مجلة الرسالة/العدد 618/البريد الأدبي
→ ريح الشمال. . . | مجلة الرسالة - العدد 618 البريد الأدبي [[مؤلف:|]] |
بقيا حلم ← |
بتاريخ: 07 - 05 - 1945 |
حول المدرسة الرمزية
سيدي الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد:
لست أريد من هذه الكلمة القصيرة التي شرفها أنها موجهة إليكم، إلا
أن أذكر لسيدي الأستاذ أن الجملة الأخيرة التي أنهى بها مقاله عن
(المدرسة الرمزية) في عدد سابق، هي نفسها ما ظللت أشعر به منذ
سنين، آن ملت إلى الرمزية أنصفها وأنقذها من أيدي من كفانا الأستاذ
الكريم عناء وصفهم ولله الشكر. . . فلقد لمست بيدي ضرورة الإيمان
بأن (ميزان الصدق في هذا المذهب أن يكون الرمز ضرورة لا اختيار
فيها). . . وأن يكون الإيحاء (لتقريب المعنى البعيد لا لإبعاد المعنى
القريب). . . أي وربي. . . ولا أخفي على الأستاذ أني ما شعرت
بهذا إلا من كثرة ما أغوص في نفسي الحزينة المتألمة، حيث أقف
على كل عاطفة، دقيقة وغير دقيقة، وكل معنى، واضح أو مبهم، فأذهل
في هذه المرحلة التي أسميها مرحلة العواطف، وأشعر أني في جو
جديد، أنصت للهمسات المتشردة، وأرنو إلى ألوان متتابعة. . . حتى
يأتيني هيجان النظم، فلا أقنع بما دون الحالات كلها وأجرب وصفها
وتصورها. . . فأضطر إلى أن أغالي. . . فأغالي. . . وما العمل؟
وأصبح لا أريد من الرمزية إلا الوقوف على هذه الحالات الدقيقة،
مردداً في كل مناسبة هذه الجملة التي كادت تكون تسبيحي: (إذا
الرمزية لم تأخذ على عاتقها إجلاء غوامض النفس فحري بها أن لا
تكون. . .) غايتي إذاً في الرمزية هو التعبير عن هذه الدقائق النفسية التي لا ريب قد شعر بها القارئ كل أو بعض الشعور، والتي يمكن على كل حال إحياؤها فيه. . . ووسيلتي - وهي أيضاً غاية بعض الرمزيين المنصفين - ليست الغموض وحده ولا الوضوح وحده ولكن تعانق هذين اللونين اللذين نجدها - كما يقول صديقنا الأستاذ بديع حقي - في كل شيء ضمته هذه الحياة، هذه الحياة التي هي نفسها تعانق وضوح وغموض. . . نعم صديقنا بديع - وهو أكثر ما أراه ميالا إلى الغزل وإلى وصف الطبيعة في شعره الرمزي - يريد أن تكون الرمزية صورة هذه الحياة. . . وله الحق. . . ولكن أنا. . . لا أريد من الرمزية إلا التعبير عن هذه العواطف الدقيقة وتلك المعاني المهمة بأسلوب يقتضيه الحال، فنكون بذلك قد خدمنا الأدب الرمزي خاصة والأدب العربي عامة. . . وأنا أقول هنا الأدب العربي لأن الأدب العربي لم يجهل قط في عصر من عصوره الإسلامية هذا النوع من النظم!! واليوم، يجب أن لا ننظر إلى الرمزية بعين الازدراء أو التعصب فنعدها خروجاً عن الأدب أو مفسدة للذوق الفطري الأدبي أو غير ذلك: ولكن يجب التعقل فيها!. نعم، نحن ورثنا عن القدامى رمزيات عديدة كتلك التي رمز إليها أستاذنا آنفا أو. تلك التي أسعدني الحظ ففصلتها في بحث يطول الآن اختصاره، قدمته لمباراة أبي العلاء التي أقامتها مجلة (الأديب) الغراء في السنة المنصرمة. . . فكان والحمد لله من الفائزين: وقد تبين لنا فيه أن المعري رمزي صوفي، لم يدفعه إلى الرمزية إلا تصوفه. . . وغير ذلك. . . ولكن يا حضرة الأستاذ ألا ترانا بحاجة إلى تجديد هذه المفاهيم الصوفية الرمزية العربية؟ إننا اليوم نرمز ونحن بعيدون عن التصوف بعد الأرض عن السماء، أفلسنا بحاجة إذاً إلى رفع لواء الرمزية الحقيقية حيث يكون (الرمز فيها ضرورة)
سيدي الأستاذ، أنا قد آمنت بهذه الرسالة التي يجب أن أحمل مشعلها في الأدب الحديث، باثاً هذه المفاهيم الشاقة الشيقة التي وجدت أيضاً (جذورها) عند منصفي الرمزية الفرنسية: عند (مالرمه) - وخاصة مالرمة هذا - و (فرلين) وقليلاً عند (رمبو). . وأنا اليوم أنظم على منوال مفاهيمي هذه التي رمزت إليها فوق، والتي أحب، بعد هذه الكلمات، أن أسمع أستاذي بعض ألحانها. . . فهل يتكرم الأستاذ فيبدي فيها رأيه، بعد ما أتيحت لي هذه المناسبة السعيدة التي تجعلني أومن كل الإيمان بأن (الرسالة) هي تاريخ هذا العصر الأدبي المضطرب. . . وبعدما طمعت - والشباب كله طمع وأمل - في جودكم المعهود الذي يجعلكم لا تضنون برأي على قريب ولا بعيد. . .
فالقصيدة، وعنوانها (بقايا حلم) جربت فيها تصوير هذه الفترة الدقيقة التي تمر على كل إنسان في ساعات أحلامه: فيندفع وراء الأوهام باسماً فرحاً، بوعي وبغير وعي. . . فتحمله. . . وأواه. . . لا تحمله إلا إلى خيبة، إلى حزن، إلى قبور جامدة فيقف قائلا لنفسه: