مجلة الرسالة/العدد 620/البريد الأدبي
→ لقاء. . . | مجلة الرسالة - العدد 620 البريد الأدبي [[مؤلف:|]] |
القصص ← |
بتاريخ: 21 - 05 - 1945 |
إلى الأستاذ حبيب الزحلاوي
قرأت في عدد الرسالة 617 كلمة موجهة إليك بتوقيع شريف القبج الدكتور في الفلسفة، وأنا حاملَ هذا الاسم وذلك اللقب أبرأ إلى الله مما جاء في هذه الكلمة الرقيقة، ولست آسف كثيراً على هذا المجهول الذي نزع كلمة من هنا وكلمة من هناك ووقف على منبر في الخفاء ليعطي الإرشادات الفنية بشكل رسالة للفن السامي، ويخاف من نشاط الغرائز غير المهذبة في الإنسان، ويخشى أن يستعمل الأديب في النقد مبضعه بلا رحمة ولا هوادة.
ويتوقع أن يقف الأديب والناقد في حلبة صراع يجلب غمز القراء ولمزهم وقهقهتهم. وكأنه يندب حظ الأديب إذا تلطخ بالمهاترات الكلامية والتراشق بالألفاظ غير المهذبة.
ونحن القراء في هذا البلد (فلسطين) لا نزال ننعم ونتمتع بما تجود به الأقلام المصرية علينا لنغذي نفوسنا كما كانت مصر الخصيبة تملأ غرائزنا في المجاعات العالمية التاريخية.
لقد دل هذا الكتاب المقنع من تزييف توقيعي على أن إرشاداته للأدب والأديب كاذبة، وأنا معذورة إذا لم تتولد في روحي الحرارة الكافية للرد عليه، لا لأنه أساء إلى الناقد الأديب السيد حبيب زحلاوي، ولا لأنه أساء إلى القراء بقصة بهلوانية، ولا أساء إلى بلاده بعملية التزوير، بل لأنه كأولاد الشوارع الذين يرشقون السيارات بالحجارة ولا يسع صاحب السيارة إلا أن يشتم أهل البلد الذي وقع فيه الحادث، ولكن المذهب في الحادث فرد مجهول.
قيل لي إن الذي مثل هذه الرواية شاب خليع ليس بالكاتب ولا بالأديب ولكنه يقول الشعر الجارح لا من قريحته بل من جمعه للقوافي المختلفة وقياسها بخيط طول معلوم عنده، فإذا جاءت قياساتها متناسقة وقوافيها على نغم واحد
أخرجها قصيدة شتامة لرفاقه. ولقد كسدت بضاعته أو ربما أضاع الخيط الذي يقيس به فانتقل إلى صناعة النثر وبدأ باستعارة الأسماء، وواجبي تجاه هذه المجلة العظيمة أن أعتذر للسيد حبيب زحلاوي عن هذا الواعظ المجهول، واعتذر لصاحب الرسالة عن ذلك الصبي الذي يرشق سيارات الناس فيسئ إلى سمعة بلده، وأعترف أنني لا أملك المقدرة لمعالجة هذه الثلمة الأخلاقية بدرس ألقيه في الرسالة فأترك ذلك إليكم
والسلام عليكم ورحمة الله.
(طول كرم - فلسطين)
شريف القبج
كتاب (التصوير الفني في القرآن)
كتاب طيب جديد في بابه، يشق لنفسه طريقاً إلى نفسك، ويحل عندك محله اللائق به من إعجاب به، وتقدير لما بذل صاحبه في وضعه من جهد، وما صادف من توفيق، حتى جاء شاهداً لصاحبه بأنه كما قال الأديب عبد المنعم خلاف في الرسالة (شاعر ناثر ناقد، زاول الشعر والنثر والنقد، ونجح في ذلك كله كثيراً من النجاح) وحتى جاء شاهداً لنفسه - كما قال ذلك الأستاذ الأديب - (بأن له الموضع اللائق به من مكتبة القرآن، ومكتبة بحوث البلاغة، ومكتبة الفن، ومكتبة البحث) وليس يسع القارئ لهذا الكتاب إلا أن يحمد لصاحبه عمله، ويغبطه على نجاحه، وذلك موقفي من الكتاب وصاحبه.
