مجلة الرسالة/العدد 611/يوحنا الدمشقي
→ سهام ماضية | مجلة الرسالة - العدد 611 يوحنا الدمشقي [[مؤلف:|]] |
على هامش النقد ← |
بتاريخ: 19 - 03 - 1945 |
للدكتور جواد على
- 2 -
ذكرنا أن يوحنا جادل المسلمين في طبيعة المسيح، وأنه وضع خطة للمسيحيين وجادة ثابتة للبحث والمناظرة استهلها بهذه الكلمة: (إذا سألك العربي ما تقول في المسيح؟ فقل له إنه كلمة الله، ثم ليسأل النصراني المسلم بعد ذلك بم سُمَّي المسيح في القرآن؟ وليرفض أن يتكلم بشيء حتى يجيبه المسلم فإنه سيضطر إلى أن يقول: (كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه)، فإن أجاب بذلك، فاسأله: هل كلمة الله وروحه مخلوقة أو غير مخلوقة؟ فإن قال مخلوقة فليرد عليه بأن الله إذاً كان ولم تكن له كلمة ولا روح. فإن قلت ذلك فسيفحم العربي، لأن من يرى هذا الرأي زنديق في نظر المسلمين).
قال المستشرقون: أثار يوحنا بهذا السؤال وبأمثاله مشاكل خطيرة في الإسلام كمشكلة (خلق الأفعال) ومشكلة (خلق القرآن) ومشكلة (صفات الله) وإضرابها. لأنه استدرجهم على رأيهم بهذه الأسئلة والأجوبة إلى أمور لم يكن المسلمون يخوضون فيها. وهو رأي لا يسمح لنا الموقف بالتعرض له لأننا في موضع ترجمة شخص لا في موضع مناقشة آراء.
على أن في كتب الأخبار والفرق والتواريخ ما يتعارض مع كثير من عقائد مذهب المستشرقين. وما بالنا نذهب بعيداً وفي عبارة يوحنا نفسها ما يفند هذا الرأي ويدحض هذا الزعم؟ جاء على لسانه: (فسيفحم هذا العربي لأن من يرى هذا الرأي زنديق في نظر المسلمين)، ومعنى هذا أن جماعة من المسلمين كانت تتباحث في صفات الله أهي قديمة أزلية أم حادثة ومن جملة ذلك كلام الله. والمعروف أن جعد بن درهم الذي ذبحه خالد بن عبد الله القسري في عيد الأضحية، والذي كان أستاذ مروان بن محمد الجعدي آخر خلفاء بني أمية كان من القائلين بخلق القرآن.
وأما (القدر) والقدرية فقد وردت في القرآن الكريم آيات تدل على أن الإنسان مخير قادر على أفعاله. كما وردت آيات تدل على عكس ذلك، وقد ورد مثل ذلك في الحديث.
ويستشهد (المعتزلة) ومن يذهب مذهبهم على صحة دعواهم بآيات من القرآن الكريم وبأحاديث من أقوال الرسول. وقد ورد على لسان الصحابة ما يدل على أن بعض أصحاب رسول الله كانوا يذهبون هذا المذهب. خذ ما جاء في كتاب (نهج البلاغة) لما سئل الإمام علي بن أبي طالب (أكان مسيرنا إلى الشام بقضاء من الله وقدر)، وقد أجاب الإمام (بكلام طويل هذا مُختاره).
(ويحك لعلك ظننت قضاء لازماً وقدراً حاتماً. ولو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد. إن الله سبحانه أمر العباد تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلف يسيراً، ولم يكلف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يُعص مغلوباً، ولم يطع مُكرهاً، ولم يرسل الأنبياء لعباً، ولم ينزل الكتب للعباد عبثاً، ولا خلق السموات والأرض وما بينهما باطلا (ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار).
وروي عن على كل ما يخالف هذا الكلام، يرويه أصحاب نظرية (لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه). وروي عن نافع أن رجلا جاء إلى ابن عمر، فقال: إن فلاناً يقرأ عليك السلام. فقال ابن عمر: أنه بلغني أنه قد أحدث التكذيب بالقدر، فإن كان قد أحدث فلا تقرأ مني عليه السلام).
