مجلة الرسالة/العدد 602/من مذكرات عمر بن أبي ربيعة
→ الدين في معترك الشكوك | مجلة الرسالة - العدد 602 من مذكرات عمر بن أبي ربيعة [[مؤلف:|]] |
الحياة صادقة! ← |
بتاريخ: 15 - 01 - 1945 |
صديق إبليس. . .
للأستاذ محمود محمد شاكر
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
وذهبت صهباء وبقيت أترقبها ثلاث أيام ولياليها وهي لا تجئ، حتى إذا كانت ليلة خرجت أنت إلى الطائف آخر خرجة، جاءتني صهباء في جنح العتمة ودخلت هي وظمياء فقالت: لقد أطاع مولاي في مرضاتك، فإن أذنت جئت به الساعة. قلت لها: لبثي حتى يأوي جوان. فلما كان بعد هداة الليل وفقدنا الصوت، ذهبت صهباء ساعة ثم جاءت ودخل على رجل أسمر طوال نحيل البدن معروف الوجه ابيض اللحية أشعت أغير، كأن عينيه جمرتان تقدان في وقبين غائرين كأنهما كهفان في حضن جبل ونضر في عيني فوالله لتمنيت أن الأرض ساخت بي ولم أنظر في عينيه، فما هو إلا أن سلم حتى سمعت نغمة صوت شجي كحنين الوالهة، فوالله لتمنيت أن يتكلم ما بقيت. ولم أدر ما أقول ودهشت وهلك صوتي، فنظرت فإذا هو يبتسم إلي ثم يقول، (يا أم جوان لقد سعيت إلى بيتك وما سعيت من قبل إلى بيت إلا إلى هذه البنية (يعني الكعبة). وقد جاءتني فتاتي صهباء تحدثني عما كان منها إليك، وقبيح بأمري أفزع قلباً ساكناً أن يدعه أو يطمئن، ولو كنت أعلم أنها مفتوقة اللسان، ما حدثتها بشيء أبدا). قالت كلثم: فكأن الله جعل لي قوة سيل جارف فقلت له: كذبت يا رجل وكذبت بنت الأصفر ووالله لئن لم تأتني ببرهان ما تقول، لتركت شيبتك هذه أباديد في أكف صبيان مكة. ووالله لو صدقت لأسرتك ولأكفينك ما عشت. فقال: (جزاك الله خيراً يا أم جوان! أما إذ كذبتي فآيتي أن تذهبي فتستخرجي من جوف حقيبة عمر الحمراء بين جلدها ومفرشها كتاب عبد الله بن هلال الفاسق بخط يده، قد جعله تميمة لزوجك أن لا يراه أحد إذا خرج إلى مأوى الفتاتين بالطائف، ومعه منديل ابن هلال الأزرق ذو الوشى، يمسح به وجهه قبل أن يرحل). فما كذبت أن طرت إلى ما زعم، فوالله لقد صدق وبر
(قال عمر)، قلت: ما تقولين؟ قالت: صه يا عمر فوالله لقد صدق وبر، وقلت له، أيها الشيخ أفأنت تعلم أين تجد هاتين الخبيثتين؟ قال: لا. قالت: فما تزعم فتاتك من أن لا شيء يفعله الخبيث ابن هلال إلا كان عندك خبره؟ قال صدقت. قلت: فكيف لا تعلم؟ قال: إنه أخبث والأم وأضل وأدهى وأقرب إلى إبليس وبنته بيذخ ذات العرش من أن أطيق معرفة ما أنقطع بيني وبينه. قلت: وما بيذخ ذات العرش؟ قال: إنها ابنة إبليس التي اتخذت عرشها على الماء، حولها سواد غلاظ يشبهون الزط، حفاة مشققو الأعقاب، ولا يصل إليها من قدم لها القرابين من حيوان ناطق وغير ناطق، وترك لها من الصلاة والصوم، وقدم إليها من ذهب وفضة واللآلئ حتى ترضى، فإذا فعل ما تريد وصل إليها فسجد تحت عرشها، فتخدمه من يريد وتقضى حوائجه. قلت: وما علمك بهذا أيها الشيخ؟ قال: ذاك شيء قد كان والله هو التواب الرحيم. قلت: قد كان! قال: نعم أما اليوم فلا، وما يأتيني بأخبار اللعين الزندبق ابن الهلال إلا صاحب من الجن قد آمن بإيماني، ولكنه محجوب عن الأسرار. قلت: أفلا تكرمني أيها الشيخ فتسأل صاحبك أن يحتال ليعرف؟ قال: لا أدري. ولكن ائتيني بطست أناطق صاحبي.
