مجلة الرسالة/العدد 618/أبو سعيد أبو الخير وشطحات المتصوفة
→ صلوات فكر في محاريب الطبيعة! | مجلة الرسالة - العدد 618 أبو سعيد أبو الخير وشطحات المتصوفة [[مؤلف:|]] |
من تاريخ الأدب الفرنسي ← |
بتاريخ: 07 - 05 - 1945 |
للدكتور جواد علي
علق معالي الأستاذ مصطفى باشا عبد الرزاق في كتابه القيم (تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية) على اسم أبي سعيد أبي الخير، وفي أثناء عرضه لرأي المستشرق (تنمان) , بهذا التعليق: (لم أجد ذكراً فيما بين يدي من مراجع البحث لأبي سعيد أبي الخير، لكن يوجد أبو سعيد احمد بن عيسى الخراز نسبه إلى خرز الجلود من القرب ونحوها من أهل بغداد، وقد ذكره صاحب كتاب (التعرف لمذهب أهل التصوف) وقال السيد مصطفى العروسي في حاشيته على شرح لرسالة القشيرية (هو شيخ الطائفة غير أنه توفي على الأرجح سنة 280 هـ (899م) وذلك يمنع أن يكون المراد بواضع علم التصوف قبل القرون الثاني أو في ثناياه).
ثم استمر معاليه قائلاً: (على أن الأستاذ ما سنيون ذكر في كتابه (مجموعة نصوص لم تنشر متعلقة بتاريخ التصوف في بلاد الإسلام) ص87 أبا سعيد بن أبي الخير المتوفى سنة 440هـ (1048م) وذكر أنه خراساني وأشار إلى أنه كان يتحلل من القيود الدينية وكان ذا صلة بالفيلسوف ابن سينا، وليس أبو سعيد ابن أبي الخير هذا هو المقصود بالضرورة)
ثم ذكر معاليه بعد هذه الفقرة نصوصاً فيمن يصح أن ينسب إليهم التصوف وفيهم اسم أبي سعيد الخراز البغدادي. وحين تحدث المستشرق أبي سعيد تحدث عن تطور التصوف في الإسلام وعن الأفكار الحديثة التي حلت بناديه كفكرة وحدة الوجود ثم ذكر تأثير بعض المتصوفة في التصوف كأبي سعيد أبي الخير في فارس والهند.
وتأثير أبي سعيد في متصوفة فارس تأثير مشهور معروف ولا سيما عند المستشرقين، وسبب ذلك على ما أرى هو أن هذا المتصوف كان في إيران، وكان يكتب في عصره أخذ الفرس فيه يدونون أفكارهم بلغتهم الوطنية، وفي عصر ظهرت فيه حكومات إيرانية أخذت تشجع اللغة الفارسية، فصار صاحبنا يكتب بهذه اللغة بأسلوب سلس جذاب وينظم بها نظماً جديداً على طراز مبتكر فريد، وفضلاً عن ذلك فإنه لم يغادر وطنه على ما هو معروف عنه. ومع ذلك فإن الكتب العربية تحدث عنه كمتصوف عظيم ونعتته (بشيخ الوقت ومقدم شيوخ الصوفية وأهل المعرفة في وقته) وأما قول معاليه حكاية عن رأي تنمان: (ثم جاء التصوف فعرض لهذا العلم المؤلف من اصطلاحات خاوية وانضم إليه خصوصاً عند فرقة القائلين بوحدة الوجود من أهل التصوف الذي وضعه قبل القرن الثاني أو في ثناياه أبو سعيد أبو الخير، ولا تزال تلك الفرقة منتشرة في فارس والهند) ففيه التباس على ما أعتقد نتج إما عن خطا في الأصل وقع فيه المستشرق - وهو حكم لا أستطيع أن أجزم به لعدم وجود كتاب المستشرق لدى في الوقت الحاضر - وإما عن صعوبة في العبارة ووهم في الترجمة أو الاختصار إذ لا يوجد شخص آخر في تاريخ التصوف بهذا الاسم وبهذه الصفات ظهر أثره في فارس واتهم بالتحليل من قيود الدين بالقول بوحدة الوجود غير هذا الشخص الذي نتحدث عنه الآن والذي عاش في النصف الأول من القرن الخامس للهجرة، لا قبل القرن الثاني أو في ثناياه كما جاء في الكتاب.
