مجلة الرسالة/العدد 616/إلى صاحب المعالي عبد الرزاق السهوري بك
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 616 إلى صاحب المعالي عبد الرزاق السهوري بك [[مؤلف:|]] |
النيف في العدد ← |
بتاريخ: 23 - 04 - 1945 |
رأي واقتراح
إن من المحال أن ننقل الأمة كلها إلى العلم عن طريق
المدرسة، ولكن من الممكن أن ننقل العلم عن طريق المدرسة،
ولكن من الممكن أن ننقل العلم كله إلى الأمة عن طريق
الترجمة
يا صاحب المعالي، إن أخص ما يميزك على نظرائك في العلم والحكم أنك تقدس الحقيقة وتطلب الحق. وإن سبيلك إلى ذلك عقل راجح واضح يتعمق ويتبسط، ويحيط ويستوعب، ويدقق ويحقق، ويستقرئ ويستنبط؛ فإذا رأيت الحق في جانبك أقنعت ومنطقك سديد وحجتك ملزمة؛ وإن رأيته في الجانب الآخر اقتنعت وعقلك راض ونفسك مسلمة. وقد أجمع الذين عرفوك أن في مناقشتك الرأي أو في مطارحتك الحديث متعةً للعقل والذهن؛ لأنك توضح الخطة وتحدد الرسوم وتعين الغاية، ثم تعرض الرأي عالما بما تقول، وتسمع الرأي فاهماً لما يقال، ثم تعارض القول بالقول، وتوازن الدليل بالدليل، ثم تحكم الحكم المسبب لك أو عليك فلا تدع للمكابرة والمماراة سبيلاً إلى استئناف أو نقص!
لذلك أحببت أن أتقدم إلى معاليك برأي يتصل بالتقافة؛ ويقيني أنك إذا اقتنعت به أمضيته؛ وإذا أمضيته كان حرياً أن يضيف عصر الفاروق إلى عصر عصور بركليس وأغسطس والمأمون ولويس الرابع عشر، وهي كما تعلم العصور الذهبية التي تحدد المراحل المتعاقبة للإنسان المتمدن في طريقه إلى المعرفة.
تعلم معاليك أن أدبنا الجديد لا يزال ناقصاً في نوعه قاصراً في بيانه. ناقص في نوعه لأنه أنكر قديمه وجهل جديد الناس، فلم يغذه ماض ولم يمنه حاضر، فظل مخدج الخلق لا هو حي ولا هو ميت. ولقد كان أدبنا القديم في حدود مراميه اللسان العام لخوالج النفس الإنسانية في أكثر بقاع الأرض، فلم تكن هناك فكرة تجول في ذهن كاتب، ولا صورة تتمثل في خاطر شاعر، إلا وجدت في هذا الخصم المحيط صدفة تستقر فيها. فلما تحولت عن مذاهبه الأنهار، وجفت على جوانبه الروافد، عاد كالبحيرة المحدودة لا يمدها إلا قطرات المطر ودفعات السيل حيناً بعد حين. فالقارئ العربي الحديث لا يجد فيما أثر منه ولا في أكثر ما استجد فيه غذاء عقله ولا رضا شعوره؛ لأن المأثور منه ناقص لانقطاعه عن سير المدنية، والجديد منه ناقص لخلوه من الآداب الأجنبية. والغريب المخجل أن المرء يقرأ أي نابغة من نوابغ العالم في أي لغة من لغات التمدن إلا في اللغة العربية! فالتركي مثلاً يستطيع أن يقرأ في لغته هوجو كله، وشكسبير كله، وجيته كله؛ ولكن العربي لا يجد في لغته لهؤلاء العباقرة العالميين إلا كتاباً أو كتابين اختارهما مترجم على ذوقه ونشرهما على حسابه!
فإذا أردنا يا معالي الوزير لأدبنا أن يتسع في حاضره كما اتسع في ماضيه، فليس لنا اليوم غير سبيل الأمس: نرفده بآداب الأمم الأوربية، ونصله بتيار الأفكار الحديثة؛ فإن لكل أمة مزايا، ولكل بيئة خصائص. ولن يكون أدبنا عالمياً ما لم يلقح بآداب العالم؛ والمحاكاة والاحتذاء من أقوى العوالم أثراً في الأدب.
والأدب العربي قاصر في بيانه، لأنه مقطوع الصلة بحضارة العصر، فلا يستطيع أقدر كتابنا أن يتحدث عما يستعمل من ماعون وأثاث، ولا أن يصف ما يركب من باخرة أو طائرة، ومجمعنا اللغوي على ما نرى من نشاه لن يقدم إلى الناس معجمه المنتظر إلا بعد جيل أو جيلين، حين يكون كل شيء في العالم قد تغير أو تطور، فيصبح معجمه في الجدة يومئذ كمعجم (لسان العرب) اليوم! والزمان يا معالي الوزير يسرع، والعالم كله يجد، والساري على مركب العجز لا يلحق، والبيان قاصر لصف الخرس، واللغة الناقصة ثلاثة أرباع الجهل.
