مجلة الرسالة/العدد 619/البريد الأدبي
→ ذلك الصوت! | مجلة الرسالة - العدد 619 البريد الأدبي [[مؤلف:|]] |
الكتب ← |
بتاريخ: 14 - 05 - 1945 |
في مدرج كلية الحقوق بجامعة فؤاد
دفعني حب الاستطلاع إلى مشاهدة مناقشة رسالة الأستاذ (أنور مصطفى الأهواني) في يوم السبت الماضي عن (رئيس الدولة في النظام الديمقراطي) التي تقدم بها إلى (كلية الحقوق) بالجيزة. ولطالما تاقت نفسي - بعد أن طوفت ما طوفت في جامعات لأوربا وشهدتُ مناقشة رسائل عدة بها - إلى أن أحضر نقاشاً في جامعة مصرية يكون فيها المحتكمِ والمحتكَم إليه من المصريين. ولقد تركت أحسن الثر في نفسي تلك الساعات القليلة التي قضيتها في مدرج كلية الحقوق أستمع إلى الحوار الذي دار بين أعضاء لجنة التحكيم وبين مقدم الرسالة. وراعني حقاً حرص المحكَّمين جميعاً على الفصل بين العلم والسياسة، وإيثارهم التفرقة بينة لغة الكتب ولغة الصحف، وأن يكون النقاش كله بالعربية الفصحى وإن رأت لائحة الكلية غير ذلك
وكان يسود الجلسة روح من المرح والإفادة، وكان يغشاها جلال العلم ورهبته لولا ما تخللها من تصفيق استحسان أو قهقهة استملاح. وحبذا لو عمل رؤساء لجان التحكيم على أن يظل للعلم حرمته ولقاعة المباحث ما لا يذهب بقدسيتها ويصيرها سرادقاً يضم خطباء ومعجبين.
ولقد أظهرت مناقشة المحكمين للرسالة دراستهم إياها دراسة مستفيضة وإلمامهم بموضوعهم إلماماً تاماً، ودلت على غزارة مادتهم واطلاعهم على ما كتب الأعاجم، ولا غرو فمن بحرهم نهلوا أو عليهم تتلمذوا. وعندي أن لو هيئ لهذا الشباب الناهض من الأساتذة، مجال العمل وإيقاف النفس على العلم وحده دون تطلع إلى مناصب القضاء أو الإدارة لأتي بأطيب الثمرات، ولأنجبت مصر مئات من عبد الحميد بدوي وأحمد ماهر
وكان غريباً أن يطلب إلى المرشح أن يذكر ملخصاً لأطروحة باللغة الفرنسية، ولا أكتمك أنني أحسست عند ذاك يخدش في عزتي القومية، وتساءلت كيف نكون في جامعة مصرية، وبين أساتذة وطلبة مصريين تُنَاقَشُ رسالة مصرية بلغة أعجمية؟ ولم يذهب بدهشتي إلا قول جار لي إن لائحة الكلية تجيز ما كان. إلا أنه إذا صح لِلاَّئحة أن تجيز ذلك أيام أن كنا فقراء في العلماء وكان الأساتذة الأعاجم يشتركون في مناقشة الرسائل، أو لا يجدر بنا أن نغفل هذا الأمر اليوم بعد أن توفر بيننا العدد الكافي من المحكمين المصريين؟
ثم أعود فأقول إن من صواب الرأي أن يؤذن للطالب بالحديث والرد وهو جالس لا أن يترك أكثر من ساعة واقفاً كالخطيب يستند على إحدى قدميه تارة وعلى الثانية أخرى. إن المرشح يكون في حال نفسية تتطلب أن توفر له أسباب الراحة، ولن يكون هذا بتركه يلقي ملخص رسالته وهو واقف والكرسي بجانبه. ولعل إدارة الكلية تفكر في أن تضع ثلاثة مصابيح ثابتة على منصة المحكمين أمام كل عضو مصباح حتى لا يتكرر ما تكرر في الجلسة التي نكتب عنها مما ذهب ببعض جلالها
وبعد، فلقد كان الدكتور سيد صبري بارعاً في محاجته للطالب وإن ظهرت عليه روح التحامل الخطابة أحياناً. وكان بارعاً كذلك في دفاعه عن نفسه وتنصله من أنه (يميل إلى الحلول الوسطى) أو (أن بعض العبارات في كتبه غامضة) وكانت روح الدعابة التي مزج بها نقده تخفف على الممتحَن بعض ما لقي منه.