والمستشرقون من ذوي التخصص في موضوع التصوف حين يتحدثون عن المتصوفة يتحدثون عن أبي سعيد كمثل بارز من أمثلة المتحررين والقائلين بوحدة الوجود. وكتب التصوف الفارسية تعتبره أمة بنفسه في عالم التصوف، صاحب مدرسة ورأي. ومن البديهي أن يكون الشخص الذي بحث عنه تنمان هو هذا الشخص الذي ذكره سائر المستشرقين وكتاب العرب والفرس
وأبو سعيد بن أبي الخير الذي تحدث عنه المستشرق، والذي نتحدث عنه الآن، هو شخصية مشهورة جداً وقد بحث عنه المستشرق المعروف إتى في رسالته التي وضعها في عام 1878 للميلاد، والمستشرق إلروسي زوكوفسكي ناشر كتاب (أسرار التوحيد في مقامات الشيخ أبي سعيد) ثم المستشرق الثقة في موضوع التصوف الإسلامي الإنكليزي (نيكلسون)، والمستشرق (إدوارد براون) في كتابه القيم (تاريخ الأدب الفارسي). وهو أبو سعيد فضل الله بن أبي الخير ولد في غرة المحرم من عام 357 للهجرة (7 ديسمبر 967م) في ميهنه وهي مدينة من إقليم خابران بخراسان وتوفي في 4 شعبان من عام 440 للهجرة (12 يناير من عام 1049 للميلاد)، وكان أبوه عطاراً، ولكنه كان فناناً موهوباً محبوباً من السلطان محمود الغزنوي ملك غزنة.
يقول فريد الدين عطار: رسم أبو الخير والد أبي سعيد على جدران بيته صورة بديعة للسلطان محمود الغزنوي وهو في وسط معركة حامية الوطيس تحف به فيلته وجنوده على طريقة الهنود في المعارك، فلما أبصر ابنه أبو سعيد هذه الصورة وهو طفل يافع نقش على جدران البيت أسماء الله الحسنى فلم يترك مكاناً إلا كتب عليه اسم الله العظيم. فلما رأى ذلك والده امتعض كثيراً ووبخه على عمله الذي سبب تسويد الجدران وتشويه منظرها. فما كان من الطفل إلا أن أجاب: (نقشت يا والدي على الجدار اسم سلطانك، ونقشت أنا اسم سلطاني)
فخجل الوالد من هذا الجواب وأمر بإزالة معالم ما رسمه هو على الجدار.
درس أبو سعيد، على طريقته ذلك الوقت، النحو والفقه والتفسير والحديث والشعر وعلم الطريقة، وحفظ من شعر العرب وحده ثلاثين ألف بيت ناهيك بشعر العجم. ولما توسم أبوه فيه الخير أخذه إلى أكبر شيخ في بلده وهو الشيخ أبو القاسم الكركاني من كبار المتصوفة وأصحاب الطرق ليتبرك به ولينال على يديه العلم والفوز والسعادة.
كانت الأحوال السياسية والاجتماعية في هذا العصر سيئة جداً: أمراء يتذابحون على جيف الدنيا، وسلاطين يتقاتلون على ملك زائل لن يدوم، ومشايخ يتحاسدون على نعمة لا تساوي شيئاً،
وانحطاط في الخلق إلى أقصى حد، ونقص في المثل الإسلامية العليا، وشذوذ في الطبع غريب، وتكالب غلى المادة. فرأى الناس أن المخرج الوحيد للخروج من هذا المأزق هو محاربة المادة عن طريق التصوف، ومجاهدة الدنيا عن طريق الزهد. فنفقت سوق المتصوفة وراجت بضاعتها. ويجب ألا ننسى بأننا في بلد فيه استعداد لهذا المبدأ قديم، والهند وهي عش من أعشاش التصوف تجاوره وقد أمدته وغذته بهذه المادة منذ العصور التي سبقت الإسلام.
