مجلة الرسالة/العدد 614/رسالة الفن
→ فلاسفة المجتمع | مجلة الرسالة - العدد 614 رسالة الفن [[مؤلف:|]] |
من وراء المنظار ← |
بتاريخ: 09 - 04 - 1945 |
4 - الفن
للكاتب الفرنسي بول جيزيل
بقلم الدكتور محمد بهجت
التمثيل
كنت أتحادث مع رودان بمرسمه في أصيل يوم من الأيام، وقد أخذ الظلام يرخي سدوله فسألني فجأة:
(هل سبق لك أن عاينت تمثالاً قديماً على ضوء مصباح؟) فأجبته في شيء من التعجب: (كلا، أبداً).
(حسن، سأدهشك. فلربما بدا لك أن معاينة التماثيل في غير ضوء النهار أمر غير مألوف. صحيح أنك تستطيع أن تستجليها على أكمل وجه في وضح النهار ولكن تمهل قليلاً فسأطلعك على تجربة تخرج منها بفائدة محققة).
وعند ذلك أشعل مصباحاً أخذه بيده ثم قادني إلى تمثال من رخام قائم على منصة في ركن من أركان المرسم. كان نسخة جميلة مصغرة من تمثال زهرة مديسي وقد احتفظ به رودان هناك كيما تستعر به نار وحيه وإلهامه عندما يعمل.
(اقترب مني) قال ذلك ثم رفع المصباح إلى جانب التمثال وقربه منه حتى كاد يلمسه، وسلط الضوء كله على الجسم، ثم سألني عما عساي أن ألاحظه. ولأول لمحة أخذت أخذاً عجيباً بما بدا لي فجأة إذ أظهر الضوء وهو من ذلك الوضع نتوءات وانخفاضات هينة عديدة منتشرة على سطح الرخام مما لم أكن أتوقع مشاهدته. وهذا ما أجبت به رودان على سؤاله فصاح موافقاً: (حسنا، انتبه جيداً). وعند ذلك أدار المنصة التي يقوم عليها التمثال. وكنت لا أزال أبصر في جسم التمثال وهو يدور عدداً عديداً من تلك الفحصات التي تكاد تدق على الأعين. وبدا لي ما كان بسيطاً في أول الأمر غير بسيط، وإذ ذاك رفع رودان رأسه وصاح مبتسماً: (أليس ذلك عجيباً؟ اعترف بأنك ما كنت تتوقع اكتشاف الكثير من تلك التفاصيل. انظر إلى تلك التموجات العديدة على الجزء الذي يصل الفخذ ببقية الجسم.
لاحظ كل انحناءات الورك الشيقة، ثم هنا تلك، الفحصات المليحة الفاتنة التي على طول الأرداف).
قال ذلك في صوت خفيض به حرارة التعبد ونبرات الخشوع وقد انحنى فوق التمثال كأنما شغف به حباً وقال: (حقاً إنه من لحم). ثم لمعت عيناه وقال: (يخيل إليك أنه قُد من العناق والقبل لا من الحجر الصلد). وبعد أن وضع يده على الدمية قال فجأة: (عندما تلمس هذا التمثال تحس كأن الحرارة تسري فيه) وبعد لحظات قليلة عاد فقال:
(حسن. وما قولك الآن في تلك الفكرة السائدة عن الفن الإغريقي؟ يقولون، وأخص بالذكر أصحاب المدرسة القديمة الذين نشروا هذه الفكرة، إن القدماء في عبادتهم للمثل الأعلى احتقروا الجسد أيما احتقار وأرخصوا من شأنه وأبوا أن يظهروا في أعمالهم دقائق الحقائق المادية العديدة. يدعون أن القدماء أرادوا أن تجاريهم الطبيعة في خلق جمال متخيل مبسط يروق للذهن فقط ولا يستثير الحواس. ويضربون لذلك الأمثال التي يتوهمون أنهم وقعوا عليها في الفن القديم، ويتخذون من ذلك حجة على تهذيب الطبيعة وتخنيثها وقصرها على حدود ضيقة جافة فاترة عقيمة لا تمت إلى الحقيقة بصلة.
ومما لا مشاحة فيه أن الإغريق بالغوا في إظهار ما يجب إظهاره بما أوتوا من عقول منطقية جبارة. لقد أفصحوا عن أهم المميزات البارزة في النوع الإنساني، ومع ذلك فإنهم لم يطمسوا شيئاً من التفاصيل الدقيقة الحية. إنهم كانوا يقنعون بمزجها وإدماجها في المجموع. وبينما تراهم مولعين بالحركات المنسجمة المتزنة الهادئة تراهم يخضعون أو يضعفون في غير ما تعمد كل ما شأنه أن يؤثر في جمال أو رواء حركة من الحركات، ولكنهم تحاشوا أن يمحوها كل المحو.