وإن تكن لنا ملاحظات بعد فهي ملاحظات هينة يسيرة، لا تغض من قيمة الكتاب، ولا تبخس فضل صاحبه؛ وإنما هي ملاحظات - إن روعيت - تزيد الكتاب حسناً على حسنه، وكمالا إلى كماله: وإليك هي: -
أ - عنى المؤلف بتحليل الآيات عناية مشكورة؛ ولكنه لم يعن بتحريرها على وجه الصحة، فتطرق إلى كثير منها الخرم، كما تسرب إلى بعضها التصحيف، أو التحريف، ولو أن ذلك قليل لهان الاعتذار عنه، وإن شاء تبيان ذلك فليضع المصحف بين يديه ثم ليراجع من كتابه صفحات 113، 114، 118، 120، 122، 123، 130، 141، 176، 198.
ب - أتجه المؤلف في بحثه إلى الناحية البلاغية فحسب، ونبه في غير موضع من كتابه إلى أن الجانب الديني ليس موضع نظره - وهذا حسن، ولكنه (على غير قصد منه فيما أرجح) لمس الجانب الديني لمساً جارحاً حين عرض للآيات في قصة يوسف عليه السلام - صفحة 115 - إذ وصف النبي يوسف - أولا - بأنه الواعي الحصيف، وبأنه كان في موقفه من زليخا يحذر مواضع الحرج جميعاً، وهذا لا شيء فيه؛ غير أنه جعل يوسف أمام المرأة وفي هذا الموقف الإجرامي أشبه بشخص عادي (كاد يضعف) لولا أنه كان واعياً حصيفاً يخشى أن تأخذه عين الرقيب مثلاً، أو يفجأه الزوج، وقد صدقت فراسة يوسف: إذ فجأة الزوج حين محاولته الإفلات لدى الباب. وهذا تصوير غير فني لإنسان هيأه ربه للنبوة، وكتب له العصمة من قبل ومن بعد. وأظن الأستاذ منساقا في هذا وراء ما يقال: من أن يوسف إنسان لم تفارقه نوازع البشرية، فهو كما يميل أي إنسان، ويكاد يضعف كما يضعف أي إنسان. وأظنه كذلك بحسب الآية في ظاهرها هذا إذ قررت أن المرأة همت به، وأن يوسف هم بها. وليسمح لي الأستاذ أن أنبهه إلى أن هذا فهم سطحي غير سديد، درج عليه غير الدارسين لقواعد اللغة، والمتساهلون ممن فسروا هذه الآيات.
ولو أنه لم يتابع هؤلاء فهمهم، ونظر نظرة استقلالية إلى التعبير لرأى بادي الرأي - وهو القوي الإدراك لأسرار القرآن - أن هذا توجيه لا يرضيه، وأن المقام أسمى من ذلك، وأن نوازع البشرية في يوسف كانت مكفوفة بالزهاد الدينية على الأقل (فضلا عن العصمة) على نحو ما ترى وتقرأ عن الأتقياء فضلا عن الأنبياء، ولو أن يوسف كاد يضعف وأنه تحرج للحصافة والوعي والحذر لكان الموقف منه أمام الله موقف عتاب، لا موقف تبرئة وتزكية بقوله سبحانه وتعالى (إنه كان من عبادنا المخلصين).
وفي سياق الآيات وألفاظها المفردة ما يتسع للنظر والوصول إلى ما أبديت. ولولا أن صفحات الرسالة لا تتسع للتطويل لأوضحت: وصاحب الكتاب في غير حاجة مني لأكثر من هذه اللفتة؛ وحسبه أن يراعي الوضع الترتيبي لكلمة - لولا أن رأى برهان ربه - فأن موقعها بين كلمتي همت وهم - وأن يتذكر ما تدل عليه كلمة لولا، وسيجد نفسه أمام نفي قاطع لوجود الميل والهم من يوسف. وكفى.
