الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 615/القضايا الكبرى في الإسلام

مجلة الرسالة/العدد 615/القضايا الكبرى في الإسلام

مجلة الرسالة - العدد 615
القضايا الكبرى في الإسلام
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 16 - 04 - 1945

13 - القضايا الكبرى في الإسلام

قتل مالك بن نويرة

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

كان مالك بن نويرة التميمي اليربوعي شاعراً شريفاً، معدوداً في فرسان بني يربوع الجاهلية وأشرافهم، وبلغ من أمره أنه كان يضرب به المثل فيقال: مرعى ولا كالسعدان، وماء ولا كصداء، وفتى ولا كمالك. وبلغ من شرفه أنه كان يردف الملوك، وللردافة موضعان إحدهما أن يردفه الملك على دابته في صيد أو غيره من مواضع الأنس. والموضع الثاني أنبل وهو أن يخلف الملك إذا قام عن مجلس الحكم، فينظر بين الناس بعده. ولكنه كان فيه خيلاء، لما كان يرى من نبله وجماله.

وقد وفد على النبي ﷺ فيمن وفد عليه من العرب، فاستعمله على صدقات قومه بني يربوع، وقد مات ﷺ وهو عامل على تلك الصدقات فلما بلغه موته اضطرب فيها فلم يحمد أمره، وفرق ما في يده من إبل الصدقة، فكلمه القرع بن حابس والقعقاع بن معبد فقالا له: إن لهذا الأمر قائماً وطالباً، فلا تعجل بتفرقة ما في يدك. فقال:

أراني الله بالنعم المندى ... ببرقة رحرحان وقد أراني

تمشي يا ابن عوذة في تميم ... وصاحبك الأقيرع تلحياني

ويعني أم القعقاع، وهي معاذة بنت ضرار بن عمرو.

وقال أيضا:

وقلت خذوا أموالكم غير خائفٍ ... ولا ناظر فيما يجيء من الْغَدِ

فإن قام بالأمر المُخَوَّف قائمٌ ... منعنا وقلنا الدِّينُ دينُ مُحمدِ

يعني أنهم لا يدينون إلا له، فإذا مات لا يدينون بعده لانتفاء أمر النبوة.

فلما فعل مالك ذلك في كثير من العرب الذين ارتدوا ومنعوا الزكاة بعد وفاة النبي ﷺ، أرسل أبو بكر إليهم خالد بن الوليد وغيره في جيوش من المهاجرين والأنصار، وكان فيما أوصاهم: إذا نزلتم فأذنوا وأقيموا، فإن أذن القوم وأقاموا فكفوا عنهم، وإن لم يفعلوا فلا شئ إلا الغارة، ثم اقتلوا كل قتلة الحرق فما سواه، فإن أجابوكم إلى داعية الإسلام فسالموهم، فإن هم أقروا بالزكاة قبلتم منهم، وإلا فلا شئ إلا الغارة ولا كلمة.

وقد قصد خالد بن الوليد مالكاً بعد أن فرغ من أسد وغطفان وغنى، فلما علم مالك بقصده ندم وتحير في أمره، ففرق قومه في أموالهم ونهاهم عن الاجتماع، فلما وصل خالد إلى مكانهم لم يجد فيه أحداً، فبعث السرايا وأمرهم برعاية وصية أبي بكر رضى الله عنه، فجاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر من بني ثعلبة بن يربوع وغيرهم، وقد اختلفت السرية فيهم، وكان أبو قتادة رضى الله عنه فيمن شهد أنهم قد أذنوا وأقاموا وصلوا، فلما اختلفوا فيهم أمر خالد بحبسهم، وكانت ليلة باردة لا يقوم لها شئ، وجعلت تزداد برداً، فأمر خالد مناديا فنادى: أدفئوا أسراكم. وكان في لغة كنانة إذا قالوا: ادفأنا الرجل وأدفئوه، فذلك معنى اقتلوه، وفي لغة غيرهم: أدفئوه من الدفء. فظن القوم أنه يريد القتل، فقتلوهم على هذا الظن، وكان ضرار بن الأزور هو الذي قتل مالكا، فخرج خالد وقد فرغوا منهم، فقال: إذا أراد الله أمراً أصابه. وقد وقع خلاف بين القوم في قتلهم، وقال أبو قتادة لخالد: هذا عملك. وقد عاهد الله ألا يشهد حرباً بعدها أبداً.

