مجلة الرسالة/العدد 618/دار الترجمة ونهضة مصر الثقافية
→ نهاية دكتاتورين! | مجلة الرسالة - العدد 618 دار الترجمة ونهضة مصر الثقافية [[مؤلف:|]] |
إلى حامي الإسلام. . . ← |
بتاريخ: 07 - 05 - 1945 |
للأستاذ سيد قطب
قرأت مقال الأستاذ صاحب الرسالة عن (دار الترجمة) في العدد الأسبق من الرسالة، ذلك الذي يقول فيه:
(والغريب المخجل أن المرء يقرأ أي نابغة من نوابغ العالم في أي لغة من لغات التمدن إلا في اللغة العربية. فالتركي مثلاً يستطيع أن يقرأ في لغته هوجو كله، وشكسبير كله، وجيته كله، ولكن العربي لا يجد في لغته لهؤلاء العباقرة العالميين إلا كتاباً أو كتابين اختارهما مترجم على ذوقه، ونشرهما على حسابه!)
(فإذا أردنا يا معالي الوزير لأدبنا أن يتسع في حاضره كما اتسع في ماضيه، فليس لنا اليوم غير سبيل الأمس: نرفده بآداب الأمم الأوربية، ونصله بتيار الأفكار الحديثة؛ فإن لكل أمة مزايا، ولكل بيئة خصائص. ولن يكون أدبنا عالمياً ما لم يلقح بآداب العالم؛ والمحاكاة والاحتداء من أقوى العوامل أثراً في الأدب) قرأته فإذا هو (يشخص) موقف المكتبة العربية الراهن من الثقافة العالمية تشخيصاً صادقاً صحيحاً. ولا يكتفي بهذا (التشخيص) بل يصف طريق العلاج، ثم يتجاوزه إلى وصف الدواء فيقول:
(لذلك أرى - ورأيك الأعلى - أن تنشأ دار للترجمة مستقلة عن ديوان الوزارة، يكون لها من جلالة القدر ونباهة الذكر ما للجامعتين، فأنها على اليقين ستكون جامعة شعبية لا تقل عنهما في الخطر والأثر، أو قل: إنهما الميدانان المتقدمان وهي مركز التموين الذي يمدها بالميرة والذخيرة والمدد. ثم يختار لها مائتان من المترجمين النابغين في لغتهم وفي اللغات الأوربية الثلاث، ينقلون الآداب الأجنبية نقلاً كاملاً صحيحاً، فلا يدعون علماً من أعلام الأدب والعلم والفن والفلسفة إلا نقلوا كتبه ونشرها على حسب ترتيبها وتبويبها في طبعاتها الأصلية. (هذه الدار ستنقل إلى العربية كل يوم أربعمائة صفحة مصححة منقحه مهيأة للنشر، قد تكون كتابين أو كتاباً أو جزءاً من كتاب على حسب النظام الذي يوضع لها. فإذا فرغت من ترجمة الموجود فرغت لترجمة المستجد، فلا يكون بين ظهور الكتاب في أوربا وظهوره في مصر إلا ريثما يترجم هنا ويطبع. أما نفقات الدار فلا تزيد على مائة ألف جنيه، وقد تنقص إلى نصف ذلك إذا ساهم فيها الأمراء والأغنياء وجامعة الدول العربية).
لقد استطردت في الاقتباس من كلمة الأستاذ، لأنها واضحة دقيقة وافية، تحيل ذلك الحلم الضخم عيانا منظوراً، وتحول هذا المشروع الكبير حقيقة مستطاعة. استطردت في الاقتباس لهذا، ولسبب آخر يعنيني!
فالواقع أنني استرحت لهذا التفاؤل الذي يشيع في كلمة الأستاذ بعد أن بلا من مصر ما بلا في هذه السنين الطوال. وبعض هذا البلاء كاد يردني أنا الشاب إلى اليأس من كل رجاء!. . . إلى اليأس من تنفيذ أي اقتراح إنشائي يكلف المسئولين تغيير (الروتين) اليومي، والأقدام على المشروعات الضخمة التي لا تسير على مثال سابق، ولا تطرد على وتيرة معروفة. إن (السوابق) هي التي تحدد طريقة العمل واتجاهه في الديوان!
وكثيراً ما ابتلع هذا (الروتين) البغيض شخصيات حية مجددة تملا الدنيا ابتكاراً وتجديداً وهي خارج (القفص الذهبي) حتى إذا آوت إليه لفها الدولاب، وابتلعها الجو العام، وعادت (موظفين). أي آلات تسير سيرة الآلات!
فإذا ظل الرجاء يداعب رجلاً مجربا كالأستاذ الزيات، فذلك شعاع مضى يعشوا إليه أمثالنا من الشبان. وعجيب أن ينبع الأمل من نفوس الشيوخ وأن يتسرب منها إلى نفوس الشبان، في هذا الزمان!
