مجلة الرسالة/العدد 62/من المدنية الإسلامية
→ أعظم حادث في حياة روسو: | مجلة الرسالة - العدد 62 من المدنية الإسلامية [[مؤلف:|]] |
الشخصية ← |
بتاريخ: 10 - 09 - 1934 |
الأرقام الهندية شرقية لا غربية
الأستاذ محمد عبد السلام البرغوثي
ثلاثة عوامل أساسية دفعت الإنسانية من حظيرة الهمجية التي رتعت فيها أجيالاً إلى مستوى المدنية الذي تتبوأ في يومها هذا. ولا تزال هذه العوامل دعائم مدنية الإنسان الثابتة وهي
(1) التقاليد الاجتماعية المتوارثة جيلاً بعد جيل، وقد انتهت هذه التقاليد بالعقائد الدينية الراسخة التي حولت وجه البشرية شطر المثل العليا.
(2) اللغة التي تطورت إلى آداب رفيعة سمت بالإنسان إلى مدارك الحياة العليا.
(3) العلم الذي توج بانتصارات باهرة سلمت للإنسان مقاليد الحياة.
ولقد كان هذا الشرق مهبط وحي الأديان الحنيفة التي خلصت البشر من ديجور الجهل وأنارت لهم سبل الحياة القويمة. وقدم هذا الشرق للعالم الحروف الهجائية فكانت واسطة تخليد آدابه الرفيعة واكتشافاته المجدية في مجاهل الحياة، ومفتاح ثقافة متماسكة مسرعة الخطى نحو الكمال. ومن قرائح أبناء هذا الشرق أخرج الله للعالم الدعامة الثالثة لصرح مدنيتهم هي - ألف باء الحساب - أسس العلم الحديث، فتم بذلك للإنسان ثلاث وسائل فعالة تتحد وتأتلف لتدفع به في سبيل القوة نحو غاية سامية قدرها الله.
لقد بلغت الحضارة الإغريقية شأواً بعيداً من السمو، ووضعت العقلية الإغريقية قواعد المدنية الأساسية، وخطت للبشرية معالم مدنيتها فكانت مبرزة في كل مضمار إلا في الحساب والجبر لعوزها الأرقام وهي اللبنات الأساسية في بناء هذا العلم.
ولو لم تزد الحضارة الإسلامية على تراث الإغريق سوى تلافيها هذا النقص الذي كان يعتريها لكفاها مأثرة وفخراً.
حوالي سنة 156هـ وفد إلى بغداد تاجر هندي يحمل مقالة في الرياضيات وأخرى في الهيئة. فكانت الأولى أول رسالة رياضية ترجمت إلى العربية ترجمها إبراهيم الفزاري بأمر من الخليفة. وكانت هذه المقالة على ما هو شائع ومتعارف تحوي الأرقام التسعة والعمليات الحسابية الأساسية. ولهذا كان للحساب عند العرب اسمان: (الهندي) وهو ما ك على الطريقة الرقمية الهندية، والأرتماطيقي وهو ما نسج على أسلوب الإغريق الخالي من استعمال الأرقام.
لعل أول إشارة إلى أصل هذه الأرقام، العالم سفيروس سيبوخت أحد أعلام مدرسة نيسابور على ما يظن في القرن السابع الميلادي، فقد جاء في كتاب له مؤرخ سنة 662م عن براعة أهل الهند في العلم ما يأتي: -
(. . ولا يتسع المقام لشرح ما كان للهند من حذق للفلك وبراعة في الاختراعات التي تفوق براعة الإغريق والبابليين. ونخص بالذكر طرق حسابهم للمقادير والكميات وتفوق كل وصف، وصفوة القول في هذا الصدد أن هذا الإحصاء والتقدير يتمان باستعمال علامات تسع). (فعلى من يعتقد من الإغريق أنهم قد بلغوا نهاية القصد في العلم أن يفقه ذلك ويدرك أن من الأمم غير الإغريق من ضرب في العلم بسهم وافر). أهـ
وعلى هذا كان الاعتقاد السائد في العالم العربي وفي أوربا طيلة القرون الوسطى أن الأرقام من أصل هندي. وقد نشر العلامة الفرنسي ووبوك في المجلة الآسيوية التي تصدر في باريس عام 1863 بحثاً مستفيضاً عن تاريخ الأرقام مرجعاً إياها إلى الأصل الهندي، فكانت كلمته فصل الخطاب في ذلك العهد.
