الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 617/من تاريخ الأدب الفرنسي

مجلة الرسالة/العدد 617/من تاريخ الأدب الفرنسي

بتاريخ: 30 - 04 - 1945


بوفون وحديثه عن الأسلوب

للأستاذ أحمد أحمد بدري

في حديقة النباتات بباريس، وأمام متحفها، يجلس تمثال بوفون بادياً على محياه وقار العلماء، وهدوء الباحثين، وسكينة النفس، واطمئنان الضمير، ولقد أحسن الفرنسيون في اختيار هذا المكان لتمثاله، فقد وقف الشطر الأكبر من حياته على دراسة ما في الطبيعة من حيوان ونبات.

ولد بوفون في السابع من سبتمبر سنة 1707 في مونتبار القريبة من بيجون، وقضى تعليمه العالي بكلية بيجون، ولم يكن متميزاً فيها إلا بميله إلى الرياضيات. وظل بيفون إلى الثانية والثلاثين من عمره غير مهتد إلى السبيل التي هيأته الطبيعة لها، ولم يقم بما يدل على أنه سيكون في قابل حياته العالم العبقري والكاتب الممتاز، وفي تلك المرحلة قام برحلة مع أحد الأمراء إلى إيطاليا ولندن، وألقى بحثاً في المجمع العلمي نال به لقب العضو المساعد، وترجم عن الإنكليزية بعض الكتب العلمية. وإذا كانت المصادفة تقود خطى بعض الناس، وتكشف لهم عما يكمن في أنفسهم من المواهب؛ فإن الصدفة قد لعبت دوراً كبيراً في حياة بيفون، وحددت له الطريق الذي يجب أن يوجه إليه جهده، فقد عين مديراً لحدائق الملك، وكلفه الوزير أن يضع وصفاً منهجياً لما بالمقصورة الملكية من مجموعات النباتات، ومنذ ذلك الحين وجد بيفون طريقه، وخصص نفسه لدراسة التاريخ الطبيعي.

كان حينئذ في الثانية والثلاثين من عمره، وقضى المدة الباقية له في الحياة، وقدرها تسعة وأربعون عاماً، بين باريس التي كان يفر منها كلما استطاع ذلك وبين بلدته مونتبار؛ وهناك كان ينهض من نومه الساعة الخامسة، ويحبس نفسه بمكتبه يملي إلى التاسعة، ويفطر في نصف ساعة يعود بعدها إلى العمل حتى الساعة الثانية إذ يتغدى. وهكذا كان يقضي كل يوم إلى نهاية حياته سنة 1788 قدر بيفون أن يخرج كتابه: التاريخ الطبيعي العام والخاص في خمسة عشر مجلداً، ولكنه لم يمت إلا بعد أن صار ستة وثلاثين مجلداً، ولقد أحرز ما ظهر من هذا الكتاب في حياته شهرة واسعة، وأقبل عليه القارئون في شوق وحب.

كان بيفون ذا نفس سامية متزنة، مستقلة، هادئة، وكان بعيداً كل البعد عما يدور في عصره من المجادلات والاضطرابات وعاش للدرس والبحث والتأمل، واجداً في ذلك كل سعادته.

ولكي يجعل التاريخ الطبيعي - وهو مادة جافة - مقبولاً لدى الذوق احتاج أن يكون في ذكاء كاتب من الدرجة الأولى.

وفي سنة 1753 دعاه المجمع الفرنسي إليه من غير أن يتقدم بيفون بطلب إلى المجمع، واستقبل فيه يوم 25 من أغسطس، وألقى حديثاً عرض فيه بعض خواطره عن الأسلوب، وقد أثرت نقل هذا الحديث إلى اللغة العربية بجملته حتى لا يشوهه التلخيص؛ قال بيفون:

سادتي:

لقد غمرتموني بالشرف حين دعوتموني إليكم، ولكن التشريف لا يكون مزية إلا إذا كان المرء به جديراً؛ وأنا لا أستطيع أن أقنع نفسي أن بضع مقالات كتبت خالية من الفن وغيره من الزخارف سوى زخرف الطبيعة تكون حججاً كافية للجرأة على أخذ مكان بين سادة الفن، والرجال الأمجاد الذين يمثلون هنا عظمة فرنسا الأدبية، والذين سارت أسماؤهم في مختلف الأمم، وسيظل ذكرهم حياً رفيعاً على ألسنة آخر أحفادنا. وإن لكم أيها السادة لبواعث أخرى في اختياركم إياي، ذلك أنكم أردتم أن تقدموا للمجمع العلمي المجيد الذي كان لي الشرف باتصالي به زمن بعيد - علامة جديدة من تقديركم، وإن اعترافي بجميلكم - مهما يكن مقسماً - لن يكون لتقسمه أقل قوة.

