مجلة الرسالة/العدد 608/المسألة الأفعوانية!
→ المذاهب الأدبية | مجلة الرسالة - العدد 608 المسألة الأفعوانية! [[مؤلف:|]] |
في المحكمة الشرعية ← |
بتاريخ: 26 - 02 - 1945 |
للأستاذ عبد المنعم خلاف
هلمي يا ذات الخطر والجلالة! إلى قلمي. . كما يقبل الثعبان العظيم زاحف الرأس إلى ساحر ليحطم نابه ويطهر لعابه!
هلمي يا بوق الشيطان ينفخ فيه على القلوب فتكون كالمخالي والخزائن والجيوب، تختزن الأجسام ذات الحجم والكثافة والثقل. . وتمتلئ بالحطام وهي مهبط الأسرار ومجلي الأنوار. .!
هلمي يا دين البشرية الوثنية وقبلة قلبها، وكعبة طوافها وسعيها.! هلمي يا أم الدينار! ذي الغمرة والطرة، والبريق والرنين، والثقل الخفيف والروح اللطيف الذي يسرى به الشيطان إلى الأقداس المغلقة في الضمائر فيفتح به مكان الطهر ويحيله إلى نجس وعهر.!
هلمي يا روح العجل الذهبي الذي يتشكل ويتجسد ويتقمص جسم كل شيء فيتراءى به ويتخايل في صور شتى تذهل العيون عن الحق والشرف والإيمان!
إلى قلمي أيتها الأفعى ذات الرءوس والقرون والألسنة والذيول التي لا عدد لها لأنها أم العدد والحساب!
هلمي أيتها (المسألة الاقتصادية)! يا وكر الجرائم الفردية والاجتماعية والسياسية!
الرباطات الثلاثة
إننا نشعر برباطات ثلاثة تضغط على قلوبنا وتشد عليها وتربطنا بثلاث غايات عظمى هي: (الحياة وما وراء الحياة) و (المال) فالذي يربطنا (بالحياة) هو (الحب) ونتيجته الاندماج في (الزواج) والامتداد في (النسل) تعزية وتعويضاً عن (خلود الذات) وهي الأمل الأكبر الذي لم يتحقق، والذي يربطنا بما وراء الحياة هو (الدين) ونتيجته التعرف إلى الله بارئ الوجود ومفيض الحياة. .
والذي يربطنا بالمجتمع هو (المال) إرضاء لجملة غرائز حادة وشهوات عنيفة تظهر في الأنانية والأثرة والخيلاء وحب التسلط والمباهاة والافتراس وحب الاقتناء والحيازة والتملك وحب (إثبات الذات) مقرونة بغيرها في مجموع. . والرباطان الأول والثاني لكل منهما منطقة تتصل بالجانب الأعلى من الإنسان وتثير في قلبه أشواقاً فيها سمو وفيها رفق ووداعة وحنان ونسيان (للذاتية) و (الأنانية) فلذلك تحيا بهما النفس سعيدة مسعدة، منتفعة نافعة.
أما الرباط الثالث فلا يتصل إلا بمنطقة العواصف والزعازع من النفس، إذ هي مجال الاحتكاك والمنافسة والسباق والصراع بين ذوات مختلفة متفاوتة القوى والمواهب. . وقد سبق الشر من هذه المنطقة إلى الحياة وأفسدها، ولذلك كانت محل العناية والتنظيم والتهذيب، ومحوراً عظيما لشرائع الأرض والسماء، ومثار الحروب قديمها والحديث.
وبدون تسوية (المسألة الاقتصادية)، في العالم وحل (مشكلة العيش) وتوزيع المواد الاقتصادية في الأمة الواحدة وفي الأمم المتعددة في عدالة وإنصاف وتجرد عن الأنانية الشخصية والقومية لا يمكن الاطمئنان إلى مستقبل سعيد للإنسانية
وربما كانت كبرى جرائم الحياة هي جرائم الغنى ومفاسد البطر والترف الطغيان نتيجة لغرور المال. نعم إن للفقر جرائم كبرى أيضاً، ولكنها جرائم ومفاسد هي في الواقع عقوبة (ورد فعل) على جرائم الغني وعدم التوازن الاقتصادي في المجموع.
ولذلك كان من أول الواجب على رجال الروح والفكر أن يجعلوا المسألة الاقتصادية وتنظيمها واعتبار أسسها العادلة محل عنايتهم الفائقة كما يعنون بالمسائل النظرية في اللاهوت والفلسفات والآداب، وأن تكون لهم رقابة ساهرة وجهاد دائم في التدبير والتنظيم الاقتصادي حتى يضمنوا لكل فرد أن ينال حق العيشة بالجسد كما ينال حق الحياة بالروح، وحتى يكفلوا لمثلهم العليا أن تحيا وتتجسد في أشخاص بدل أن تظل طول الحياة ميتة مدفونة في بطون الكتب.
ثم يكون واجبهم الأكبر أن يمنعوا التكالب عليها والتطاغي في رحابها وأن يحملوا المجتمع على السعي إليها في هوادة ورفق وشرف
الحدود في الاقتناء والتوريث
وإن ما تطلبه غرائز التملك وشهوة المال لا يمكن أن يقف عند حد ينتهي إليه. وعلى هذا فواجب أن يدرك الإنسان ذلك ويحد من آماله ومطامعه بما يوافق مصالحه ومصالح الآخرين وإلا القلب كذلك الثعلب الذي ظل يأكل من فريسة حتى امتلأ وعجز عن النهوض والجري فاقتنصه الصائد. .
ومع عدم شعور الجد والأب بحب الحفدة والأبناء له بل مع عدم وجودهم في حياته. . . نجد الأجداد والآباء يغالون في الاقتناء والإثراء بدون حد للمطامع، وبدون التفكير في أن ما زاد على الكماليات في متوسط عمر الإنسان إنما هو حمل باهظ للنفس يرهقها ويكأدها
فينبغي أن يحد الثري ثروته بحيث تكفي ابنه المباشر وحده. أما الحفدة والأسباط فيجب إهمال التفكير في توريثهم وعدم تضحية المجتمع والمروءة مع الناس من أجلهم وهم في عالم الغيب. .
الأسرة تتسع
ولماذا يلزم الإنسان أن يعول أهله الأدنين وذريته الضعاف ولا يلزم بإعالة اخوته في الوطن من العجزة المحتاجين وهم أسرته أيضاً بالمعنى الواسع؟ لا بد من إقامة مسائل الاقتصاد والإحسان على هذا المعنى العميق الكريم لا على التبرع والتفضل والاختيار. . .
خطر العقليات المادية
لقد كثرت العقليات المادية المغالية التي تحاول أن تفسر الحياة دائما تفسيراً ماديا آليا. . مغفلة ذلك المعنى الإنساني العظيم الذي يتصل بالحق ومعاني المروءة والإيثار والنبل، ولا يكون المرء إنسانا إلا بسيطرة ذلك المعنى على فكرة وروحه. . هذه العقلية أعظم نماذجها هم اليهود. وقد انتقلت فلسفتهم المادية في غلوها إلى جميع الأمم. فهم ليسوا الآن ممثليها وحدهم. .
نعم إن للمادة آثاراً كبرى في الحياة الإنسانية، ولكنها يجب ألا تكون المحور الوحيد لسياستها العليا كما هي الحال الآن. . .
عبد المنعم خلاف