وهناك رواية أخرى أراها أقرب من هذه الرواية، وهي أن خالداً راجع مالكا فيما فعله، فقال له مالك: إني آتي بالصلاة دون الزكاة. فقال له خالد: أما علمت أن الصلاة والزكاة معاً، لا تقبل واحدة دون أخرى. فقال مالك: قد كان صاحبك يقول ذلك. ففهم خالد أنه يعني النبي ﷺ، فقال له: وما تراه لك صاحباً، والله لقد هممت أن أضرب عنقك. ثم تجاولا بالكلام طويلا، فقال له خالد: إني قاتلك. فقال له مالك: أو بذلك أمرك صاحبك؟ فقال له خالد: وهذه بعد تلك، والله لأقتلنك. ثم قدمه فضرب عنقه وعنق أصحابه، وقد اختلفوا أيضاً في قتلهم على هذه الرواية، ومن يؤاخذ خالداً يرى أن هذا ليس بصريح في الكفر، لأن مثل هذا يمكن أن يعد من جفوة الأعراب، ويجوز أن يكون قد عنى بصاحبه أبا بكر

وكان لمالك امرأة فائقة في الجمال، تسمى أم تميم بنت المنهال، فلما قتله خالد تزوج امرأته قبل أن يستبرئها، ثم تركها حتى ينقضي طهرها، فأكثر في ذلك القالة على نفسه، حتى أتهمه أناس بأنه إنما قتله لأجل أن يخلفه عليها.

فلما قتل مالك قصد أخوه متمم بن نويرة أبا بكر ينشده دم أخيه، ويطلب إليه في سبيلهم، وكان شاعراً جيد الشعر، فلما وصل المدينة صلى مع أبي بكر الصبح، ثم أنشد:

نعم القتيل إذا الرياح تناوحتْ ... تحت الإزار قتلتَ يا ابن الأزْوَرِ

أدعوته بالله ثم قتلَتهُ ... لَوْ هُو دعاك بذمة لم يغدر

فقال أبو بكر: والله ما دعوته ولا قتلته. فقال:

لا يضمر الفحشاء تحت ردائه ... حلو شمائُلهُ عفيف المِئزَرِ

ولنعم حشو الدرع أنت وحاسراً ... ولنعم مأوى الطارق المُتَنَوِّر

ثم بكى حتى سالت عينه، ثم انخرط على سية قوسه مغشياً عليه، ولما أفاق طلب من أبي بكر دم أخيه، وأخذ يدافع عن قضيته بالشعر والنثر أحسن دفاع، ومضى يطري أخاه ويذكر محاسنه ويرثيه حتى لفت أهل المدينة إليه، وصار شعره حديث أنديتهم ومجالسهم، ومن ذلك قصيدته المشهورة في الرثاء، وهي معدودة من عيون المراثي:

لَعَمْريِ وما دهري بتأبين مالكٍ ... ولا جَزِعٌ مما أصاب فأوجعَا

لقد كَفَّنَ المنهال تحت ردائه ... فتى غير مِبْطَان العَشيّات أرْوَعَا

وقد صلى يوماً الصبح مع عمر بن الخطاب، فلما انفتل من صلاته سأل عنه فقيل إنه متمم بن نويرة , فاستنشده قوله في أخيه، فأنشده هذه القصيدة حتى بلغ إلى قوله:

وكنا كندمانيْ جذيمة حقبةً ... من الدهر حتى قيل لن يتصَّدَعا

فلما تفرقنا كأني ومالكا ... لطول اجتماع لم نَبِت ليلةَ مَعَا

فقال عمر: هذا والله التأبين، ولوددت أني أحسن الشعر فأرثي أخي زيدا بمثل مارثيت به أخاك.

وكان عمر رضى الله عنه من الذين رأوا مؤاخذة خالد بقتل مالك وتزوجه امرأته قبل استبرائها، فذهب إلى أبي بكر وقال له: إن في سيف خالد رهقا، وحق عليه أن يقيده. وأكثر عليه من ذلك.

