الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 617/على هامش النقد

مجلة الرسالة/العدد 617/على هامش النقد

بتاريخ: 30 - 04 - 1945


التعاون الثقافي بين الأقطار العربية

تأليف الأستاذ عبد اله مشنوق

للأستاذ سيد قطب

هذا كتاب جيد في موضوعه. . . وليس هو كتاباً أدبياً ولا فنياً، ومع هذا نفسح له مكاناً (على هامش النقد) لأنه الكتاب الأول في هذا الموضوع، ولأنه يعالجه معالجة دقيقة واضحة، ويترجم (التعاون الثقافي بين الأقطار العربية) إلى حقائق واقعة، واقتراحات عملية، في أسلوب تقريري بسيط، يعجبني في أمثال هذه الموضوعات، وأفضله ألف مرة على الأساليب البيانية والاستعارات اللولبية، والتفاصح الذي يغيظ!

والموضوعات التي تناولها المؤلف الفاضل في كتابه حين تستعرض استعراضاً سريعاً تكفي لبيان اتجاهاته، وقد جاءت في الكتاب بهذا الترتيب:

(بين التعاون والتوحيد. الطغيان الثقافي. ليس التعاون بدعة. التعاون أداة تقدم. الشعوب العربية المتعاونة وموقف التعاون من الغرب. ميادين التعاون الثقافي. المناهج: الأهداف والاتجاهات العامة، أقسام الدراسة وأنواعها ومراحلها وشهاداتها، مواد الدراسة في مختلف المراحل والسنوات. تحضير المعلمين. الكتاب، مجلة للصغار، وسائل الإيضاح. تنظيم المعادلات بين الشهادات: المعادلات مع الخارج، البكالوريا العربية. البعثات العلمية: تبادل البعثات بين الأقطار العربية. تبادل الأساتذة: الأساتذة الزائرون، الخبراء الفنيون. المجامع اللغوية والعلمية: الخمسون المخلدون، المعجم الجديد، المصطلحات العلمية، تتويج روائع العلم، إصلاح الحروف العربية، الموسوعة العربية. المدارس والجامعات. المكتبات العامة. التأليف والترجمة والنشر).

عالج المؤلف الفاضل هذه الموضوعات كلها بروح عملية، لا تشط في الخيال، ولا تقف مكتوفة اليدين أمام العقبات. ومن هنا قيمة الكتاب. فلقد استحال هذا التعاون المنشود حقيقة عملية في حيز الإمكان. وأحسب أن الشرق العربي سيتلفت ليجد أمامه الوسائل ميسرة لتحقيق هذا التعاون؛ وسيجد منها الكثير بين يديه حاضراً مهيئاً، والبقية ليست عنه ببعيدة.

والمهم أن كلمة (التعاون) لا تبقي بعد هذا البيان أملاً. غامضاً مبهماً. بل تصبح حقائق ووقائع في متناول التفكير والتنفيذ.

وأمر آخر يقرره هذا الكتاب في نفوس القراء.

إنه يطلع الشرق العربي على دخيلة نفسه وحقيقة حاله! فحاجاته الثقافية، والوسائل التي يملكها لسد هذه الحاجات، يضعها المؤلف بمهارة وبساطة تحت عين هذا الشرق العربي. وكأنما يرفع في وجهه المرآة ليراه!

والذين يستطيعون أن يرفعوا المرآة في وجه الشعوب ببساطة فائقة ومهارة كبيرة قليلون جداً بين الباحثين والكتاب. والذين يستطيعون أن يرفعوا هذه المرآة في اللحظة المناسبة هم أقل من القليل. ومن هؤلاء الآخرين الأستاذ عبد الله مسنوق الأديب اللبناني صاحب هذا الكتاب!

وهو يرقع المرآة في وجه الشرق العربي ليقول له: إنه في حقيقته وحدة متعاونة، وأجزاء متكاملة. وهو لا يعتمد في تقرير هذه الحقيقة على الأساليب الحماسية، بل يبدو أن هذه الحقيقة جزء طبيعي من إحساسه العادي بالمسألة. فحين يتحدث عن بعثات أمم الجامعية العربية إلى البلاد الأوربية ينظر إليها كأنها بعثات بلد واحد، لتلبية حاجة البلد الواحد، ويصوغ رأيه فيها بهذه البساطة العميقة:

(أما التعاون بين العرب في البعثات إلى الخارج، فأمر يحتاج إلى تنسيق حتى تكون الجهود منسجمة، فلا يحدث تضخم في ناحية من نواحي الاختصاص، وقحط في النواحي الأخرى؛ فليس من الضروري أن يتخصص رجال كل قطر في وقت واحد في الجامعات الغربية في علم الآثار والعاديات والقانون والآداب والفلسفة واللغات القديمة وفن القتال والهندسة وعلم المعادن والزراعة والميكانيك ومختلف الصناعات، وما إليها من أنواع التخصص، لأن أمثال هذه البعثات تكلف موازنات الدول مبالغ قد لا تتحملها. ولذلك يحسن أن توزع هذه النواحي بين الحكومات العربية وفقاً لمقدرتها ودرجة احتياجها، على أن تتعاون هذه الدول فيما بينها بتبادل الخبرات والأساتذة لسد النقص الناشئ عن هذا التوزيع. . .).