أما الدكتور وحيد رأفت فكان حواره حوار العالم الذي لا يرمي من وراء مناقشته إلا إلى الوصول إلى الحقيقة وإرشاد المخطئ إلى مواضع خطئه. وكان التزام سبيل المنطق في الإقناع أكبر عون له في بلوغ غايته؛ وألبست نبرات صوته المتزنة الهادئة الجلسة جلالا فوف جلالها؛ فكان الكل آذاناً صاغية له.
وكان صديق الدكتور عثمان مثلاً للشباب الحي. ولقد برهنت مسايرته الطالب في المناقشة متتبعاً الرسالة صفحة صفحة على أنه (قتلها بحثاً) ولو كنت ذا إمْرَة لأذنت لعضو اليسار بأن يكون البادئ في المناقشة؛ فهو عادة أحدث المحكمين سناً، وأنَّ سّبْقه بغيره يفوت عليه كثيراً من نقده.
ولو أن الدكتور عثمان التزم اللغة العربية الفصحى في مناقشة لكان لحواره شأن آخر. وليت شعري لماذا كانت تبدو عليه إمارات الغضب والتألم وهو يعد المآخذ على الرسالة؟ إن كان المصنف قد أسرف في الاقتباس إسرافاً حوّل الرسالة إلى (ملخص) مدرسي، فكيف أذنت له الكلية في طبعها؟ كيف أذنت في أن يحمل أسمها كتاب ليس لواضعه فيه إلا الجمع والتوقيع؟
عبد العزيز برهام إلى الدكتور جواد علي
قلت في السطر الرابع من العمود الثاني من مقالك القيم (أبو سعيد أبو الخير وشطحات المتصوفة) في عدد الرسالة السابق 618 ص473: (وأبو سعيد. . . . . . كان على رأي أكثر المتصوفة الفرس في مذهب الحلول ووحدة الوجود بل كان من متطرفي أصحاب هذا المذهب في هذه العقيدة).
وأقول إن ثمة فرقاً كبيراً بين مذهب الحلول ووحدة الوجود حتى إنه لا يحق لنا أن نجمع بينهما ونقول إن أبا سعيد كان من أتباعهما معاً. إن المذهب الأول اثنيني يقول بطبيعتين مختلفتين: إلهية وبشرية، يمكن للأولى أن تحل في الثانية إن تحققت شروط معينة، ويتضح هذا المذهب خير ما يتضح عند الحلاج الذي قد تأثر ولا شك بفكرة المسيحيين عن اللاهوت والناسوت.
أما المذهب الثاني فمذهب وإحدى يقول بحقيقة واحدة كلية لها تعينات هي الحقائق على اختلافها. الكل هو التعينات والتعينات هي الكل وهذه وتلك هي الله. ويتضح هذا المذهب خير ما يتضح عند ابن عربي.
هذا الخلط بين مذهب الحلول وحدة الوجود قد وقع فيه من قبل زكي مبارك مع أنه قد ميز بينهما في هامش كتابه التصوف الإسلامي.
وإذا كان الأمر كذلك فإني أسأل الدكتور أن يجيبنا: من اتباع أي المذهبين كان أبو سعيد) ولكم الشكر.
حسن علي الحلوة
إلى الأستاذ محمد يوسف موسى
قدم الأستاذ محمد يوسف موسى كتابه (ابن رشد الفيلسوف)
إلى الأستاذ أحمد عاصم بك المدير العام لدار الكتب المصرية
فأرسل إليه هذا الكتاب.
شكرتك من قبل على هديتك العلمية القيّمة، كتابك عن (ابن رشد الفيلسوف)، والآن وقد قرأته أكثر من مرة، أرى من حق هذا السفر المتع أن ابعث إليك بكلمة تعبر عن مدى تأثيره في نفسي.
لقد كنت إلى عهد غير بعيد اشعر بشيء من الضجر كلما وقع في يدي كتاب في الفلسفة أو عن الفلاسفة، وكنت ألمس مثل ذلك الشعور في إخواني لا أشك في مقدرتهم العلمية، وكان هذا الملل يتطور أحياناً إلى درجة (النفور) من الفلسفة، حتى حملني ذلك على تلمس السبب في هذا الشعور المشترك بيني وبين من أعرفهم من صفوة المثقفين المفكرين، فلم أجد لذلك سبباً إلا ما يتوخاه بعض من يكتبون في الفلسفة من طرق معقدة كثيرة الغموض والدوران، توحي أحياناً بأن المؤلف نفسه لا يملك ناصية مادته، ولا يستطيع صوغها في القالب السهل الواضح الذي يجنَّب القارئ الحيرة، ويشبع أطماعه ويحبب إليه ما يقرأ.
