مجلة الرسالة/العدد 601/التصوير الفني في القرآن
→ نظام الشورى في الإسلام | مجلة الرسالة - العدد 601 التصوير الفني في القرآن [[مؤلف:|]] |
شهيد كربلاء ← |
بتاريخ: 08 - 01 - 1945 |
للأستاذ سيد قطب
التصوير هو الطريقة المفضلة في تعبير القرآن فهو يعبر بالصورة المحسة المتخيلة عن المعنى الذهني، والحالة النفسية، وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية، وعن الحادث والمشهد المنظور، كلها سواء في طريقة التعبير المحسوس. وانه ليرتقي بالصورة التي رسمها فيمنحها الحياة الشاخصة أو الحركة المتجددة، فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة، وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد، وإذا النموذج الإنساني شاخص حي، وإذا الطبيعة البشرية مجسمة مرئية. فأما الحوادث والمشاهد والقصص، فيردها شاخصة حاضرة، فيها الحياة، وفيها الحركة، فإذا أضاف إليها الحوار فقد استوت لها كل عناصر التخييل. فما يكاد يبدأ العرض حتى يخيل المستمعين نظارة، وحتى ينقلهم نقلا إلى مسرح الحوادث الأول، الذي وقعت فيه أو ستقع، حيث تتوالى المناظر وتتجدد الحركات، وينسى المستمع أن هذا كلام يتلى ومثل يضرب، ويتخيل انه منظر يعرض، وحادث يقع، وأمر يكون:
فهذه شخوص تروح على المسرح وتغدو، وهذه سمات الانفعال بشتى الوجدانات المنبعثة من الموقف، المتساوقة مع الحوادث، وهذه كلمات تتحرك بها الألسنة، فتتم عن الأحاسيس المضمرة. . .
إنها الحياة هنا. وليست حكاية الحياة
فإذا ذكرنا أن الأداة التي تصور المعنى الذهني والحالة النفسية، وتشخص النموذج الإنساني أو الحادث المروي، إنما هي ألفاظ جامدة لا ألوان تصور، ولا شخوص تعبر. . . أدركنا سر الإعجاز في تعبير القرآن.
والأمثلة على هذا الذي نقول هو القران كله، حيثما تعرض لغرض من الأغراض التي ذكرناها: حيثما شاء أن يعبر عن معنى مجرد أو حالة نفسية أو صفة معنوية أو نموذج إنساني، أو قصة ماضية، أو مشهد من مشاهد القيامة، أو حالة من حالات النعيم والعذاب، أو حيثما أراد أن يضرب مثلا في جدل، بل حيثما أراد هذا الجدل اطلاقا، واعتمد فيه على الواقع المحسوس، أو المتخيل المنظور.
وهذا هو الذي عنيناه حينما قلنا: (إن التصوير هو الطريقة المفضلة في تعبير القرآن).
فليس هو حيلة أسلوب، ولا فلتة تقع حيثما اتفق. إنما هو مذهب مقرر، وخطة موحدة، وخاصية شاملة. يفتن في استخدامها على طرائق شتى، وفي أوضاع مختلفة. ولكنها ترجع في النهاية إلى هذه القاعدة الكبيرة. قاعدة التصوير.
ويجب أن نتوسع في معنى التصوير حتى ندرك آفاق التصوير في القرآن. فهو تصوير باللون، وتصوير بالحركة - عن طريق التخيل - كما انه تصوير بالنغمة تقوم مقام اللون في التمثيل. وكثيرا ما يشترك الوصف، والحوار، وجرس الكلمات، وإيقاع الجمل، وموسيقى السياق، في إبراز صورة من الصور، تتملاها العين والاذن، والحس والخيال، والفكر والوجدان. وهو تصوير حتى من عالم الأحياء، لا لوان مجردة وخطوط جامدة تقاس الأبعاد فيه والمسافات بالمشاعر والوجدانات. فالمعاني ترسم وهي تتفاعل في نفوس آدمية حية، أو في مشاهد طبيعية تخلع عليها الحياة. . والآن نأخذ في ضرب الأمثال
1 - يريد أن يعبر عن معنى: أن الذين كفروا لن ينالوا القبول عند الله ولن يدخلوا الجنة إطلاقاً)، وان دخولهم فيها مستحيل. وهذه هي الطريقة الذهنية للتعبير عن هذه المعاني المجردة، ولكن أسلوب التصوير يعرضها في الصورة الآتية:
(إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها، لا تفتح لهم أبواب السماء، ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط) ويدعك ترسم بخيالك مشهدا لتفتح أبواب السماء، ومشهدا أخر لولوج الحبل الغليظ في ثقب الإبرة الصغيرة. (ويختار من أسماء الحبل الغليظ اسم (الجمل) خاصة في هذا المقام!). ويدع للحس أن يتأثر عن طريق الخيال بالمشهدين ما شاء له التأثير، ليستقر معنى (القبول) ومعنى (الاستحالة) في أعماق النفس، وقد ورد إليها من طريق العين والحس - تخييلا - وعبرا إليها من منافذ شتى، لا من منفذ الذهن وحده، في سرعة الذهن التجريدية.