وما قلناه في اللغة والأدب تقوله في العلم والفن؛ فإن ما في العربية منهما لا يعدو في الغالب أن يكون ملخصات مجهولة النسب، أو مقتبسات قليلة الغناء، إذا نفعت أحداً فإنما تنفع طلاب المدارس. أما الشعب الظامئ إلى المعرفة فلا يجد بين يديه من أمهات الكتب العلمية والفنية ما ينفع غليله ويسد عوزه. وما دام المر كذلك فسيظل اللسان العربي والعقل العربي محصورين في حدود القرون الوسطى لا يواكبان ركب الحياة، ولا يسايران تقدم الفكر.
إن العلوم اليوم أوربية وأمريكية ما في ذلك شك. وإن الفروق التي باعدت بين الشرق والغرب في مدلول الإنسانية الراقية إنما يجمعها كلها لفظ العلم. وهذا العلم الذي يسخر السموات والأرض للإنسان الضعيف، ويذلل القطعان الملايين للراعي الفرد، سيبقى غريباً عنا ما لم ننقله إلى ملكنا بالتعريب، ونعممه في شعبنا بالنشر؛ ولا يمكن أن يصلنا به أو بديننا منه كثرة المدارس ولا وفرة الطلاب، فإن من المحال أن ننقل الأمة كلها إلى العلم عن طريق المدرسة، ولكن من الممكن أن ننقل العلم كله إلى الأمة عن طريق الترجمة.
فالترجمة إذن يا معالي الوزير هي الوسيلة الأولى لدفع القصور عن اللغة، وسد النقص في الأدب، وكشف الظلام عن الأمة. وبحسبنا أن ننقل معجماً من المعاجم العلمية الأوربية لتصبح لغتنا كاملة وثقافتنا شاملة؛ فإنا مضطرون في أثناء الترجمة أن نضع المصطلحات الحديثة لكل علم وفن، فلا يتم المعجم حتى تتم اللغة. وإذا نقلنا إلى العربية نتاج القرائح لأقطاب العلوم والفنون والآداب من الإنكليز والأمريكان، والفرنسيين والألمان، والروسيين والطليان، أصبح هؤلاء العالميون جزءاً من كياننا الأدبي، وركناً في بنائنا العلمي، نعتز به ونستمد منه ونفتت فيه ونزيد عليه، كما فعل آباؤنا الأقدمون بما نقلوه من علوم الإغريق والهنود واليهود والسريان والفرس.
لذلك أرى - ورأيك الأعلى - أن تنشأ دار للترجمة مستقلة عن ديوان الوزارة، يكون لها من جلالة القدر ونباهة الذكر ما للجامعتين؛ فإنها على اليقين ستكون جامعة شعبية لا تقل عنهما في الخطر والأثر؛ أو قل إنهما الميدانان المتقدمان وهي مركز التموين الذي يمدهما بالميرة والذخيرة والمدد. ثم يختار لها مائتان على الأقل من المترجمين النابغين في لغتهم وفي اللغات الأوربية الثلاث، ينقلون الآداب الأجنبية نقلاً كاملاً صحيحاً، فلا يدعون علماً من أعلام الأدب والعلم والفن والفلسفة إلا نقلوا كتبه ونشروها على حسب ترتيبها وتبويبها في طبعاتها الأصلية.
هذه الدار ستنقل إلى العربية كل يوم أربعمائة صفحة مصححة منقحة مهيأة للنشر، قد تكون كتابين أو كتاباً أو جزءاً من كتاب على حسب النظام الذي يوضع لها. فإذا فرغت من ترجمة الموجود فرغت لترجمة المستجد، فلا يكون بين ظهور الكتاب في أوربا وظهوره في مصر إلا ريثما يترجم هنا ويطبع. أما نفقات الدار فلا تزيد على مائة ألف جنيه؛ وقد تنقص إلى نصف ذلك إذا ساهم فيها الأمراء والأغنياء وجامعة الدول العربية. على أن ما ينفق في سبيل هذا العمل العظيم يقل مهما كثر في جانب ما يؤتيه من تجديد اللغة، وتطعيم الأدب، وتعريب العلم، وتعميم الثقافة، وتدعيم النهضة، وتسيير القراءة، وتشجيع القارئ، وفي تحقيق منفعة واحدة من هؤلاء تخليد لذكر من قام بهذا العمل أو شارك فيه أو أعان عليه؛ فما بالك إذا حقق هذه المنافع جمعاء؟
ذلك جوهر الفكرة يا معالي الوزير عرضته عليك، أما النظر في تأثيلها وتفصيلها فأتركه إليك.
احمد حسن الزيات