مجلة الرسالة/العدد 609/أسرار الشعراء
→ في معرة أبى العلاء | مجلة الرسالة - العدد 609 أسرار الشعراء [[مؤلف:|]] |
على هامش النقد ← |
بتاريخ: 05 - 03 - 1945 |
للأستاذ صلاح الدين المنجد
لن تجد صاحب شغف يتسقط أسرار الأدباء، ولا طُلَعةً يتحسس أخبار القراء مثلي. ولا أعرف منهلاً أحلى رشفاً، وأكثر رّياً، وأبلغ عظة من هذه الأسرار، فهي إن لم تهذب وتحذّر تلذ وتهز. وقد تجد فيها ما ترومه. وقد تلتبس عليك الأمور فلا تجد شيئاً. لأن بعض الأدباء يخفون عمداً أسرارهم الصحاح، ويوهمون الناس أسراراً أخرى مزيفات، أو يلوذون بالصمت، فيلصق الناس بهم أشاوي لا عهد لهم بها، ولكنهم يرضون عنها، فالمهم أن يكونوا أحدوثة القوم وسمر المجالس. وما عليهم بعد ذلك إن صح ما ينسبون إليهم، أو بطل، ولكن ما رأيك إذا عثرت على طائفة من رسائل نفر من الأدباء، رسائل الأصدقاء إلى الأصدقاء، التي يفضي بها الإنسان بدخيلة أمره ومكنون سره ومضنون شكوه؟ إنها اعترافات لا يشوبها زيف ولا يعتريها بطلان، فلتقرأ أنموذجات منها ولننظر ماذا نلقي فيها.
ديموندفلاور أديب إنكليزي معاصر؛ شغف بتتبع أسرار الأدباء. فانتخب نهاد المائة رسالة، رسائل الأدباء من أيام شكسبير حتى أيام لورنس، أعني منذ منتصف القرن السادس عشر، إلى هذه الأيام. فأخرجها في كتاب فخم طريف سماه (في اقتفاء أثر الشعر) نقلوه إلى الفرنسية في فجر هذه الحرب وسموه وهو كتاب يغنيك عن ألف كتاب، وسفر لا يحوجك، لكي تفهم ما فيه، إلى كثير من العناء. يصور لك من خلال الرسائل أولئك القراء فترف حولك أطيافهم، وتتمثل في خاطرك أحاديثهم، وتراهم بقلبك، فتحسب أنك معهم ثم تشعر بعد هذا أنك صديق لهم، تحبهم ويحبونك، وتؤثرهم ويؤثرونك، فيفضون إليك بدخائلهم وأسرارهم، ويطلعونك على آرائهم وأفكارهم، بل قد تعلم هجسات قلوبهم ونجويات خواطرهم. وقد تجد فيهم لطفاً وعطفاً، وقد تلقى قسوة وخشونة. ثم إن شئت بعد ذلك أن تعرف شعرهم وطبعهم عليه، ونثرهم وبراعتهم فيه فذلك طوع يديك.
يقول فلاور في مقدمة الكتاب: لا تخدع نفسك أبداً، ولا تجهد كثيراً، ليس لديك وسيلة لمعرفة جوهر الشعر، والنفوذ إليه، والوقوف عليه، سوى القراءة. ينبغي أن تقرأ شعر الشاعر مرة ومرة، ثم تعيد قراءته مثلها، وقد تصل في النهاية إلى ما تريد. ولكن إذ تواردت عليك هذه الأسئلة: كيف ينظم الشاعر؟ أي نوع من الناس هو الشاعر؟ كيف يبدع، وكيف يخفق؟ فليس لديك شيء أكثر جدوى من الرجوع إلى سيرة حياته ورسائله الخاصات إلى صحبه وأصدقائه.
اقرأ هذه الرسائل، تعرف الشاعر حق المعرفة، وتعلم أن عمل الشاعر شاق صعب، طويل مجهد، يبعث الملل ويفضي إلى التعب. وتقف على المشقة التي يلاقيها الكتاب، للبحث عن لفظة أو صوغ جملة يؤدي بهما المعنى الواسع العميق الذي يزخر به صدره. إن من المعاني ما يكون عظيماً واسعاً، ولكن الثوب ضيق، ولابد من البحث والتنقيب، ليكون الثوب قدر المعنى، فيُظهر محاسنه ولا يخفيها، ويستر عيوبه فلا يبديها، ويؤثر في نفس السامع ويحيها.
الحق أن الأديب يجتهد ويتعب. ولكنه لا يشكو ولا يتأفف. وقد يبدو ذلك من فلتات لسانه أو قلمه، وقد يدعى أن لا أسهل عنده سهولة ولا أشد تملكاً من أن ينظم لك أو يكتب ما تشاء، وفي أي وقت تشاء، على حين يكون قد قطع الليالي في البحث عن حرف أو في نظم بيت.
إن هذه الرسائل مجمع حي للقراء الإنكليز وكتابهم. هذا دريدن وهذا وردثورت وذلك كيتز وذاك وهنا هاردي وبينهما بيرون فكلهم أمامي أقرأ رسائلهم فأتمثل وأفكر.