(فأتيته بطست فكبه، وأخرج من كمه غلالة سوداء فنشرها عليه، وأمر بالفتائل فأطفأت، وطلب جمرات في طبق. فلما تم ذلك اخرج عوداً من المنديل فطير دخانه، وجلس وأختبئ، وإن عينيه لتبصان في الظلماء، وجعل يتمتم ويدندن ويهمهم حتى كدت أنشق، ثم قال: يا زوبعة! فإذا صوت يأتي كأنما يخرج من جوف بثر شطون يقول: لبيك أبا الحسن! قال: أتدري أين أنا؟ قال: بلى دريت! قال: إنه حضرني من الأمر ما تعلم، أفأنت بمدركي بمأوى الخبيثتين قينتي أبن هلال؟ قال: لقد علمت مالي ببيذخ طاقة بعد أيماني بالله ورسوله قال: أفلا تحتال؟ قال: تباً لك من شيخ سوء أترومني أن أرتد إلى الكفر بعد الإيمان؟ قال: مهلاً زوبعة! أما لك من صديق تزفق به حتى تستل منه السر؟ قال زوبعة: هذا فراق بيني وبينك أيها الخبيث. ووالله ما تزكت السحر إلا وفي قلبك رجعة إليه. خسأت أيها الفاجر!). وإذا الطست يتحرك فينقلب فأرى كمثل أم جوان، لقد رأيت، ومالي من حيلة. قلت: احتل لي وقاك الله السوء، ولا والله لا تخرج من هذه الدار حتى تعطيني المواثيق بأن تفعل ما أريد. قال: يا أم جوان، وكيف بعذاب الله؟
(قالت كلثم: فوالله ما أن سمعت مقالته حتى خانتني قدماي فوقعت أبكي ويرفض دمعي كلاذع الجمر، ورأيت الدنيا قد أطبقت علي، وما هو إلا أن أنشج بالبكاء. فدنا الشيخ وأسر إلى أن أبشرى أم جوان، فوالله ما أدعك أبداً حتى يطمئن قلبك، واصبري غداً تأتيك الصهباء. وما أفقت حتى رأيتني كالمأخوذة وظمياء تنضح وجهي بآلاء. وبقيت الليل كله أطويه ساعة بعد ساعة حتى أصبح الناس، وقلبي يرجف، ودمعي ينهل، وكأنه في سمعي دوى النحل، حتى إذا قام قائم الظهيرة جاءت صهباء فقالت: يقول لك مولاي إنه يبني رفرفين من الديباج، وعشرة أثواب من الإبريسم، وبردين كذابين من الخز، وخمسين لؤلؤة لم تثقب. فما كذبت أن أعطيها ما طلبت. وغابت يومين ثم جاءتني مع المشي وقالت: يقول لك مولاي: لو أطلق أن لا يكلفك لفعل، ولكن الأمر قد استعصى عليه بعد توبته، وأن بيذخ (بنت إبليس) لتتقاضاه كفاء ما عصاه في طاعة الله. وإنها قد طلبت أن يذبح لها من الذبائح ما يسيل على جنبات الغور (مسكن الجن) حتى ترضى. قلت: كم يريد مولاك؟ قالت: بين المائتين والثلاثمائة. فوالله ما كذبت أن أعطيتها. فما غابت إلا يوماً أو بعضه حتى جاءت تطلب المنديل الذي أعصب به رأسي، فما كذبت أن أعطيها. ثم جاءتني من الغد عند الأصيل، فقالت: يقول لك مولاي لا تصلي العشاء الآخرة الليلة حتى يؤذنك. فوالله لقد كبر على ولكني أطعته، وإذا أنا أسمع في سدفة الفجر صوتاً كالمتحدر ما بين جبلين يقول: قومي إلى صلاتك. فقمت فصليت وما كدت حتى أذن الفجر. فلما كان بعد أيام جاءتني صهباء تقول: أبشرى! سيأتي مولاي الليلة. قلت: مرحباً به من ضيف. فلما دخل الليل وسكن الناس، جاء الشيخ لميعاده فسلم وسكت ثم قال: انظري ألي يا أم جوان. فنظرت في عيني كالنار المشعلة في الليلة الدامسة، وجعل يمر يده بين عيني وعينيه، فكلما احتجبتا عني أظلمت الدنيا في عيني، وإذا وقعت عيني في عينيه أضاء ما بيني وبينه كالسراج المتوهج، فوالله ما شعرت إلا وظمياء تنضحني بالماء حتى أفيق. قلت: يا ظمياء أين الشيخ؟ قالت: لقد أذنت له أن ينصرف بعد أن أعطيه من المال ما طلب. قلت: تباً لي أين كان عقلي؟ وكم أعطيته؟ قالت: ألف دينار ذهباً، وواعدك أن يأتيك بعد سبعة أيام بمأوى الخبيثتين.