ج - مضى ذلك الردح الطويل من تاريخ الإسلام وقضية إعجاز القرآن ناهضة تضاءلت بجانبها جهود الباحثين، كما تحطمت على صخرتها جهود العابثين، ولم نر ممن كتبوا وعنوا أنفسهم واحداً يَمنّ على الناس بما قدم لهم، أو يغض من شأن سابقيه، وكنت أحب للأستاذ قطب أن يدع للناس تقديره وأن يلحظ ما لحظه الأولون من انه فوق كل ذي علم عليم، وأن الأيام ستطلع علينا وعلى الناس بالجديد في كل شيء فلا يغمز الأوائل بالتجهيل أو القصور ونحن لا نبني إلا من الحصيات نجمعها من ساحاتهم الواسعة.
د - كان حرياً بالأستاذ سيد قطب مدرك لبلاغة القرآن ومفتون بسحره أن يشاكل بين مؤلفه وبين الكتاب العزيز فيبدأه بالتسمية ليرتفع به عن نمط الروايات وكتب التسلية التي تقرأ وتلقي لا تقرأ وتقتني في الموضع الكريم بين الكتب الكريمة.
هـ - وكان جميلاً في النهاية أن يضع للكتاب دليلاً يرشد الناظر فيه إلى موضع كل آية ببيان صفحتها حتى يسهل على من أحب الرجوع إلى آية بعينها أن يتعرف مكانها، دون أن يخالف النظام الشائع ويصب الكتاب صباً تحت عناوين الفصول فحسب. وبعد - فليتقبل الأستاذ ثنائي خالصاً، وشكري مضاعفاً، ولا عدمنا مثل هذه الجهود الطيبة النافعة.
عبد اللطيف السبكي
المدرس بكلية الشريعة
الفن والتاريخ فلم سلامة
أعرف أن من حق الفن أن يدخل على التاريخ ليبعث في وقائعه الحياة، وليلبس حوادثه ثوباً من الأناقة والطرافة يحبها إلى النفوس والقلوب. وليس للفنان القصص في القصد إلى. تاريخ إلا أن يجمع بين الحقيقة التاريخية تحمل أسانيد الواقع وصدق الرواية، والحقيقة الفنية بين الحوادث بالانسجام والروعة والجمال.
ولكني لا أعرف أن يكون من حق الفن أن يمسخ، وأن يجري بوقائعه على الهوى، فيغير الزمان والمكان، ويزورَّ الأشخاص والمشاهد، وينكر البيئة وما تقضي به، ويجهل الحوادث وما تؤدي إليه، فإنه حينئذ لا يكون فناً ولا تاريخاً، ولكنه يكون المسخ والتشويه والخلط والتضليل والشعوذة التي لا تصح في ذوق، ولا تليق بأي صفة من صفات الفن.
ولقد قدر لي أن أشهد فلم (سلاَّمة) الذي مثلته المطربة المشهورة أم كلثوم، وأخرجه السينمائي المعروف توجو مزراحي. وقصة سلاّمة في الأدب العربي القديم من أروع القصص، وهي بواقعيتها جميلة عنيفة تعالج كثيراً من الجوانب النفسية والخلجات العاطفية إلى جانب ما تحمل من طريف الرواية وحلاوة الغناء وروعة الجمال، وقد استهوت بعض الأدباء المعاصرين فعرضوا وقائعها في معرض الفن القصصي والرواية الطريفة وفيها ما فيها من روعة التحليل، فكتبها المرحوم الأستاذ محمود مصطفى في (مجلتي)، وجلاَّها المغفور له الأستاذ الرافعي في (الرسالة) آية من آياته الخالدة، ثم حبكها صديقنا الأستاذ أحمد باكثير حبكة قصصية نال بها الجائزة لإحدى المسابقات. فلما قيل إن أم كلثوم مثلتها، قلت: طاب الأصل والمثال، والتقى سحر القديم بروعة الحديث، وإنها لمتعة فنية من الواجب أن أدركها وأن أفوز بها على أي حال.