وفي مستهل القرن الحالي أثيرت ضجة حول هذا الموضوع كان فرسان حلبتها وحاملوا لوائها ثلاثة من علماء الغرب الأعلام، أولهم كيس الأمريكي البحاثة في علوم الهند، والثاني كارادفو الفرنسي الحجة في تاريخ المدنية الفارسية، وثالثهم نيقولاوس بهنوف الروسي وهو ضليع في اشتقاق اللغة. وقد شك هؤلاء في صلة الهند بالأرقام، وقدم الأخيران فرضاً جديداً لتاريخ الأرقام.
نشر الأستاذ كيس عدة مقالات عام 1907 في المجلة الآسيوية في البنغال عن تاريخ الرياضيات في الهند. وكتب دفو بحثاً في مجلة سنة 1917 عن أصل الصفر. أما بهنوف فقد أخرج مؤلفين عام 1908 أولهما (استقلال الثقافة الأوربية في العلوم الرياضية) وقد ترجم إلى الألمانية عام 1918 وثانيهما (تاريخ الأرقام)
تصدى الأستاذ كيس في تحرياته إلى سبع عشرة لوحة نحاسية بها مخطوطات هندية يرجع تاريخها إلى ما قبل القرن العاشر الميلادي وتحوي أساس استعمال القيمة المنزلية للأرقام و الأرقام، وأثبت أنها جميعها مزيفة إلا واحدة مؤرخة سنة 867 م. أما أقدم مخطوطة هندية تحوي الأرقام العشرة فترجع إلى سنة 1050.
على هذا الأساس رفض كيس قول المؤرخين السابقين الذين ذهبوا إلى أن الأرقام كانت معروفة لدى الهنود منذ القرن الثالث للميلاد. ورد على من زعم بأن الفلكي الهندي وعاش في القرن السادس الميلادي هو مخترع الأرقام زعمه عليه.
كان ووبوك قد عرض في أبحاثه عن تاريخ الرياضيات إلى مخطوطات عربية جاءت على ذكر بعض مسائل حسابية كطريقة تحقيق عمليات الضرب والقسمة بإسقاط التسعات، ونعتها بالطريقة الهندسية. ولما خيل إليهأن هذه الأعمال حسابية بحتة ولا صلة للهندسة بها، قرر أن الكلمة مصحفة عن (هندية). أما كيس فقد استطاع أن يثبت أن شرح هذه الطرق الحسابية ممكن هندسياً وأنه كان فعلاً معروفاً لدى العرب. وعدا ذلك فقد تحرى جميع المراجع العربية التي عثر عليها فوجد أن معظم هذه المراجع لم يبحث فعلاً عن العمليات الحسابية بالطريقة المعروفة برغم أن عناوينها تشير إلى ذلك. فمن هذه المؤلفات وأقدمها مؤلف الخوارزمي الذي عثر على ترجمة لاتينية له عنوانها وليس فيها ما يشير إلى استعمال الأرقام غير هذا الاسم.
وقد عثر كيس على مخطوطات هندية جاء فيها نظام للأعداد التسعة دون الصفر يخالف النظام الآخر الذي وجد وفيه الصفر فرجح أن النظام الأخير جاء الهند من البلدان المجاورة في أزمنة متأخرة.
ومما قوى عزيمة كيس على إنكار نسبة الأرقام للهند أن الأعداد تكتب من اليمين، أما الكتابة الهندية فمن اليسار.
أما العالم الفرنسي دفو فقد كان أشد جرأة في رفض فضل الهند على الأرقام إذ قال إن مؤلفي العرب جروا في تسميتهم الأرقام الهندية على ما جاء في حادث الفلكي الهندي الذي وفد إلى بغداد في عهد المنصور وهي حكاية يراها هو أنها مدسوسة من علماء النساطرة والسريان نكاية في الإغريق الذين كانوا يتوخون التنقيص من فضل مدنيتهم، وإشارة سبوخت إلى ذلك واضحة في روايته التي مر ذكرها. وقد تناقض رواة هذه الحكاية في تاريخها: فالبيروني في مؤلفه (تحقيق ما للهند من مقولة) المطبوع بلندن سنة 1887 (ص 208) يسند هذه الحكاية إلى عام154 هـ ويشاركه في ذلك المسعودي في كتابه (مروج الذهب). أما القفطي صاحب طبقات الأطباء (ص177 طبع مصر) فيسندها إلى عام 156 هـ نقلاً الزيج الكبير لأبن الآدي. والمظنون أن البيروني المتوفى سنة 1038 م أخذ روايته عن المسعودي المتوفى سنة 943 م دون تحقيق لها، ونستدل على ذلك من اقتضابه هذه الرواية وعدم شرحها أو تمحيصها على خلاف ما عهد عنه من الإطناب والتمحيص في أخباره الأخرى عن أهل الهند.