إنهم لم يبتدعوا قط طريقة أو أسلوباً من العمايات والأضاليل، كان ديدنهم أن يظهروا الطبيعة كما يرونها، يحدوهم في ذلك حبهم واحترامهم لها. ولقد أثبتوا إثباتاً قاطعاً في كل المناسبات شغفهم الشديد بالجسد. وإنه لمن البله أو الخبل أن نعتقد أنهم كانوا يحتقرونه، إذ لم يثر جمال الجسم الإنساني شعوراً أرق وأعمق مما أثاره في نفوس الإغريق، حتى لتبدو تماثيلهم التي نحتوها كأنما يطيف بها طائف من النشوة والوله. وعلى هذا الأساس يفسر الفارق العظيم الذي لا يتصور بين المثل الأعلى الزائف عند المدرسة القديمة وبين الفن الإغريقي. فبينما نرى في أعمال القدماء أن تعميم الخطوط ما هو إلا مجموع أو (كل) يتكون من التفاصيل والدقائق، نرى التبسيط المدرسي خوراً وضعفاً، نراه خاوياً كالطبل الأجوف. وبينما نرى الحياة تهيمن على عضلات التماثيل الإغريقية النابضة وتبعث فيها الحرارة والدفيء نرى دمى الفن المدرسي كأنما أثلجها الموت). وهنا صمت رودان هنيهة عاود بعدها حديثه قائلا:
سأطلعك على سر عظيم. أتدري كيف أمكن أن نحس دبيب الحياة في تمثال فينوس الذي نحن بصدده؟ بواسطة علم التمثيل. ولربما بدت لك هذه الكلمات تافه عادية ولكن صبراً فستسبر غور أهميتها بعد حين.
أخذت علم التمثيل عن معلم يسمى كنستانت كان يعمل في المرسم الذي ظهرت فيه أول مرة كمثال محترف. فبينما كان يراقبني يوما وأنا أعمل في رأس يكلله إكليل من الغار إذ صاح بي قائلا: يارودان! إنك لا تسير بهذا في الطريق السوي. فكل أوراقك منسطحة ولهذا فهي لا تبدو طبيعية. اجعل أطراف بعضها متجهة نحوك حتى يشعر من يراها أن لها أبعادا وأغوارا. عملت بمشورته؛ ولشد ما دهشت من النتيجة التي حصلت عليها.
ثم عاود كنستانت نصيحته قائلا: فلتذكر دائما ما سأقوله لك الآن. عندما تطبع في الطين أو تحفر لا تنظر إلى الجسم في طوله ولكن في ثخانته، ولا تعتبر سطحاً من السطوح إلا كحد أو نهاية لحجم ما، أو كالطرف الذي يوجهه إليك ذلك السطح. إنك أن تمارس ذلك تحصل على علم التمثيل؟ ولقد وجدت هذه القاعدة مفيدة أيما فائدة. ومن ثم طبقتها على صنع التماثيل. فبدلا من أن أتصور أجزاء الجسم مسطحات كثيرة الانبساط أو قليلة أبرزتها كنتوءات ذات أحجام داخلية. وقد حاولت جهدي أن يدل كل نتوء في الصدر أو الأعضاء على عضلة أو عظمة تحت الجلد، وهكذا يبدو صدق تماثيلي منبعثاً من الداخل كالحياة نفسها لا سطحياً تافها.
ولقد تبين لي الآن أن الأقدمين مارسوا هذا الضرب من التمثيل بحذافيره. ومما لا ريب فيه أن ما نراه من نضارة وطراوة أعمالهم التي تنبض بالحياة إنما يرجع إلى اتباعهم هذه الطريقة في أشغالهم.
وهنا تأمل رودان تمثال الزهرة من جديد ثم سألني فجأة: (ما رأيك ياجيزيل؟ هل اللون صفة من صفات التصوير أو النحت؟)
فأجبته: (من صفات التصوير طبعا).
فقال: (حسن. انظر إلى هذا التمثال). قال ذلك ثم رفع يده بالمصباح إلى أعلى ما يستطيع لكي يلقي بكل الضوء على صدر الدمية ثم قال:
(انظر إلى الأضواء القوية التي على الثديين، وإلى الظلال الثقيلة التي في ثنايا اللحم، ثم إلى هذه الصفرة الباهتة، ثم إلى تلك الألوان الأثيرية التي تخفق على أدق أجزاء هذا الجسم المقدس، ثم إلى تلك الأجزاء المظللة بظلال خفيفة حتى لتبدو كأنها تذوب في الهواء وتندمج فيه. ماذا تقول في كل ذلك؟ ألا يخيل إليك أنها قطعة موسيقية مؤلفة من الأبيض والأسود أو من الأضواء والظلال؟)
(وربما بدا لك في قولي بعض التناقض الظاهري إذا ما قررت بأن المثال العظيم لا يقل مهارة في فن الألوان عن أكبر المصورين، بل عن أكبر الحفارين وذلك لأنه يتفنن بكل حذق في كل ضروب التمثيل البارز وصنوفه، ويمزج حدة الضوء بهدوء الظل فتجيء قطعة سارة ممتعة كأجمل الرسوم المنقولة عن ألواح النحاس
والآن - وقد ازدت أن أصل بحواري إلى هذه النتيجة - أقول إن اللون هو زهرة التمثيل الجميل، وإن اللون والتمثيل صنوان لا يفترقان، وهما اللذان يسبغان على كل قطعة خالدة من أعمال النحت ذلك المظهر الوضيء للجسم الحي).
دكتور محمد بهجت
قسم البساتين