الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 61/العلوم

مجلة الرسالة/العدد 61/العلوم

بتاريخ: 03 - 09 - 1934


بعض الأسماك الغريبة بالبحر الأحمر

للدكتور كرسلاندا

مدير محطة الأحياء البحرية بالغردقة

لم تمض بضع سنوات قليلة على إنشاء الجامعة المصرية حتى فطنت إلى أهمية البحر الأحمر من الوجهة البيلجية. فأقامت على شاطئه الغربي محطة الأحياء البحرية بالغردقة لمساعدة البحاث من العلماء على دراسة هذا البحر واستنباط أسراره. وهنالك في هذه المحطة يمكننا أن نشاهد دون ما عناء تلك الحيوانات الغريبة التي تختلف كثيراً عن حيوانات البحار الشمالية والبحر الأبيض المتوسط، والتي لم يرها حية إلا نفر قليل من العلماء تكلفوا في سبيل ذلك من المال والعناء الشيء الكثير.

ويكفي أن تجرف قاع البحر - قريباً من مرسى المحطة حيث تغزر الحشائش - بجرافة صغيرة كي تحصل على نحو من ثلاثين نوعاً من الأسماك الصغيرة، أغلبها غريب في شكله وعاداته. ومن هذه الأسماك فرس البحر والأسماك الأنبوبية الفم ولا يبدو فرس البحر لأول وهلة من الأسماك، لولا زعانفه الصغيرة. وقد فقد زعنفته الذنبية فليس يفيد الذنب في العوم، وإنما يلتف حول الحشائش التي يعيش بينها فرس البحر فيمسك بها. أما الأسماك الأنبوبية الفم فبرغم جسمها العضوي الشكل الكثير الحراشيف، فهي أشبه بالأسماك العادية من فرس البحر ويمكننا أن نرى جلياً حلقة الاتصال بينها وبين فرس البحر. فهنالك واحدة من الأسماك الأولى ذات ذنب قابض قد فقد زعنفته، فإذا أخذت هذه السمكة وثنيت رأسها بزاوية قائمة ونفخت بطنها حصلت على فرس البحر. . كل هذه الأسماك تشابه الحشائش البحرية في لونها، وتحمل نقطاً حمراء قاتمة أو سمراء تشبه تماماً صدأ الحشائش التي تعيش بينها.

وتبلغ مشابهة الأسماك للحشائش أقصاها في نوع ماصة الفم

فهذا النوع يبلغ في الطول ثمانية سنتيمترات، ومع ذلك تصعب رؤيته جداً بين الحشائش التي يعيش بينها، حتى خارج الماء. ويخيل لناظر الصورة أن هذه السمكة سهلة الرؤية لشكلها الغريب، ولكن جسمها الرقيق ذا اللون الأخضر وزعانفها الصدرية العريضة والنقط السوداء المنتشرة عليها، كلها تكسبها شكلاً يحول كثيراً دون رؤيتها الحشائش خارج الماء. فكم تتعذر رؤيتها في مكانها الطبيعي؟

وهناك جنس آخر لا يمُتّ إلى الأسماك الأنبوبية الفم بصلة يعرف بالأمفسيل يشبه الأولى في فمها الأنبوبي الماص، وتغطي جسمه حراشيف كبيرة ملتصق بعضها ببعض، تكسب السمكة صلابة في الحركة - وجسم أسماك هذا الجنس مفرطح رقيق صلب، فهو أشبه شيء بحد السكين، ولا ينتهي بالذنب كالمعتاد، فقد تحول هذا من مكانه الأصلي وتقدم قليلاً نحو الجهة البطنية. وستدل من زعانفها الصغيرة على بطء حركتها - ولا يمكننا أن نتكهن كيف يعيش هذا السمك الغريب، إذ يصعب الحصول عليه حياً أو على الأقل في حالة جيدة، وذلك بالرغم من صلابة حراشيفه التي هي بالنسبة إلى حجمه أقوى من درع التمساح. والمفروض كما وصف بولانجيه في كتابه (المربي المائي) أن هذه الأسماك تتغذى على الحيوانات المائية الدقيقة تمتصها بفمها الأنبوبي.

وتعطينا الأسماك الأنبوبية الفم مثلاً من الأمثلة النادرة بين الأسماك، إذ يحتفظ السمك ببيضه حتى يفقس، وبيرقاته حتى تتطور وتصبح قادرة على الأخذ بأسباب الحياة. والذكر وحده هو الذي يرعى النسل، فله كيس بطني تضع الأنثى ببيضها وتثبته ببعض على شكل كرة، تمسكها بفمها فتسد فتحته حتى ليستحيل الغذاء، والغريب أنها مع ذلك تتنفس - ومن طبيعة الأسماك الكبيرة أن تأكل الصغيرة، سواء أكانت من نوعها أم لا. وهنا نرى جلياً ظهور غريزة تخالف تماماً الطبيعة العامة للأسماك، وهي تشبه في ذلك غريزة بعض الأقراش الكبيرة يقال إنها تأوي صغارها في فمها - ولا يمكننا أن نقول إن مثل هذه الأسماك يمكنها أن تتعرف صغارها، فإن عقل الحيوانات لم يصل إلى الدرجة الدنيا التي يمكنه معها تمييز صغارها إلا في ملايين السنين بعد أن بلغت الأسماك نهاية تطورها المخي.