(قال كلثم: وهذا اليوم ميعاده، ووالله لئن صدقتني يا عمر لقد حفظتك ما عشت في قلبي).
(قال عمر بن ربيعة)؛ (فوالله ما كنت أدري ما أقول، إلا أني قلت لها: أصدقك؟ لقد ضلت إذن أيتها الحمقاء). (أنا حمقاء أيها الفاجر الفاسق! ثم قامت إلى صوانها فاستخرجت منه شيئاً ونشرته لعيني، فإذا سرقه من حرير أبيض عليها صورتان، فما تأملتها إلا كانتا والله قينتي ابن هلال حيث رايتهما وسمعتهما بالكوفة، ولقد كانتا في السرقة اجمل وافتن وأحب إلي مما كانتا. قلت: إنهما والله يا كلثم قينتا ابن هلال! قالت: وصدق الشيخ أيها الفاجر! أتدع حرائر بني مخزوم إلى الخبيثات الدنيئات من بغايا الكوفة، تخالف إليهن تحت الليل والسحر والكفر وعبث الشيطان بك وبعقلك.
(قال عمر): وإذا جوان بالباب ينظر إلى الصورتين، ثم يتقدم ويقول: ما بك يا أماه: فتقول: هذا الخبيث الفاجر يدع الحرائر من بيني مخزوم ملطمات ويختلف إلي زواني الكوفة يقتادهن إليه الخبيث ابن الهلال بالسح والطلاسم. وهذا منديله يمسح به الغبار وجهه لا يراه الناس ساعياً إلى فجوره.
(قال عمر): وجعلت نقص على جوان قصة ما كان، وهي تنتظر إلى كاللبؤة المجرية ريعت أشبالها، فما كادت تفرغ حتى جاءت ظمياء معجلة تقول: مولاتي، صهباء بالباب. قالت كلثم: إيذني لها. فما كدت أراها حتى فزعت قائماً إليها وأخذتها بغدائرها: (وإنك لأنت أنت أيتها الشيطانة؟) فأنقضت على كلثم تذوذني عنها وتقول: دعها أيها الفاجر! قلت: إنها فتن جارية الخبيث الفاجر عبد الله بن هلال، ولطالما خدمتني الكوفة! أليس كذلك يا فتن؟ قالت: ارحمني يا سيدي فما أنا إلا جارية يائسة مسكينة يركبني هذا الشيطان بخبثه وخبائثه. قلت: وأين أبن هلال صديق إبليس وصاحبه قالت، ما تدركه يا مولاي! فقد أرتحل الليلة وتركني أتبعه والثقل وقلت: وما جئت تبغين! قالت: أرسلني أطلب بع المال من مولاتي.
قالت كلثم: دعها يا عمر الآن، لقد ضللت إذن وبئس ما فعلت، ووالله لقد خدعني الشيطان ابن هلال. أين كان عقلي!
فقال جوان: والله يا أمه! لقد كان فجور أبي بامرأتين خبيثتين من بغايا الكوفة، احب إلى من شركك بالله وكفرك! قومي يرحمك الله مما كان من ضلالك وكفرك. . .)
محمود محمد شاكر