وبنفس هذه الروح يعالج مسألة (تبادل البعثات بين الأقطار العربية) فيسميها (كوتا العلم) ويشبهها بالترخيصات التي يمنحها مركز التموين في الشرق الأوسط للاستيراد حسب الحاجة الضرورية! ثم يقول:

(ولعلي لست مخطئاً في التشبيه عندما أقول في معرض حديثي عن البعثات أن ثمة (كوتا) علمية بين الأقطار العربية المتعاونة، وأن على المكتب الثقافي الدائم في القاهرة توزيعها بالعدل والقسطاس بين البلدان الشقيقة، مراعياً في ذلك الإمكانيات والحاجات الثقافية في كل بلد متعاون، فلا يكون تبادل البعثات العلمية مظهراً من مظاهر الفوضى، بل يخضع لخطة مرسومة مبنية على دراسة علمية صحيحة للحالة الثقافية الراهنة في مختلف الأقطار العربية. ولن يتم توزيع (كوتا) العلم ما لم تعد كل حكومة عربية تقريراً ضافياً يحتوي على الحد الأقصى لما تستطيع قبوله في معاهدها العليا والثانوية من طلاب الأقطار الأخرى من جهة، ويحتوي على ما تشعر بأنها في حاجة ملحة إلى إيفاده من بعثات إلى الأقطار الشقيقة من جهة ثانية. ومتى تم وضع هذه التقارير وزعت مقاعد الدراسة على ضوئه. فإذا كانت مصر مثلاً قادرة على قبول 100 طالب في معهد التربية لإعداد المعلمين، فإن مهمة المكتب الثقافي الدائم تنحصر في توزيع هذا (الكوتا) بالعدل بين حكومات الأقطار المتعاونة مراعية في ذلك المستوى الثقافي في كل إقليم، مفضلة الحاجات الملحة السريعة على سواها)

ومن هذه المقتطفات تبدو الروح العامة التي عالج بها المؤلف حقيقة العلاقات بين أمم الجامعة العربية كما تتبين طريقته العملية في معالجة وسائل التعاون، وإحالتها إلى حقائق ملموسة ممكنة التنفيذ في نظام دقيق.

وبمثل هذه الروح عالج جميع الأسس التي يقوم عليها التعاون. ولكن هذا لم يكن كل محتويات الكتاب، فقد تطرق من أسس التعاون إلى موضوعات في صميم التربية والتعليم، كمكتبة الطفل، ومجلة الطفل، ووسائل الإيضاح، والأهداف الوطنية والثقافية والروحية من المناهج وكان موفقاً في هذا كله، لأنه آثر أن يعالج موضوعاته في بساطة وعمق وأن يصوغ تعبيره في قالب دقيق.

وثمة أمر آخر ساعد المؤلف على النجاح في دراسته لموضوعه. . . ذلك هو الإخلاص في مواجهة الحقائق بروح الإنصاف. فقد نبه إلى مواطن النقص في وسائل الثقافة عند كل شعب، وإلى مواطن الكمال أو التفوق حيثما وجدها بلا تحيز إقليمي لا معنى له.

فهو يقول مثلاً عند الموازنة بين هذه الوسائل في مصر وشقيقاتها: (لقد زرت عدداً كبيراً من المدارس - على اختلاف أنواعها - في مصر والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين؛ وأستطيع أن أصرح دونما تحيز أو مواربة، بأن المعاهد المصرية الرسمية تأتى في الطليعة من حيث أخذها بالأساليب الحديثة في التربية والتعليم وسخاء الحكومة في الإنفاق عليها لتتوفر فيها الشروط الفنية؛ ويشمل قولي هذا المعاهد الابتدائية والثانوية والعليا، العامة منها والفنية المهنية. لذلك أدعو الأقطار العربية أن تتعرف تماماً إلى هذه المعاهد المصرية قبل البدء بإنشاء مدارس جديدة أو القيام بإصلاح عام في مدارسها القديمة. . .)