2 - ويريد أن يوضح حالة نفسية لتزعزع العقيدة، حيث لا يستقر الإنسان على يقين، ولا يحتمل كل ما يصادفه من الشدائد غفي سبيل عقيدته القوية، مبتعدا بها عن ملابسات الحياة اليومية، مرتفعا بها عن مقاييس الربح والخسارة. فإذا هو يرسم لها هذه الصورة المحسوسة.
(ومن الناس من يعبد الله على حرف، فأن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه. خسر الدنيا والآخرة. ذلك هو الخسران المبين)
إن الخيال ليكاد يجسم هذا (الحرف) الذي يعبد الله عليه هذا (النموذج) من الناس. انه يتخيل الاضطراب المادي لهم وهم يتأرجحون بين الثبات والانقلاب، وإن هذه الصورة لترسم حالة التزعزع النفسي، بأوضح مما يؤديه وصف التزعزع لأنها تنطبع في الحس، وتتصل منه بالنفس
وإني لأذكر الآن تلك الصورة التي ارتسمت في خيالي وأنا طفل صغير، أقرأ القران في المدرسة الأولية حينما وصلت إلى هذه الآية. لقد خيل لي رجل على مكان مرتفع ذي حرف؛ وهو قائم يصلي، ورجلاه لا تثبتان على حرف المكان، فهو يتأرجح في كل حركة، وهو معرض للسقوط في أي لحظة!
ترى يبعد تصوري الآن كثيرا عن هذه الصورة الساذجة؟ ما أظن. فالاختلاف الذي طرأ، وهو مجرد علمي اليوم، بأن هذا مثل يضرب لا حقيقة تشهد.
وذلك هو إعجاز التعبير، الذي تتقارب في إدراكه شتى المدارك، ويصل كل منها إلى صورة حية مع اختلاف الإفهام!
3 - ويريد أن يرسم نموذجاً إنسانيا للمكابر المعاند في كل زمان ومكان. فإذا هو يرسمه في يسر وسرعة ودقة على هذا المنوال:
(ولو فتحنا عليهم باباً من السماء، فَظَلوا فيه يَعْرُجوُنَ. لقالوا: إنما سُكرَت أبصارنا، بل نحن قوم مسحورون)!
أو:
(ولو نزّلنا عليك كتاباً في قرطاس، فلمسوه بأيديهم. لقال الذين كفروا: إنْ هذا إلا سحر مبين)!
فيبرز من خلال هاتين الصورتين، نموذج إنساني معهود. لهؤلاء الذين يلجون في المكابرة على الرغم من كل برهان. ولكن القرآن لا يقول كهذا الذي نقول: يلجون في المكابرة على الرغم من كل برهان - انه ليرسم لهم صورة شاخصة أوضح من كل تعبير، لأنها تلمس الحس والضمير.
4 - ثم هاهو ذا يصور حادثاً وقع: مشهداً من مشاهد الهزيمة. فيرسم المشهد كاملاً تبرز فيه الحركات الظاهرة، والانفعالات المضمرة، وتلتقي فيه الصورة الحسية بالصورة النفسية كأنما يمثل الحادث من جديد، ويقع مرة أخرى كما وقع في المرة الأولى، دون أن يغفل منه قليل ولا كثير:
(يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم، إذ جاءتكم جنود، فأرسلنا عليهم ريحاً وجنود لم تروها، وكان الله بما تعملون بصيراً. إذ جاءوكم من فوقكم ومن اسفل منكم، وإذ زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وتظنون بالله الظنونا. هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا. وإذ يقول المنافقين، والذين في قلوبهم من مرض: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا. وإذ قالت طائفة منهم: يا أهل يثرب لا مقام لكم، فارجعوا. ويستأذن فريق منهم النبي يقولون: إن بيوتنا عورة
- وما هي بعورة - إن يريدون إلا فراراً).