وقصدت إلى مشاهدة الرواية وسماع أغانيها، فليتني ما قصدت! لقد دخلت إليها ونفسي مفعمة بما أتمثل من سحر وجمال وروعة فن، ثم خرجتُ مكروب النفس آسفاً أن يبلغ عبث التجارة بالفن إلى هذا الحد السخيف، وأن تصبح مشاهد التاريخ ووقائعه ملكاً لهؤلاء المشعوذين يسخرون منها ومن الناس على هواهم، وعلى ما تدعو إليه بواعث الكسب التجاري، ومع هذا يأخذون الثمن الباهظ.
أول جريمة من جرائم التزوير في الرواية أنْ نَقَلّ (حضرة المخرج الأديب) مكانها من المدينة ومكة بالحجاز إلى الكوفة والبصرة في العراق، وفي هذا كذب على التاريخ، وفيه أيضاً جهل فاضح، لأن قصة سلامه ما كانت تطلع إلا في أفق الحجاز، وما كانت حياة الترف والدعة والسماع إلا ديدنهم في ذلك الوقت، على حين كان أهل العراق في فتن عاصفة وحروب طاحنة وحياة شديدة قاسية، وهذه حقيقة أحسب أن (المخرج) لا يدركها، ولكن ماذا تكون قيمة هذا (المخرج) في العلم بصناعته إذا ما نقل مشاهد المدينة العامرة إلى ربوع الصحراء الخالية، ومثل مظاهر أهل الحضر، في مواقع الوبر؟!
أما الجريمة الثانية فتتصل بشخصيات القصة، فقد كانت سلاَّمة على ما يحدث الرواة جارية مولدة، شاعرة متفقهة، تقول الشعر وتجالس العلماء، فأبى صاحبنا سامحه الله إلا أن يمثلها جارية من جلب رخيص، مبتذلة العاطفة والفن، تغني بلهجة مغربية غثة في إلحان تافهة كأنها ألحان (زفة العروسة)، وتعابير نازلة تعلو عليها تعابير أولاد القرية وهم في مزارع القطن ينشدون أناشيد (مقاومة الدودة)، فأنت تسمع فيها (الحب حلو وإلا حرّاق) و (سلام الله على الأغنام) و (غنى لي شوىْ شوىْ) وكثيراً من أمثال هذه السخافات. وأين هذا من تلك المقطوعات الشعرية العاطفية المنسجمة التي كانت تغنيها سلاّمة، والتي لو غنتها أم كلثوم لكانت لها مجداً خالداً في الفن، يضاف إلى ما بلغته من مجد.
وجاء (المخرج) - ولا أدري لماذا - بالشاعر عمر بن أبي ربيعه بين أشخاص القصة، وهو تزوير آخر على التاريخ، إذ لم يعرف أن سلاَّمة التقت به، وإن كانت هناك رواية تقول إنها التقت في المدينة بصاحبه ابن أبي عتيق.
وفي صلة سلاَّمة بحبابة وبجميلة، وفي كل شخص، وفي كل مشهد، تزوير على التاريخ، وكذب على البيئة، وخروج على روح الفن، وشعوذة رخيصة لا تساغ إلا في منعطفات الطرق كمشاهد (جلا جلا) وحلقات الحواة.
لماذا لا يريح الناس أنفسهم ويريحونا معهم، بعدم ذكر الفن والتعلق بهذا الحرم المقدس الذي وضع العلماء له القواعد والأصول، والذي يحتاج في مزاولته إلى علم ودراية وفهم وذوق. . .
أنا والله لا ألوم هذا (المخرج) في عبثه، لأنني أعلم تماماً أنه رجل لا يخدم الفن ولكنه يخدم جيبه، ولا يرضى الذوق وإنما يرضى خزائنه، فهو يقيس النجاح بمقدار الدخل واستغفال العامة وأشباههم، ولكن كيف تجيز له رقابة الروايات هذا البعث وهذا التلفيق يفسد به على التاريخ ويجني به على الذوق ويضحك به على الشعب المسكين؟!
ثم ماذا؟
قال صاحبي: إنها لا شك مؤامرة على أم كلثوم، قلت: ومن الأسف أنها أفلحت. .
محمد فهمي عبد اللطيف