وكانت العادة أن ينتقل طالب العلم في ذلك الوقت من مكان إلى مكان طلباً للعلم وبحثاً عن شيخ شهير. وفي ذات يوم وبينما كان الغلام يغادر المدرسة إلى البيت إذا بأحد الفضوليين من المارة يسأله عما درس وعن الكتاب الذي درس فيه، وأخيراً عن (ماهية الحقيقة) ولما لم يكن أبو سعيد يعرف شيئاً عن ماهية الحقيقة تشوش واضطرب، فأجيب: (حقيقة العلم ما كشف عن السرائر) فأثار هذا الجواب في نفسه شوقاً عظيماً إلى معرفة الحقيقة ولم يزل يبحث عنها حتى وجدها في أروقة الزهاد والمتصوفين. اتصل وهو يمرو بالفقيه الشافعي أبي عبد الله الحصري، ثم تحول إلى أبي القفال، والظاهر أن دراسة الفقه لم تجد في نفسه هوى ومكانة فانتقل إلى (سرخس) وهناك اتصل بصوفي مجذوب هو لقمان السرخسي، وقد أرشده هذا الصوفي إلى صوفي آخر هو (أبو الفضل حسن) تلميذ أبي نصر السراج على طريقة الجنيد البغدادي المتوفى عام 297 للهجرة وعام 909 للميلاد.
أتقن أبو سعيد مبادئ التصوف واجتاز الامتحانات النفسية الشاقة ونال (الخرقة من أبي عبد الرحمن السلمي النيسابوري (المتوفى عام 412 للهجرة) وأصبح درويشاً من الدراويش من أهل المسلك والذوق وقطباً من أقطاب التصوف في منطقة خراسان.
والتصوف في نظر أبي سعيد أبي الخير هو (طرح النفس في العبودية وتعلق القلب بالربوبية والنظر إلى الله بالكلية)
وبعد سياحة في البراري والقفار على طريقة الفقراء دامت سبع سنوات لم يبال خلالها بحر أو ببرد عاد أبو سعيد إلى مخالطة الناس ومجالستهم، ونال خرقة ثانية من أبي العباس القصاب بمدينة (آمل) إلى أن حل أخيراً بنيسابور.
بلغ أبو سعيد منزلة عالية جداً في التصوف، والتف حوله جم غفير من المريدين رأوا في سيرته سيرة الرجل الزاهد الصالح الذي وصل إلى مرتبة الجد والفناء. فكانوا يتبركون به ويتهالكون عليه. والسعيد منهم من حصل على قطرة ماء من ماء وضوئه ليتبرك بها. حكى أنه سقطت منه قطعة من قشر البطيخ (الرقي) فهالك أصحابه عليها واشتراها أحدهم بعشرين ديناراً. وأبو سعيد كسائر كبار المتصوفة من أصحاب الحس المرهف والخيال , فنان موهوب بطبعه، حلو الحديث، سلس العبارة، كان على رأي أكثر المتصوفة الفرس في مذهب الحلول ووحدة الوجود بل كان من متطرفي أصحاب هذا الذهب في هذه العقيدة. وقد سما خياله في هذا الباب حتى على خيال بايزيد البسطامي (المتوفى عام 261 للهجرة) والحلاج. وقد تحلل في كثير من أقواله عن القيود المألوفة، لم يجسد في ذلك حرجاً ولا غضاضة. والأنبياء وعددهم (124) ألف نبي كلهم في الدرجة سواء جاءوا لتحقيق شيء واحد هو (معرفة الله) ولكن متى تمت هذه المعرفة عرف الإنسان كل شيء وسقط عنه كل شيء وتساوي لديه كل شيء.
والشريعة هي ظاهر المعرفة، لذلك فهي لا توصل إلى المعرفة لأنها ظاهر الحق جاءت لمن لا يعرف الحق ولم يؤت العلم الصحيح. والسبيل الوحيد الذي يسلك بنا إلى المعرفة هو مسلك (الطريقة) وذلك لا يتم طبعاً إلا بعد جهد جهيد يصل الإنسان في نهايته إلى إدراك (الحقيقة) ثم إلى (النهاية) التي هي فوق (الحقيقة) وهي (المعرفة) التي لا يمكن إدراكها إلا بعد إدراك (علم اليقين).
ومتى خصص الإنسان كل قواه وحصر كل حواسه في الوجود الحقيقي بحيث اتصل به اتصالاً كلياً أدرك عندئذ (عين اليقين). ومتى وصل الإنسان إلى هذه الدرجة من المعرفة اتصل اتصالاً مباشراً (بالمعرفة) التي تشع بنورها على القلوب وتتجلى عندئذ أسرار النبوات وحقائق الكتب المنزلة قلا حاجة إلى نبوة أو وسيط (لأنه يأخذ من حيث يأخذ الملك الذي يأتي الرسل) وحيث أن القليل من الناس من يصل إلى هذه المرتبة احتاج الناس إلى الأنبياء والوسطاء ليكونوا سفراء بين الحق والناس.
البقية في العدد القادم
الدكتور جواد علي