والآن، كيف أؤدي الواجب المفروض عليّ؟ ليس لديّ أيها السادة، ما أقدمه إليكم سوى ما لكم أنتم من فضل، فهو بعض أفكار عن الأسلوب استقيتها من كتبكم، فبقراءتي لكم وبإعجابي بكم أدركتها؛ وبعرضها تحت أضواء أفكاركم تتضح في جلاء.

في كل الأزمنة وجد رجال عرفوا كيف يسيطرون على غيرهم بقوة الكلام، ومع ذلك لا تعرف الكتابة الجيدة وفصاحة القول إلا في العصور المستنيرة، وإن الفصاحة الحقيقية تتطلب مران العبقرية والموهبة النفسية، وهي في الحق تختلف عن السهولة الخلقية في الكلام التي ليست إلا نوعاً من الفطنة، موهوباً لكل هؤلاء الذين عواطفهم قوية وألسنتهم مطواعة وخيالهم سريع. هؤلاء الناس يشعرون شعوراً قوياً، ويتأثرون بقوة أيضاً، ويبرزون شعورهم في الخارج مدموغاً بالقوة؛ وبتأثير آليّ محض ينقلون إلى الآخرين حماساتهم وانفعالاتهم. إن الجسم هو الذي يتحدث إلى الجسم، فكل الحركات والإشارات تتعاون وتخدم أيضاً

ماذا يجب لإثارة الجماهير وقيادتها؟ وماذا ينبغي لتحريك القسم الأعظم من الرجال وإقناعهم؟ نغمة حادة مؤثرة، وإشارات معبرة كثيرة، وكلمات سريعة رنانة. ولكن العدد القليل من أصحاب العقول الراجحة، والأذواق الدقيقة، والمشاعر السامية، الذين هم على شاكلتكم - أيها السادة - ممن يستقلون النغمة والإشارات، والرنة الفارغة للكلمات، تجب له أشياء أخرى وأن تقدم إليه أفكار وحجج، ينبغي لمن يقدمها أن يعرف كيف يبرزها وكيف يلونها وينسقها، ولا يكفيه أبداً أن يقرع الأذن أو يشغل العين، بل يجب أن يحرك الروح، ويلمس القلب، متحدثاً إلى اللبّ.

ليس الأسلوب إلا النظام والحركة التي يضعها المرء في أفكاره، فإذا ربطت هذه الأفكار بدقة، وضمت، صار الأسلوب متيناً قوياً موجزاً، أما إذا تركت تتابع في بطء ولا تأتلف، إلا بفضل رباط الكلمات، مهما كانت أنيقة فإن الأسلوب يكون مسهباً رخواً مملاً.

ولكن قبل أن نبحث عن النظام الذي تصب فيه الأفكار يجب أن يكون ثمت خطة أشمل وأثبت، من الواجب ألا يدخل فيها سوى العناصر الأولى، والأفكار الأساسية، وإنه بتعيين مكان العناصر والأفكار من هذه الخطة البدائية، يكون الموضوع محدداً معروف المدى، وبالتذكر الدائم لهذه الخطوط تحدد المسافات الصحيحة الأفكار الأساسية، وتخلق الخواطر الإضافية الثانوية التي تفيد في إكمالها بقوة العبقرية، نستحضر كل الأفكار العامة والخاصة في ثوبها الحقيقي، وبالدقة العظيمة في الفرز تتميز الأفكار المجدية من الخصبة، وبالبصيرة النافذة المتنبئة التي بها كثرة اعتياد الكتابة يشعر الكاتب سلفاً بما سوف تفضي إليه كل عملياته العقلية. وعندما يكون الموضوع واسعاً أو معقداً يكون من البيّن أنه من النادر أن يستطاع شموله بنظرة واحدة، أو اختراقه بأول مجهود للموهبة. ومن النادر كذلك أنه حتى بعد تأملات عدة أيضاً تدرك كل تفصيلاته فلا يستطاع إذاً أن يشغل الكاتب نفسه بذلك كثيراً، ومع هذا، تلك هي الطريقة الوحيدة لتوطيد أفكار الكاتب، وتفصيلها والسمو بها: فكلما منحها ما يقومها ويقويها بالتفكير يكون من السهل عليه بعدئذ أن يوضحها بالتعبير.

ليست هذه الخطة مع ذلك بالأسلوب، ولكنها قاعدته. هي التي تصونه وتقوده وتنظم حركته، وتخضعه للقوانين، وبدونها يضل خير الكاتبين، ويسير قلمه بدون قائد، ويأتي مصادفة بصفات شاذة، ومجازات متنافرة؛ ومهما تكن الألوان التي يستخدمها لامعة، والمحسنات منثورة في الجزئيات، فإن العمل في جملته يصدم الإحساس ولا يتضح، ولن يكون التأليف أبداً محكم البناء. ومع إعجابنا بعقل المؤلف يستطاع الارتياب في أن الموهبة تنقصه. ولهذا السبب كان هؤلاء الذين يكتبون كما يتكلمون - مهما كان حديثهم عظيم الجودة - ذوي كتابة رديئة؛ وهؤلاء الذين يتبعون أول شرارة يقدحها خيالهم يأخذون سمة من لا يستطيعون ضبط أنفسهم؛ وهؤلاء الذين يخافون أن يفقدوا أفكارهم المفرقة الشاردة، ويكتبون في أوقات مختلفة قطعاً متفرقة لا يستطيعون أبداً أن يجمعوها بدون تغيير اضطراري، وفي كلمة واحدة: نجد كثيراً من المؤلفات قد كون من قطع شتى وقليل منها ما له هدف واحد.