هنا دريدن يكتب إلى ناشر أحد كتبه بلهجة فيها عتب وتهديد:
(إنك لن تستطيع أن تعنى كثيراً بطبع كتابي طبعة جديدة مع التصحيحات التي أشرت إليها. إن أقل خطأ يسوؤنى إلى الأبد).
وإذا كانت غلطة واحدة تسوء دريدن إلى الأبد، فإن وردثورث كان أشد قسوة من دريدن وأقل بناشر كتبه رحمة فقد كتب إليه مرة: (لقد وجدت غلطة في مقدمة مؤلفي الجديد لقد طبعوا بدلا من فينبغي أن تصحح هذه الكلمة في كل نسخة طبعت).
فماذا يقول الناشرون اليوم لو أتاهم وردثورث يطلب إليهم بالقلم ذلك وكان المطبوع آلافاً من الكتاب؟
ثم حول وجهك نحو ولتر سكوت القصصي البارع. الذي يقول عنه هوغو (إنه يهزني ويتلاعب بي كما تهز الريح الورق في الخريف). تحول إليه واسمعه يتحدث عن الإيجاز في الكتابة ويدعو إليه. ويشمئز من النعوت التي يحشو بها الكتاب السطور لا لمعنى فيها ولا لسحر بها. ولكن للإطناب عند الكتاب , ولاستقامة وزن الشعر عند الشعراء. هذه الاستقامة التي يقتضيها علم العروض. حتى إنك لتراه في بعض الأحايين مبشراً بالشعر المرسل الحر محاربا الحشو والتطويل أي حرب، معيباً على بوب أنه ملأ ترجمته الإلياذة حشواً.
وعلى نحو من هذا , تجد الشاعر الأميركي ويتمان فانه يعجب بالإيجاز ويأنف من التطويل. ويكتب عندما أخرج مجموعته الشعرية المسماة (إنني سعيد , لأنني استطعت أن أنزه شعري من كل حشو. وإنني لأنتشي عندما أشعر أن كل كلمة في القصيدة لا غنى عنها، سواء أكان ذلك لوزن الشعر الذي راعيت حفظه، أم للمعنى الذي أردت إظهاره).
ولندع سكوت ينادى بالإيجاز، ولننظر شارل لامب، الدعبوبة المرح، يكتب إلى وردثورث رسالة طريفة، يتهزأ فيها من الكتاب الذين ينبهون قراءهم أو ينصحون لهم: (قد تعلمون وقد لا تعلمون)، (ولا يحسبن القارئ أبدا)، (وتخيلوا إذا استطعتم) وغير ذلك من شبيهات هذه التعييرات التي يعلو الكاتب فيها ويحسب القارئ طفلاً أمامه يلقنه ويعلمه أو يشك بعلمه.
فماذا يقول لامب لو قرأ ما يسوقه الدكتور طه حسين في ثنايا كتاباته من هذه التعبيرات؟
ولامب إلى ذلك يعيب على شعراء عصره أنهم يشطون في وصف المناظر الطبيعية بأوصاف مبتذلة (السماء الزرقاء والشمس الذهبية المتلألئة. . .) فماذا يقول لو سمع اليوم شعراءنا وكتابنا ما يزالون يقولون (النسيم العليل والماء النمير والهواء الرقيق؟)
استمع إليه يكتب إلى صديقه وردثورث، وقد دعاه ليقضى أياماً في الجبال. هذه الرسالة التي تثير دهشتك وشغفك:
(لا يسوؤني كثيراً أنى لم أر الجبل قط في حياتي، فلقد عشت دائماً في لندن. وكنت أشعر دائماً بميل شديد إليها لا يقل عن ميل أصحاب الجبال إلى الطبيعة الجميلة. إن الدكاكين المصفوفة والمصانع التي لا عهد لها والتجارة والزبائن والسيارات الكبيرات والصغيرات والمسارح والمقاهي. وهذا الفوران حول (كوفنت غاردن) وهؤلاء النساء اللندنيات وحراس الليل والسكارى والضجيج، وتلك الحركة الدائمة التي لا تنقطع في أية ساعة استيقظت فيها من الليل والجموع الغفيرة في كل مكان. حتى الأوساخ والوحول. ثم تلك الشمس المضيئة الرفافة فوق البيوت؛ وبائعي الصور المحفورة والأبخرة الفواحة التي تصاعد من مطابخ المطاعم. كل أولئك يملك على أمري ويستولي على مشاعري؛ ويغذيني دائماً، دون أن أشعر بملل قط. إن جمال هذه المناظر يدفعني أحايين كثيرة إلى التنقل ليلاً في الشوارع الملأي بالناس. وإنني لأذرف الدموع في بعض الأحايين من الفرح. ولابد أن تبدو هذه المشاعر غريبة عنك، كما تبدو غريبة عنى مشاعرك نحو الطبيعة والجمال. . .)
فهذا وصف ما فيه ترتيب ولا حسن نسق، وهو مضطرب مشوش ولكنه بارع. لقد تعمد الكاتب هذه الصورة المضطربة تعمداً، ليصور لك لندن المضطربة أيضاً. فبراعتها في اضطرابها وحسنها في قبحها.
صلاح الدين المنجد