مجلة الرسالة/العدد 62/حقائق التاريخ لا يمكن أن يطمسها التشريع
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 62 حقائق التاريخ لا يمكن أن يطمسها التشريع [[مؤلف:|]] |
سيدنا ← |
بتاريخ: 10 - 09 - 1934 |
صفد القلم، وصفدت حرية الرأي والفكر في مصر، في الأعوام الأخيرة، بأغلال وقيود شتى لم نعرفها حتى في أشد أيام الاحتلال؛ والتمس المشرع لصوغ هذه الأغلال والقيود مختلف المعاذير في مختلف الفرص؛ فتارة يقال لنا إنه يشرع لحماية النظم الأساسية للدولة من الدعوات والمبادئ الثورية، أو لحماية الحكومة والهيئات العامة من مطاعن خصومها السياسيين؛ وتارة يقال لنا إن سيل الأدب الملحد أو الماجن يكاد يطغى على الدين والأخلاق، فهو يشرع لحماية الدين والأخلاق؛ وكان التشريع يجري في هذه الحدود إلى ما قبل بضعة أعوام؛ وكنا نعتقد أن المشرع قد وصل في مختلف القوانين التي أصدرها إلى ذروة الشدة والتحوط لما يريد تحقيقه من الغايات السياسية والاجتماعية، وإنه لم تبق للقلم والرأي حريات حقيقية يستطيع أن يحد منها بعد؛ ولكن صدرت في الأعوام الثلاثة الأخيرة عدة قوانين جديدة للقضاء على ما بقى من مظاهر حرية الرأي والقلم، أولها قانون الصحافة المعروف، وثانيها قانون تحريم نشر الأخبار الجنائية والقضائية والإدارية إلا في حدود معينة، وثالثها قانون تعديل العقوبات الخاصة بجرائم النشر والسب والقذف، ودفعها إلى حدود لم يسمع بها من قبل، وأخيراً، في هذه الآونة، يقال لنا أن المشرع ينشط من جديد لفرض أغلال وأصفاد جديدة لا
على الصحافة وحدها، بل على ناحية أخرى هي عرض التاريخ أيضاً.
إذاً لم تنته حلقات هذه السلسلة المدهشة من قوانين وأحكام فريدة في شذوذها وشدتها، بل يراد أن تكمل بما يرى المشرع أنه نقص في حلقاتها حتى يكمل سحق البقية الباقية من هذه المظاهر الضئيلة التي يستطيع القلم المصفد أن يبدو فيها خلال هذه الخطوب التي تغمره؛ ويراد فوق ذلك أن يتناول التشريع الجديد ناحية علمية أدبية محضة كان المشرع يحوم حولها من قبل بطرق ونصوص غير مباشرة؛ ولكنه يزمع اليوم أن يتناولها صراحة وبطريقة مباشرة؛ فيفرض قيوداً خاصة على كتابة التاريخ، ويعاقب أولئك الذين يسمحون لأنفسهم بحرية العرض أو النقد في تدوين حوادث التاريخ أو تراجم أشخاصه.
ليس هنا موضع التحدث عن هذه القوانين من الناحية الدستورية أو السياسية فقد قتلتها الصحافة السياسية من هذه الناحية بحثاً ومناقشة؛ ولكنا نريد فقط أن نتحدث عن أثر هذا التشريع المنشود في سير الحركة الأدبية والمباحث التاريخية.