ومع ذلك كل موضوع وحدة، ومهما يكن البحث واسعاً فمن الممكن وضعه في مقال واحد، والانقطاعات والاستراحات والتقسيمات لا يصح أن تستخدم إلا عندما تعالج موضوعات مختلفة، أو عند التحدث في أشياء جليلة شائكة متابينة، فيجد تيار التفكير نفسه معترضاً بشتى العقبات، ومكرها بضرورة الظروف؛ وفضلاً عن ذلك ترى كثرة الأقسام، مع بعدها عن أن تجعل الموضوع شديد الالتحام تهدم وحدته. وإن الكتاب بها يبدو أمام العينين واضحاً، ولكن هدف المؤلف يظل غامضاً، ولا يمكن أن يؤثر في نفس القارئ؛ وإن الغرض لا يدرك إلا باتصال الأفكار، وارتباطها ارتباطاً ملتئماً، وبالشرح المتتابع، والتدرج الآخذ بعضه بحجز بعض، وبالحركة المتسقة التي يهدمها كل انقطاع أو يضعفها.

ولماذا كانت أعمال الطبيعة تامة الكمال؟ ذلك أن كل عمل وحدة تامة، وأنها تعمل تابعة لخطة خالدة لا تفارقها أبداً. إنها تهيئ في صمت بذور ما تنتجه، وترسم بنظام واحد الشكل الأول لكل المخلوقات الحية، وتنميه، وتكمله بحركة دائمة وفي وقت معين. العمل عجيب، ولكنه الطابع الإلهي فيه سماته التي يجب أن تؤثر فينا. وإن النفس الإنسانية لا تستطيع أن تخلق شيئاً، ولا تنتج إلا بعد أن تكون خصبة بالتجربة والتأمل؛ ومعارفها بذور إنتاجهاً، ولكنها إذا قلدت الطبيعة في سيرها وعملها، وإذا ارتفعت بالتأمل إلى أسمى الحقائق فوحدتها وربطتها، وكونت منها بالتفكير كلاً ومنهاجاً فإنها تبني آثار خالدة على أسس لا تتزعزع.

إنه لمن نقص في الخطة، ومن عدم التفكير الكافي في الغرض، أن رجلاً ذكياً يجد الموضوع يملك نفسه ولا يعرف بم يبدأ الكتابة. إنه يدرك مرة واحدة جملة عظيمة من الأفكار، ولأنه لم يستطيع أن يوازن بينها، ولا أن يلحق فكرة بأخرى، لا يمكنه أن يجزم بتفضيل بعضها على بعض، ويظل إذاً يتخبط في حيرته.

ولكنه منذ أن يضع الخطة، ومنذ أن يجمع أفكاره الأساسية للموضوع وينظمها، يدرك في الحال بسهولة ما يجب أن يتناوله قلمه، وسيشعر باللحظة التي يتم فيها نفح فكرته، وسيجد نفسه معجلاً إلى الإنتاج، ولن يجد إلا السرور بالكتابة، تتابع الأفكار في يسر، ويصير الأسلوب طبيعياً سهلاً، وتتولد الحرارة من هذا السرور، وتشيع في كل مكان، وتعطي الحياة لكل تعبير، وينتعش كل شيء كلما تقدم الكاتب في الكتابة، وترتفع نغمة الأسلوب، وتأخذ الأشياء ألواناً زاهية، والشعور منضماً إلى الوضوح يفخمها ويقويها، ويصير الأسلوب بذلك جذاباً مشرقاً.

لا شيء يعارض الحرارة إلا الرغبة في أن نضع دائماً عبارات أخاذة. ولا شيء ينافي الوضوح والضوء الذي يجب أن يكون له مركز ينتشر منه متناسقاً في المؤلف كله - إلا هذه الومضات التي تغتصب بالقوة من تضاد الكلمات بعضها لبعض، والتي لا تبهرنا بعض الوقت إلا لتتركنا بعدئذ في الظلمات. إنها أفكار لا تلمع إلا بتضادها، ولا تبرز إلا جانباً من جوانب الموضوع بينما يوضع في الظلام كل الجوانب الأخرى؛ وفي العادة يكون هذا الجانب الذي يختار حداً أو زاوية يتلهى الذهن بها بسهولة، بينما يكثر بعده عن الجوانب العظيمة التي اعتاد الفكر المستقيم أن يقدر بها الأشياء.

(البقية في العدد القادم)

أحمد أحمد بدوي

مدرس بحلوان الثانوية للبنين