفهمية) - ولها في ذمة الوزارة ستمائة فدان من أخصب الأرض - سارت على النهج الذي رسمه لها صاحب المعالي حلمي عيسى باشا لما شكونا هذا النقص وأحسسنا هذا القصور
كذلك يقولون إن هؤلاء المترجمين إذا تيسر الحصول عليهم سيصيبهم داء الموظفين فيعملون عُشر ما يستطيعون؛ وإذن يكون عشرون يرأسهم ضميرهم، خيراً من مائتين يرأسهم كبيرهم. ودواء ذلك إذا جاز أن يكون عين كلوء تراقب، ويد حازمة تصرّف، وتحديد يومي لإنتاج المترجم يطلب منه ويناقش فيه ويحاسب عليه
أما غير هذين الاعتراضين على تهافتهما فمرده إلى الهوى لا إلى العقل. والحق أن الغار الذي ضفره عطارد لهذا العمل العظيم الخالد لا يزال مرفوعاً بين يديه ينتظر الرؤوس التي تستحقه. وما زالت قوى الأمل في أن يكون من نصيب الصديقين العزيزين عبد الرزاق السنهوري وأحمد أمين. فليت شعري أهو الحذر الذي يخطئ، أم هو القدر الذي يصيب؟
يا معالي الوزير! إنا أمة جاهلة فينا أفراد يعلمون. وإن من الخزي أن نظل كذلك وآباؤنا هم الذين علموا الشعوب ومدنوا العالم! إن الجهل باللغات الأجنبية عندنا مذمة وهو عند غيرنا محمدة، وعلة ذلك أن لغتنا لا تزال لغة العلم القديم؛ فمن اكتفى بها أتهم بخفة الوزن وقلة العلم. وهيهات أن ندرأ عنها وعنا هذه المعرفة إذا لم تنقل إليها المعارف الحديثة على الوجه الذي أقترح! بهذا وحده يا معالي الوزير تعود لغتنا إلى الحال التي قال فيها كاهن قرطبة أيام كنا سادة الأندلس: (إنا نحب أن نقرأ الشعر والقصص، وندرس الدين والفلسفة في اللغة العربية، لأنها لغة عذبة الألفاظ بليغة الأداء. ولا نكاد نجد فينا من يقرأ الكتب المقدسة باللغة اللاتينية، وشبابنا الأذكياء كافة لا يعرفون غير لغة العرب وآدابهم. وكلما قرأوا كتبها ودرسوا أدبها أعجبوا بها. فإذا حدثتهم عن كتاب من الكتب اللاتينية سخروا منه وقالوا: إن الفائدة منه لا تساوي التعب في قراءته. . .).
ذلك ما قالوه في لغتنا بالأمس؛ وهو نفسه ما نقوله في لغاتهم اليوم! فهل في ذلك لقوم بلاغ؟
أحمد حسن الزيات