في وقت من الأوقات كان في وزارة المعارف مشروع مهيأ لترجمة (شكسبير) وكان مقرراً أن يسند إلى أديب كبير يوثق بحسن قيامه على هذا العمل الضخم. ثم ماذا؟ ثم تغيرت الظروف السياسية، فطوى المشروع، لأن الرجل الذي اختبر له لا (ينسجم) مع القائمين بالحكم في ذلك الأوان!
وفي وقت من الأوقات كان في وزارة المعارف أديب كبير جم النشاط متعدد الجوانب، وكان للترجمة مشروع يقرب من مشروع الأستاذ الزيات، تقدم به كاتب السطور، وقيل له: إن المشروع موضع النظر والتفكير، ثم صب على الرجل سيل من أعمال (الروتين) فغرق وقته كله، حتى تغيرت الأحوال.
وفي وقت من الأوقات كان على رأس وزارة المعارف وزير يشتغل بالتأليف وبالترجمة أيضاً. وكان المنظور أن يصنع شيئاً في هذا المجال. ولكن عجلة (الروتين) (وتوزيع الدرجات) قد استغرقت وقته مع المقابلات والوساطات والرجاءات. . .!
وفي كل وقت مثل، وفي كل عهد نموذج. وأسباب التسويف كثيرة، و (القفص الذهبي) لا يسمح بالتحليق والطيران!
لا أريد أن أثبط عزيمة أحد، ولا أن اطفي الآمال في صدر أحد؛ ولكني أحب أن أصارح الأستاذ المتفائل: إنني قليل الرجاء في الدواوين. وإذا أسعدنا القدر في وقت من الأوقات بوزير يقدم على عمل إنشائي كهذا العمل الجليل، فالتقلبات السياسية بالمرصاد. ولا بد للوزير الجديد أن يجدد، وأن يبدل؛ ولا بد أن يجد من كبار المسئولين موافقة إجماعية على التجديد والتبديل، كالتي لقيها سلفه سواء بسواء! أجل لا بد أن ندور في هذه الحلقة المفرغة مادام (الروتين) هو الروتين؛ ما دامت (السوابق) هي التي تحدد الاتجاه؛ ما دامت روح الابتكار محصورة في هذه الحلقة المفرغة على توالي الأجيال. لقد قضينا الآن أكثر من عشرين عاماً منذ حصلنا على نوع من الاستقلال، نغير ونبدل في مناهج التعليم، فلم يتعد التبديل والتغير طوال مدة الدراسة وقصرها وتوزيع المواد المقرة على السنوات الدراسية، وتوزيع الموظفين على المناطق أو حشدهم في الديوان، وتوزيع الدرجات على أساس أقدمية التخرج أو أقدمية التعيين أو أقدمية الدرجة. . . إلى آخر هذه الدورات التي لا تنتهي في الحلقة المفرغة المضروبة! لم نفكر في تغيير النظام المدرسي كله، ولا تجديد عقلية التعليم أو على الأقل تغيير طرق الدراسة. لم نفكر في (النموذج الإنساني) الذي نريد أن نصل إليه بالتلميذ، لنستطيع رسم الوسائل والأدوات. بل لم نؤلف (مكتبة التلميذ). فهل تريد يا سيدي أن نؤلف (مكتبة الأجيال)؟. ألا ما أحلى الآمال!
أما لئن استطاع وزير المعارف الحالي أن يقهر الماضي كله وأن يقتحم العقبات جميعاً، وأن ينفذ اقتراح الأستاذ الزيات فليكونن أكبر ميدان في العاصمة أصغر من أن يتسع لتمثاله الخالد. إنه يكون واضع أسس النهضة وضامن بقائها أجيالا طويلة. إن النهضة الثقافية في مصر مودعة بضعة رءوس كبيرة، ولكنها فانية - مع الأسف - فلئن أودعت بطون الكتب، ليكونن هذا طريقها للخلود، ولتضمن لصاحبها كذلك الخلود. وعندئذ نستطيع أن نحرر برامجنا المدرسية من ثير اللغات الأجنبية في سن مبكرة، ومن مزاحمة هذه اللغات للغة القومية في عهد التكوين. وهي مشكلة تواجه واضعي البرامج عندنا، وتصطدم بقواعد علم النفس والتربية المقررة. وعندئذ يصبح تعلم اللغات ضرورة لمن تستدعي الضرورات العملية في الحياة أن يتعلموها، وتصبح المكتبة العربية مصدر ثقافة عالمية ككل المكتبات العالية هذا أمل، وأمل كبير. وما علينا أن نرجو في تحقق الآمال؟
سيد قطب