وعائلة السكوربينويد كلها أسماك قبيحة المنظر، لها أشواك حادة في كل مكان يمكن أن يظهر فيه الشوك. وكلها ضارة إذا أمسكت، وبعضها خطر يهدد الحياة. إذ أن للأشواك غدداً سامة - ومن أفراد هذه العائلة أسماك صغيرة تعيش بين الحشائش المائية أيضاً، ونحصل عليها بالجرافة. وهذه أدنأ أفراد العائلة وأقلها تخصصاً. فنشأت من ناحية أسماك منتفخة كثيرة التجاعيد والنتوءات (شكل3) هي أقبح المخلوقات، يبدو التمساح بجانبها حيواناً جميلاً وديعاً. وقد بلغت هذه الأسماك حد مشلبهة الصخور المرجانية في شكلها ولونها حتى لتكاد تستحيل رؤيتها في موضعها الطبيعي إذا وطئها إنسان عاري القدم أو بحذاء رقيق أصابه ألم مبرح قد ينتهي بالموت، وهيغير منتشرة هنا، وأن كان يوجد منها نوعان. وشيء واحد نحمده لها، ذلك أنها تلوذ بالفرار إذا أوجست خيفة أو لمحت إنساناً يسير على الشعاب، فإذا هرعت سهل رؤيتها لوضوح زعانفها الصفراء الفاقعة، في أحد النوعين، وخطوط عريضة بيضاء في ذنب النوع الآخر، فيها تحذير من شرها.

وذهب التطور من الناحية الأخرى إلى سمكة تعرف هنا بالجنّخ - (شكل4) - وهي وأن شابه جسمها جسم الأسماك العادية ملاسة، إلا أن لها رأساً مجعداً كبقية أفراد عائلتها. والزعانف في هذه السمكة تأخذ شكلاً غريباً، إذ تطول أشعتها كثيراً وتصير أشبه شيء بريش الطيور، وليست كزميلاتها تهاب أعداءها، وتحاول التخفي بمشابهة الصخور والأعشاب، بل تبدو جلية واضحة بألوانها الزاهية الجميلة. فجسمها مخطط أسمر وأشهب، بينما ريشها الطويل ملون بالأحمر والأسمر والأبيض. وتكثر الجنانخ (جمع جنخ) هنا - وقد اعتدت أن أزور صخرة مرجانية قريبة من المحطة لأتمتع بمشاهدة المرجان اللين النامي عليها ولألاحظ النجوم الريشية تخرج من جحورها، وتنشر ريشها ساعة الأصيل. وقتئذ يخرج الجنخ من مضجعه ويعوم بتؤدة وهوادة، حتى إذا وصلت إلى هذه الصخرة، دفعت برأسها إلى أسفل، ونشرت أجنحتها الكبيرة أفقياً، ورفعت زعنفتها الذنبية، وهي كالزعانف الظهرية الخلفية والشسرجية رقيقة شفافة تصعب رؤيتها في الماء. وتمكث هكذا طويلاً دون حراك، ولا تزال الغاية من عملها هذا سراً خفياً

البحر الأبيض المتوسط بحر النور والألوان، ولكن الخبيرين بأحيائه يشدههم كثيراً زهاء الألوان في أسماك البحر الأحمر عندما يزورون الغردقة - لا يقتصر ذلك على الأسماك الدقيقة، التي تسبح كالفراش بين الشعاب المرجانية، أو التي يحاور بعضها بعضاً في الكهوف بين المرجان - بل يتعداها إلى الأسماك الغذائية الكبيرة. وقد يظن من ليس لهم خبرة إلا بأسماك المنطقة المعتدلة، أن الصور التي نشرها روبل سنة 1829 لم تكن إلا محاولة ضعيفة لتصوير ألوان هذه الأسماك، وأن فيها قدراً من المغالاة غير يسير، إذ ما كان في استطاعة الطباعة في ذلك العصر أكثر من ذلك. والحقيقة إن روبل لم يغال مطلقاً، بل أن معظم الصور جاءت كأدق ما يكن عمله الآن بالطرق الحديثة، فقد يجتمع في بعض الأحيان الأحمر والأخضر والأزرق والأصفر إلى غير ذلك جنباً إلى جنب في خطوط أو بقع، دون أن يختلط أحدهما بالآخر وأحياناً تمتزج هذه الألوان الواحد بالآخر في أجمل صورة. وأخرى قرمزية لا يداخلها لون آخر، غير أن لها بريقاً فضياً يكسبها جمالاً لا نجده في أي سمكة فارقت الحياة، مهما بلغت من الجمال في حياتها.

كيرس كرملانر

مدير محطة الأحياء البحرية بالغردقة