مجلة الرسالة/العدد 604/القصص
→ من كتاب الحياة | مجلة الرسالة - العدد 604 القصص [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 29 - 01 - 1945 |
الجارم البريء
للأستاذ حبيب الزحلاوي
توهمت أني الشرقي المتأمرك الوحيد بين ركب الباخرة التي بعث بها رئيس روزفلت إلى الشرق لتعود بالأمريكيين إلى ولاياتهم المتحدة قبل أن تقطع الطريق عليهم الحرب الوشيكة الوقوع بين أمريكا واليابان وحليفتها. توهمت ذلك، لأني لم أر ساعة رفعت الباخرة مراسيها وأخذت تبتعد عن الميناء مودعاً واحداً يلوح بمنديل، ولا بصراً واحداً رنا لراكب واحد من ركاب هذه الباخرة التي ستشق طريقها بين عجاجات الجحيم المستعرة بين أنصار الحرية وأشياع الفردية.
ألقيت بالنظرة الأخيرة على ميناء بيروت، ولما اختلطت الرؤى، وصرت لا أميز بالعين المجردة إلا أشباح جبال لبنان الضاربة قممها فوق الغيوم دون أشجار الصنوبر الخالدة، طفقت أرود الباخرة أتطلع إلى ركابها الأمريكيين.
إن روح الجماعية أصيلة في خلق الأمريكان، تستمليهم المغريات كالفرنسيين، ويدفع بهم حب الاطلاع إلى معرفة ما خفي من الأمور، وما استتر من الأشياء وخفايا الناس أيضا، وهم لا يتورعون عن المراهنة على كل حدث أو خاطرة، فهذه الخاصة هي التي حفزت أكثر الركب، وقد تعارفوا وتآلفوا، إلى معرفة طوية رجل متأمرك آخر سواي، نفور جالس فوق كرسي مستطيل من كراسي الباخرة لا يجيب عن سؤال راغب، ولا يلتفت إلى طلب أي طالب، سيدة كانت أم رجلاً. وقد استعان هؤلاء الطلعات بي، وكانت رغبتهم في معرفة ازورار مواطني الشرقي تكاد تنقلب شهوة ملحاحاً أكثر لجاجة من حبه الرهان.
قالت لي فتاة رفافة البشرة: (أحسب صاحبك عاشقاً، لأن الحزن يجلل نفسه بوشاح من اليأس!! وقالت سيدة فقدت حيلتها في مغالطة نفسها لأقدار الزمن: (صاحبك هذا أقوى الغرام وهذه حالة تنتاب الكهول حين يشعرون بالهرم) وقال شيخ: (قد يكون سبب حزنه عدم إتمامه بناء القصر الذي بناه في قريته فتركه يعشش في الخفافيش والبوم وعاد إلى أمريكا يجمع الدولارات ليتم بناءه) ولكمني في بطني (وهو يضحك) لكمة لولا تعود بطون الأمريكان تحملها لأفرغت ما فيها من كل منفذ. وقال آخر يتعمد الرصانة: (الجنسية الأمريكية للبنانيين حصانة تقي أطماعهم من طغيان إخوانهم الأقوياء)، فقالت الفتاة الصبية مخاطبة هذا المعترض، كنت دائماً يا عمي العزيز تكبر في اللبنانيين مقدرتهم في شق طريقهم للحياة، برغم تحاملك عليهم. قلت وقد قطعت على هؤلاء النقاد حبل استرسالهم: (هذا بحث في خصال قومي سأحاسبكم عليه في ظرف مناسب، أما الآن وغايتكم معرفة صدوف مواطني عنكم، فأني أتكفل بإشباع رغبتكم وإرضاء فضولكم).
البحر والوحدة أنجح دواء للشفاء من لوعة الحزن، بل لا حرج على القائل: (إذا أنطلق لساني المحزون بالشكوى فقد زال نصف دائه، وإذا لقيت شكواه قلباً واعياً انتقلت إليه) لقد استطعت بوسائلي الخاصة حل عقدة لسان هذا الحزين وهو من مدينة في لبنان اشتهر سكانها بالفطانة والذكاء، وعرفوا بالصلابة والعناد والأريحية والشمم لتأصل صفات الحرية فيهم فقال لي:
أتعرف حي البرازيلي في زحلة؟
قلت: أعرف الأبنية الجميلة المزخرفة القائمة على ضفاف البردوني!
قال: يوجد في عاصمة البرازيل حي يشبه في هندسة البناء يدعى الحي الزحلي.