ويجري دفو في حكمه على روايات المؤلفين العرب على طرفي نقيض من ووبوك إذ يرى أن كلمة (هندي) مصحفة عن هندسي في كتب الرياضيات العربية. ولقد برع العرب حقاً في تحقيق الأعمال الجبرية والحسابية هندسياً.
والعالم الروسي بهنوف بحث القضية من وجهة لغوية وذلك اختصاصه. وله في اشتقاق اللغة سبق. فلم يرتح إلى نسبة الأرقام إلى الأصل الهندي. ويذهب إلى أن مبدأ استعمال القيمة المنزلية للأرقام كان أولاً في (العداد إذ يقول إن بعض هذه العدادات كان يتكون من صفوف في كل صف حبات عشر كل واحدة تخالف الأخرى شكلاً وترمز إلى رقم من الأرقام العشرة الأساسية، وأن الأعمال الحسابية كانت ممكنة باستعمال هذه العدادات. ثم قلدت هذه الرموز كتابة فجاءت الأرقام على الصورة المعروفة. ويعتقد إن قدماء الإغريق واليونان استعملوا هذه العدادات بالرغم من عدم قيام أي حجة أو دليل يدعم مقولته.
إذا صح ما ذهب إليهبهنوف من أن الأرقام تطورت من العداد فمن المتعذر نسبتها للهند، لأن الهنود القدماء لم يثبت استعمالهم للعداد، وقد أخذ العرب هذه الآلة عن الفرس، وفي تسميتهم إياه (بالتخت) الدليل القاطع على ذلك.
لقد شهد الأستاذ كاجوري المؤلف المعروف في تاريخ الرياضيات بأمانة كيس في البحث وتوخي الدقة العلمية وعدم التحيز والمغالاة، والحقائق التي توصل إليها تضعف النظرية الهندية ولكنها لا تنقصها من الأساس.
أما العالم الفرنسي فقد ركب متن الشطط ومرق من أمانة العلم إلى خسة التعصب والأثرة. فقد ذهب إلى أن الأرقام من تراث المدنية الإغريقية انتقلت إلى الشرق عن طريق الثقافة الإغريقية فيما بين النهرين على العهد الفارسي، وأخذها العرب عن الفرس. بينما نقل الرومان هذه الأرقام إلى أوروبا، ولهذا تباينت هذه الأرقام شكلاً عند مختلف الأمم. وليس من باعث على هذا الاعتقاد الواهن إلا ما وقر في نفوس علماء الغرب من إعلاء شأن الثقافة الإغريقية ونعتها بما لا تستحقه من صفات، والحط من قدر الشرق واستهجان مدنيته. ولقد طمس هذا التعصب الخسيس مآثر المدنية الإسلامية إذ رماها بالتقليد والتقيد واللبس بينما قصر الابتكار والسمو والوضوح على مدنية الإغريق.
ومما لا ريب فيه أن الأرقام تداولتها أمم الشرق في العهد الإسلامي أجيالاً قبل أن تعرفها أمم الغرب، وعن العرب أخذتها أوروبا، ولا تزال تسميها بالأرقام العربية. فإن كان تداولها في القرن العاشر الميلادي على ما يقرر كيس فلا بدع أن هذه الأرقام نشأت في طرف من أطراف الإمبراطورية الإسلامية الشاسعة، ثم عمت هذه الإمبراطورية قبل أنم تعرفها أمم الفرنجة.
وللمستقبل أن يلقي شعاعاً على ما غمض من تاريخ هذه الأرقام ويردها إلى منبتها الذي فيه نشأت. وليس لعالم غربي أن يستأثر بهذه المبرة الشرقية في غفلة من الشرق وعجز عن التمتع بحقوقه كاملة غير منقوصة وويل من العلم لمن ينتهك حرمة العلم! هذا وفي فصل آخر سنأتي على انتقال الأرقام إلى أوربا.
محمد عبد السلام البرغوثي
مدير مدرسة حيفا الثانوية