ولكني قد لمست الآن والله الحمد تطوراً عظيماً في أسلوب الكتابة في الفلسفة، يبشر بعصر مزدهر في حياة هذه المادة، فهي لا يعوزها غير إقبال القراء عليها، والمؤلفون وحدهم هم الذين يملكون هذا التيسير. فإن قلت لك إن كتابك حملني على قراءته عدة مرات، علمت بعد هذه التوطئة التي سُقتها مبلغ تأثيره في نفسي، ومدى إعجابي به وبأسلوبه.
وإني لأرجو مخلصاً أن ينسج الكتَّاب على منواله، كما أنني شديد التفاؤل ما دامت قد قامت الآن فلسفية يحمل علمها جلَّة من العلماء المعاصرين، وفي زمرتهم الأستاذ صاحب (ابن رشد الفيلسوف). ولا شك في أن للأزهر وأبنائه فضلهم العظيم في أحياء هذه النهضة التي ترمي إلى تيسير فهم الفلسفة على غير الفلاسفة، وإثبات أن الدين والعقل متلازمان لا تنافر بينهما، فينصف بذلك أمثال ابن رشد والفاربي وابن سينا وغيرهم على يد الأزهر وفلاسفة الأزهر. لهذا غمرتني موجة من الغبطة حينما رأيتك وقد وفيت موضوعك حقه، وأعطيت ما لله لله وما لقيصر لقيصر، ويسعدني ما اشعر به من أن السواد العظم من الناس ستطمئن نفوسهم إلى الفلسفة وهم يرون الأزهر يحمل شعلتها.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المخلص أحمد عاصم
20 - 5 - 1945
نقل مبتور عن ابن تيمية
نشر الدكتور جواد على تعليقاً على ما كتبه معالي مصطفى عبد الرزاق باشا عن الفيلسوف أبي سعيد أبي الخير، وقد عرض الدكتور في نهاية كلامه ابن تيمية، إذ نقل كلاماً مبتوراً من رسالته الأولى، ونسبَه على هذا البتر إلى ذلك الشيخ الجليل فكانت فيه وقفة للقارئ. وإليك ما كتب الدكتور، واستشهد عليه بالنقل المبتور:
(ومتى خصص الإنسان كل قواه وحصر كل حواسه في الوجود الحقيقي، بحيث اتصل به اتصالاً كلياً أدرك عندئذ - عين اليقين - ومتى وصل الإنسان إلى هذه الدرجة من المعرفة اتصل اتصالاً مباشراً بالمعرفة. . . فلا حاجة إلى نبوة أو وسيط، لأنه يأخذ من حيث يأخذ الملك الذي يأتي الرسل)
وقد نسب الدكتور هذا التعليل المحجوز بين حاجزين إلى الإمام ابن تيمية، دون أن يبين لنا: أهو يحكي هذه الفقرات عن غيره، أم هو يقرر فكرة يراها ويستشهد لها؟ والقارئ لما نقل عن ابن تيمية على هذا الوجه يفهم فهماً أولياً أن ابن تيمية ممن يرون الاستغناء عن النبوة لمن يسمون أنفسهم (متصلين) مع أن هذا الإمام رجل يقظ لم يتخبط في دينه على هذا النحو، وقد ذكر هذه الفقرة في كلام طويل ينكر فيه تلك الفكرة، ويشنع على القائلين بها، ويجرح فهمهم وتعليلهم الذي استشهد به الدكتور على صحتها. وينزه ابن تيمية في كلامه الطويل أصحاب الرسول (ص) واتباعه عن القول بمثل هذا التحريف، فإيراد هذه الجملة مبتورة عما يتصل بها ليس من أمانة النقل، ولا من الإنصاف في عرض المسائل الخلافية، فضلاً عما فيه من إثارة الحفيظة الدينية نحو ابن تيمية، وتصويره للناس في صورة جماعة هو من خصومهم. وليرجع من شاء إلى صفحة 20 من الرسالة الأولى لابن تيمية، ليعلم الفرق بين الأصل والنقل وكفى
عبد اللطيف السبكي المدرس في كلية الشريعة