وذكر ابن العبري أن معاوية بن يزيد الأول كان قدرياً (من المؤمنين بالاستطاعة)، وأن عمراً المقصوص كان قد علمه ذلك فدان به وتحققه، ولم يزل به حتى أفسد رأيه فلم يقبل بالخلافة، فوثب بنو أُمية على عمرو المقصوص وقالوا أنت أفسدته وعلمته، فطمروه ودفنهو حيَّا.
إلى آخر ما هنالك من أخبار تدل على أن (القدرية) أو (قدرة الإنسان على خلق أفعاله) كانت قد انتشرت لدى المسلمين قبل أن ينشأ يوحنا بل وقبل جداله مع المسلمين. وأن هذه الفكرة كانت قد اتخذت شكلا اجتماعياً سياسياً خطيراً. روي (أن رجلا قال لابن عمر: ظهر في زمامنا رجال يزنون ويسرقون ويشربون الخمر ويقتلون النفس التي حرم الله ثم يحتجون علينا ويقولون: كان ذلك في علم الله: فغضب ابن عمر وقال: سبحان الله، كان ذلك في علم الله، ولم يكن علمه يحملهم على المعاصي).
وكان بنو أمية باستثناء نفر منهم يكرهون القدرية ومن كان يقول بها، وقد نكلوا بالقدريين كل التنكيل، ولذلك لم يكن المعتزلة وهم خلفاء القدريين يعطفون على الأمويين.
(وبنو أمية كانوا يكرهون القول بحرية الإرادة، لا ديناً فقط، ولكن سياسياً كذلك، لأن الجبر يخدم سياستهم. فالنتيجة للجبر أن الله الذي يسير الأمور قد فرض على الناس بني أمية كما فرض كل شيء ودولتهم بقضاء الله وقدره. فيجب الخضوع للقضاء والقدر).
كذلك أتى عطاء بن يسار ومعبد الجهني الحسن البصري وقالا: يا أبا سعيد، هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين ويأخذون أموالهم ويقولون إنما تجري على قدر الله تعالى.
فلأحداث السياسية التي حدثت بعد وفاة الرسول، والأوضاع الاجتماعية هي التي أثارت تلك المشكلة التي وردت في القرآن الكريم وفي أحاديث الرسول مع غيرها من المشاكل التي كان الصحابة يحجمون عن الخوض فيها وأعني بها مشكلة المتشابهات.
روى العلماء أنه (في عهد الفاروق رضي الله عنه، أخذ رجل يقال له صبيغ بن عسل يسأل عن المتشابه ويتكلم فيما لا يعنيه مما قد يحدث فتناً بين العامة، فطلبه عمر وقال له: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ، وقال عمر: أنا عبد الله عمر. فأخذ يضربه بعراجين النخل حتى دمي رأسه. فقال صبيغ: حسبك يا أمير المؤمنين، قد ذهب الذي كنت أجده في رأسي، ثم نفاه إلى البصرة حتى صلح حاله.
وعلى كل فقد حدثت هذه المشكلة، مشكلة القدر والاستطاعة قبل أن يخلق يوحنا بزمن، فلا يصح إذاً أن يقال بأن يوحنا كان هو مثير هذه المشكلة في الإسلام، وأن نظرية (القدر) دخلت عن طريق النصرانية وحدها إلى الإسلام بدليل ظهور هذه المشكلة في الشام، والشام ملتقى النصرانية في الجزيرة العربية، وبظهور هذه المشكلة في العراق على يد نصراني يقال له سوسن، كان نصرانياً فأسلم، وكان أول من نطق في القدر، وعنه أخذ معبد الجهني، وعن معبد هذا أخذ غيلان الدمشقي. فقد رأينا على أن القول بالقدر كان قديماً وعلى أنها لم تقتصر على الشام والعراق، بل ظهرت في الحجاز كذلك بنفس الوقت الذي ظهرت فيه الفتن السياسية، إن لم يكن قبل ذلك. وفي رواية ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأنس بن مالك ما فيه الكفاية والتسليم. ولا عبرة أيضاً بإسناد كتب الفرق هذه الفكرة إلى نصراني معين أو مجهول فقد عودتنا هذه الكتب نسبة الفرق المخالفة إلى اليهودية أو المجوسية أو الوثنية والديصانية، وهي عادة كانت متبعة لدى جميع أهل الأديان.
(يتبع)
جواد علي