ويقول في صدد المعاهد التي تخرج المعلمين في جميع بلاد الجامعة العربية: (وبوسعي أن أقول جازماً: إنه يتعذر الآن على أية حكومة عربية إنشاء معهد كدار العلوم العليا لتحضير أساتذة اللغة العربية، هذا المعهد الذي يتهمه البعض بالرجعية ويود إلحاقه بالجامعة؛ ولكنه على الرغم من ذلك مفخرة من مفاخر مصر، ومعقل من معاقل العروبة، وإليه يعود الفضل الأكبر فيما أنجبته مصر من أساتذة متمكنين من فقه اللغة وفلسفتها وقواعدها، متعمقين في فهم روح البلاغة وأسرارها، مختصين في أساليب تدريسها. فلماذا لا تفتح أبواب هذا المعهد على مصاريعها في وجه الأقطار العربية، فيخرج لها نخبة صالحة لتدريس اللغة العربية في الأقسام الثانوية؟ وقد أسلم جدلاً بأن منهاج دار العلوم مثقل بالمواد القديمة الصعبة المرهقة والجافة أحياناً، ولكن فهمنا للغة فهماً صحيحاً يخولنا تدريسها بكفاءة، لا يمكن أن يتم إلا بعد دراسة عميقة لهذه العلوم على النحو المتبع في دار العلوم.

(وتستطيع كلية اللغة العربية في الجامعة الأزهرية أن تقبل الراغبين في التخصص باللغة العربية إلى جانب العلوم الدينية. وهذه قد لا تشترك فيها جميع الأقطار العربية)

وبمثل هذا الإخلاص في مواجهة الحقائق بروح الإنصاف سار في بقية فصول الكتاب، فلم يقتصر كذلك في نقد مواضع النقص حيثما وجدت. وحينما ساقه الحديث مثلاً عن (مكتبة الأطفال) كشف عن نقصها وفقرها في جميع بلاد الجامعة العربية ومصر من جملتها وكان محقاً كما كان منصفاً.

هذا الإخلاص في مواجهة الحقائق يجعلنا نوجه الحديث بصراحة إلى الأستاذ المؤلف، وإلى جميع الراغبين رغبة نفسية أكيدة في توثيق عرا التعاون بين أمم الشرق العربي.

إن لمصر ما تشكو منه من بعض شقيقاتها العربيات، أو ما تعتب عليه بتعبير أصح. . . ويجب أن نكون صرحاء فيما بيننا ليقوم البناء على أساس سليم. . . ومصر لا تشك في إخلاص الشقيقات لها وتطلعهم إليها واهتمامهم بها. ولكن هنالك مع هذا أشياء!

فأنا أعتقد أن الأستاذ المؤلف يسلم معي بأنه ليس ذنباً لمصر أن تلبي حاجة الشقيقات إلى المعلمين. . . وإنما هو واجب عليها تؤديه. فما بال جماعة من الناس في بعض هذه الشقيقات ينظر إلى المسألة نظرة أخرى، فيرى في هؤلاء الأساتذة مرتزقة، أو بلغتهم (عياشة) يزاحمونهم الرزق ويطلبون العيش؟ إن كثيراً من هؤلاء الأساتذة يعودون شاكين لا لما يعانونه من معالجة شئون الحياة بعيداً عن أهلهم وصوالحهم، ولكن لأنهم ينبزون بلقب (العياشة)! مع أنهم منتزعون من ضرورات المدارس المصرية.

وأعتقد أن الأستاذ يسلم معي بأنه ليس ذنباً لمصر أنها كانت سابقة في الأدب والثقافة. فما بال جماعة من الناس في بعض هذه الشقيقات يعدون هذا استعماراً ثقافياً، ويحملون في بعض الصحف على الأدباء المصريين وعلى الثقافة المصرية، حتى يصدر أحد رؤساء الحكومات أمراً بالكف عن هذه الملاحاة؟

واعتقد أن الأستاذ يسلم معي بأنه ليس ذنباً لمصر أنها فتحت أبواب معاهدها للطلاب من كل الشقيقات. فما بال بعض هؤلاء الطلاب الذين تقوم لهم مصر بواجبها في الضيافة الكاملة والثقافة والرعاية يحلو لهم أن يملئوا أفواههم بنقد المصريين حتى ليصل هذا النقد إلى درجة التجريح في وجه المصريين؟!

هذه كلمات لا تنقصها الصراحة، وهي كلمات واجبة، وهي عتب الشقيق على الشقيق، مبعثة الود الصريح، والإخاء العميق والإخلاص الوثيق.

سيد قطب