قلت: ما علاقة هذا بذاك؟
قال: لست أبالغ إذا قلت لك إن جل طلاب الكلية الشرقية في تلك المدينة كانوا يتوجهون وجهة الهجرة إلى البرازيل، ولم يكن يجول في خواطرهم إلا نيل شهادة الدراسة والرحيل إلى البرازيل واللحاق بإخوان سبقوهم إليها، وهمهم العمل والكسب يبنون بناية جديدة في الحي الزحلي في البرازيل ثم العودة إلى زحلة يشيدون قصراً فخماً في الحي البرازيلي الفخم.
قلت: أعرف روح المغامرة في الزحليين دون سواهم من المهاجرين من لبنان.
قال: ما كدت أفوز بالشهادة المدرسية حتى رغبت إلى والدي أن يأذن لي بالسفر إلى البرازيل وقد وافقا مكرهين.
كانت الباخرة التي أقلتني آنذاك تعج بمئات من المهاجرين أمثالي، وكانت مناديل المودعين ترفرف كأجنحة الحمام، والعيون ترنو بين ساهمة ودامعة، والقلوب تخفق حنان وحب ورجاء.
كنت مشرد اللب ساعتذاك، أنظر إلى أمي وأبي بعين الولد البار، وأنظر إلى فتاة كانت بجانبهما بعين قلبي، لم تكن الفتاة غريبة عني، بل كانت من أقاربي الأبعدين، وقد جاءت من (كفر شيسما) خصيصاً لوداعي، كانت معرفتي بها بسيطة، ومحدودة، أما في ذلك الموقف، موقف الوداع، فقد انفتحت لها جوارحي فأحسست فجأة بأن كل ذرة من كياني الذاتي تدعوني إليها، وأنها هي هي المتممة لتكامل وجودي في الحياة، فوثبت على غير وعي وثبة قلب محفوز، وأخذت أدفع الناس حتى شققت طريقي إلى سلم الباخرة، فهرولت نحو والدي، فأخذت يد الفتاة بيدي اليمنى ويد أمي اليسرى، وقلت لوالدي هاك (أنيسة) خطيبتي بل زوجتي بالروح، احتفظا يا والدي بها. لن يطول غيابي. سأقتحم البحر، وأشق المنجم حتى أصل إلى الذهب أقتلعه من أصوله أقدمه عربوناً للزواج من حبيبتي (أنيسة) هذه. وقبلت جبينها قبلة خاطفة فيها كل الدوافع والبواعث والحوافز.
كان يتخلل حديثنا فترات ينقطع فيها الحديث لإشعاله لفافة أو مسح جبين للاستذكار، أو مشاهدة دارعة كقلعة تترنح، أو غواصة تطفو وتغوص، أو أسراب من طائرات تهبط وترتفع واحدة منها للاستكشاف.
قال محدثي: غمر البحر معالم الأرض، ولم تعد العين ترى ألا قبة مكورة فوق وجه الماء، وكنت أرى بعين البصيرة وجه (أنيسة) الصبوح، وعينيها الصافيتين الناعستين تدفعاني دفعاً إلى الأرض الجديدة التي سأنبش تربته كالخلد وأقضم خيراتها كالجراد
بدت منابت الأمل في نفسي تمتد سوقها، وتبرز براعمها، وتورق وتزهر، واخذ خيال السعادة يحوطني بشملة من فرح تريني وجه المستقبل نظراً بساماً، فوددت لو أستحث الباخرة أن تثب فوق اليم فتجتاز المحيط ساخرة من أنوائه وعواصفه فأصل طفرة إلى حلبة الجهاد والعمل. ثم صمت هنيهة وقال:
لقني مواطني في البرازيل بضع كلمات من لغة البلاد، وبعد أيام معدودات ملأت أكياسي بأنواع من جوارب ومناديل وأدوات زينة أعطانيها تاجر سوري، أطوف بها شوارع عاصمة البرازيل أقرع أبواب المنازل أعرض على رباتها بضاعتي. كنت أحس الشفقة بي والضحك من رطانتي واغتفار جرأتي وفضولي.
كان تقبل البرازيليين إياي على هذا النحو يحز في كبريائي فانتقلت إلى الضاحية. جبت الريف وتوغلت في القرى النائية أسعى على إقدامي، وكلما نقصت بضاعتي كنت أرسل في طلب سواها من عميلي الذي استأمنني ولا ضامن لي عنده سوى أني مواطنه!؟
لله در الأمريكاني يا صديقي من عطوف شفوق! ولكنه طلعة مغامر مراهن تستضيفه فيطعمك ويؤويك، لا عن كرم ولا بدوات خاطر، بل عن فضول حافز ملح إلى الاستطلاع والمعرفة.
(البقية في العدد القادم)
حبيب الزحلاوي