فأية حركة نفسية أو حسية من حركات الهزيمة، وأية سمة من سمات الموقف الكثيرة، لم يسجلها هذا الشريط الدقيق المتحرك المساوق لحركة الموقف الأصيل؟
5 - وهذا مشهد واحد من مشاهد القصص الكثيرة، مشهد في قصة الطوفان.
(وهي تجري بهم في موج كالجبال) وفي هذه اللحظة تتنبه في نوح عاطفة الأبوة. فان هناك ابنا له يؤمن، وانه ليعلم انه مغرق مع المغرقين. ولكن هاهو الموج يطغي، فيتغلب (الإنسان) في نفس نوح على (النبي) ويروح في لهفة وضراعة ينادي ابنه:
(ونادى نوح ابنه - وكان في معزل - يا بني اركب معنا، ولا تكن من الكافرين).
ولكن البنوة العاقة لا تحفل هذه العاطفة، والفتوة المغرورة تعتمد على القوة الشخصية.
(قال: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء. قال: لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم).
وفي لحظة تتغير صفحة المشهد في تعبير خاطف، يصور الموجة العاتية تطغى على كل شيء: (وحال بينهم الموج. فكان من المغرقين).
إن السامع ليمسك أنفاسه في هذه اللحظات القصار: (وهي تجري بهم في موج كالجبال؛ ونوح الوالد الملهوف، يبعث بالنداء تلو النداء، وابنه الفتى المغرور، يأبى إجابة الدعاء، والموجة العاتية تحسم الموقف في لحظة، فكان من المغرقين).
وإن الهول هنا ليقاس بمداه في النفس الحية - بين الوالد والمولود كما يقاس بمداه في الطبيعة، حيث يطغي الطوفان، على الذري والوديان وإنهما لمقياسان متكافئان!
6 - والآن فإلى مشهد من مشاهد القيامة:
(يوم يدع الداع إلى شيء نكر. خشعاً أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر. مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر).
فهذا مشهد من مشاهد الحشر مختصر سريع، ولكنه شاخص متحرك، مكتمل السمات والحركات: هذه جموع خارجة من الأجداث في لحظة واحدة كأنها جراد منتشر - ومشهد الجراد المعهود يساعد على تصور هذا المشهد العجيب - وهذه الجموع، تسرع في سيرها نحو الداعي، دون أن تعرف لم يدعوها، فهو يدعوها إلى (شيء نكر) لا تدريه (خشعا أبصارهم) وهذا يكمل الصورة ويعطيها السمة الأخيرة. وفي وسط هذا التجمع والإسراع والخشوع (يقول الكافرون: هذا يوم عسر).
فماذا بقى من المشهد لم يشخص بعد هذه العبارات القصار؟
7 - فإذا طرق القرآن موضوع الجدل حول إحياء الموتى مثلا، صاغه في قالب التصوير المؤثر، ولمس به الحس والوجدان، فيما ترى العين وفيما يستشعر الضمير:
(الله الذي يرسل الرياح، فتثير سحابا، فيبسطه في السماء كيف يشاء ويحمله كسفاً، فترى الودق يخرج من خلاله؛ فإذا أصاب به من يشاء من عباده، إذا هم يستبشرون. وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لَمُبْلِسين. فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحي الأرض بعد موتها. إن ذلك لمحي الموتى، وهو على كل شيء قدير).
هكذا مشهد بعد مشهد: إرسال الرياح. إثارة السحاب. بسطه في السماء. جعله متراكما. خروج المطر من خلاله. نزول المطر، استبشار من يصيبهم بعد يأسهم إحياء الأرض بعد موتها. . . لينتقل من هذه المشاهد المتتبعة ببعد استعراضها للعين والخيال، وبعد تركها تؤثر في النفس على مهل إلى: (إن ذلك لمحي الموتى وهو على كل شيء قدير) في انسب اللحظات النفسية بهذا التقرير
هذه نماذج قليلة لطريقة القرآن العامة في التعبير عن جميع الأغراض، سواء كان الغرض تبشيراً أو تحذيرياً. قصة وقعت أو حادثا سيقع. منطقا للإقناع. أو دعوة للأيمان. وصفا للحياة الأخرى. تمثيلا لمحسوس أو ملموس. إبرازا لظاهر أو لمضمر. بيانا لخاطر في الضمير أو لمشهد منظور.
هذه الطريقة الموحدة. هذه القاعدة الكبيرة. هي: (التصوير) في أرقى آفاق التصوير.
سيد قطب