لا ريب أن هذا الحجر الجديد على عرض الحقائق التاريخية سيثير صعاباً علمية جمة، وسيكون ضربة شديدة لحرية البحث ونزاهته؛ بيد أنه لن يحقق الغاية التي يعقد عليه تحقيقها؛ وقد أشير إلى طرف من الأسباب التي تتخذ حجة لتبرير هذا الحجر، فقيل إنه قد ظهرت في العهد الأخير كتب ومباحث تاريخية بها مطاعن ومثالب في حق بعض الأمراء السالفين ورؤساء الحكومات الأجنبية الحاليين، واتخذ العرض التاريخي شعاراً لهذا التجريح؛ وأنه يجب أن يوضع حد لذلك. وجوابنا أن حقائق التاريخ لا تتجزأ، والمؤرخ المحقق لا يمكن أن يتقيد في سرد هذه الحقائق إلا بالمراجع والأسانيد والوثائق، ولا يمكن أن يخضع لغير ضميره ومقتضيات الحق والنزاهة. وحياة الذاهبين من الزعماء والقادة ملك التاريخ، لا سلطان لإنسان عليها غير سلطان العلم؛ فالتوسل بالتشريع إلى طمس الحقائق التاريخية تدخل غير مسوغ في حرية العلم والبحث، وتجن على الحقيقة لا يخلق بعصرنا عصر العلم والحقيقة والنور.
والحجر على حرية البحث والكتابة على هذا النحو يلقى سحباً من الشك على قيمة الكتب والمباحث التي تصدر في ظله حتى ولو كانت جديرة بالتقدير؛ ومن المستحيل أن تنقلب المثالب إلى مناقب بقوة التشريع؛ والعلم ليس له اليوم حدود ولا وطن، فإذا استطاع المشرع أن يصفد الأقلام في مصر، فليس في وسعه أن يصفدها في أي أرض أخرى؛ وأرض الله واسعة. والتاريخ يكتب بكل اللغات الحية؛ وهذه اللغات تقرأ في مصر، كما تقرأ في غيرها. هذا إلى أن ما لدينا اليوم من الكتب والمباحث في الميادين والموضوعات التي يراد حمايتها بقوة القانون يلقى عليها ضياء لا يمكن أن تطمسه أية قوة أو بطش.
كان لويس الخامس عشر يعتبر حتى عصرنا أشنع مثل للملكية الظالمة الباغية المسرفة؛ وكانت النشرات القاذفة تنثال عليه إبان حياته من أقلام قاسية لاذعة كقلم فولتير؛ فكان الباستيل مأوى القاذفين؛ ولكن هل استطاع الباستيل وكل ضروب البطش والمطاردة الأخرى أن تخمد الصيحات المنبعثة أو تطمس الحقائق الثابتة في هذه الحياة الفياضة بالإثم والبغي؟ ومع ذلك فقد وجد في أيامنا من كتاب التاريخ من يذهب في سيرة هذا الملك رأياً آخر، ويقول إن التاريخ قد ظلمه، وأنه كان في أخطائه ومثالبه دون ما يصوره بكثير.
وكانت لوكريزيا بورجيا ابنة البابا إسكندر السادس تعتبر حتى عصرنا أشنع مثل للأميرة الفاجرة التي تضطرم بأوضع الأهواء والشهوات، وتنحط إلى أسفل درك من الرذيلة والأثم، فجاء أخيراً مؤرخ بارع هو العلامة فونك برنتانو، وأصدر كتاباً عن حياة هذه الأميرة، وفيه يصورها لنا امرأة عفيفة فاضلة، ويدفع عنها كل الجنايات والآثام التي نسبت إليه. وكان الباستيل يعتبر حتى عصرنا أروع سجون التاريخ فجاء فونك برنتانو أيضاً يقول إن الحياة فيه كانت ناعمة، وكانت تنتظم بين جدرانه القاتمة جميع مجالي اللهو والأنس والترف.
والخلاصة أن التاريخ ملك البحث الحر وملك الزمن، فاتركوه يجر مجراه الحر؛ وثقوا أن من المحال أن يحول التشريع دون ظهور الحقائق غير المرغوب في ظهورها؛ فللتاريخ مسمع جاد يصل إلى ما وراء الجدر، وبصيرة ثاقبة تنفذ إلى أعمق الظلمات. وإنما تطلب الحماية للحقيقة لا لغيرها.
(مؤرخ)