فلما رأى أبو بكر ذلك كتب إلى خالد أن يقدم عليه، فأقبل قافلا حتى دخل المسجد وعليه قباء، وعليه صدأ الحديد، معتجراً بعمامة قد غرز فيها أسهما، فلما أن دخل المسجد قام إليه عمر فانتزع السهم من رأسه فحطمها، ثم قال: أقتلت امرءوا مسلما ثم نزوت على امرأته، والله لأرجمنك بأحجارك. فلم يكلمه خالد، وظن أن رأي أبي بكر على رأي عمر فيه.

فلما دخل على أبي بكر سأله عما فعل، فأخبره بما كان منه وذكر عذره فيه، ثم شهد قوم من السرية أن مالكا وقومه أذنوا وأقاموا وصلوا، وشهد آخرون أنه لم يكن من ذلك شئ فقتلوا.

فرأى أبو بكر أن خالدا لا يعدو أمره أنه تأول فأخطأ، وأن الشهود مع هذا مختلفون في شهادتهم، والجناية في الشرائع الحديثة يكفي مثل هذا في سقوطها في حال السلم، فما ظنك بحال الحرب، فلا يصح أن يؤخذ خالد بالقود مع هذا وهو ذلك البطل الذي أبلى في حروب الردة أحسن البلاء، حتى قضى على تلك الفتنة التي كادت تقضى على الإسلام في مهده، وتعيد بلاد العرب إلى ما كانت عليه من وثنية مظلمة، وفوضى هادمة مخربة، وما كان مالك إلا ممن أغواهم الشيطان فأوقدوا نار تلك الفتنة في بلاد العرب، فذهبت فيها نفوس كثيرة من المسلمين كانت دماؤهم أذكى من دم مالك، وكانوا أكرم على الله منه، وإذا صح أنه عاد إلى الإسلام فقد عاد إليه والسيف مصلت على رأسه، فهو إسلام محوط بالشك، لا يصح أن يؤخذ فيه إسلام لم يجد الشك إليه سبيلا، ولم تزعزعه الفتن كما زعزعته.

فلما نظر أبو بكر إلى ذلك كله حكم بعذر خالد فيما فعل، وتجاوز له عما كان في تلك الحرب، ولكنه عنفه على مبادرته بتزوج امرأة مالك قبل أن تمضي مدة استبرائها، ثم قضى لمتمم ابن نويرة بدية أخيه من بيت المال، وحكم له برد السبي.

فخرج خالد حين رضى عنه أبو بكر وعمر لا يزال جالسا بالمسجد، فقال له خالد: هلم إلى يا ابن أم شملة. فعرف عمر أن أبا بكر قد رضى عنه فلم يكلمه ودخل بيته.

وقد أصر عمر على رأيه في خالد حتى صارت إليه الخلافة، فكان من أول ما بدأ به أن عزل خالدا من قيادة جيش الشام، وولى مكانه أبا عبيدة بن الجراح، ولاشك أن أبا بكر كان أدق نظراً في هذا من عمر، وقد قال لعمر لما ألح عليه أن يعزله، وقال له أن في سيفه لرهقا: لا يا عمر، لم أكن لأشيم سيفاً سله الله على الكافرين.

فرحمك الله يا أبا بكر، لقد عرفت أن مثل خالد من أبطال التاريخ إنما يحيا لأمته، فلا يضيره أن يعزل من قيادة أو نحوها، وإنما يضير ذلك أمته التي تحرم من حسن جهاده، وتتعرض جيوشها للهلاك حين تفقد قائدها المدرب، وبطلها الذي يقودها من نصر إلى نصر، وما الأمة إلا بزعمائها، وما الجيوش إلا بقادتها، فلا يليق أبدا أن نغمط جهادهم بهنة من الهنات، ولايصح أن ننسى ماضيهم المجيد لزلة من الزلات، فهم بشر مثلنا يصيبون ويخطئون، فيجب أن يعذروا في خطئهم، لأنهم لا يقع منهم من عمد، والعصمة لله وحده.

عبد المتعال الصعيدي